Home Slider site كيسنجر مجدّدا.. المراوغة وحماية الليبرالية – د. محمد الشرقاوي
ينطلق وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر (97 عاما)، في مقالته الاستشرافية، في صحيفة وول ستريت جورنال في 3 أبريل/ نيسان الحالي، من فرضية تبسيطية، تتنبأ بأنّ “فيروس كورونا سيغيّر النظام العالمي إلى الأبد”، وهي بمثابة تحصيل حاصل، بالنظر إلى حالة الجمود الشامل، وتوقف ماكينات الاقتصاد العالمي، والتيهان السياسي لدى الحكومات والمنظمات الدولية في احتواء تفشي الجائحة الجديدة التي جعلت المواطنين في أغلب الدول في حجر صحيّ منزلي مفتوح. ويضرب كيسنجر، وهو أحد المتشبعين بـ”الواقعية السياسية” التي كرّسها خلال تولّيه دوريْ مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية بين 1969 و1977 خلال حقبة الحرب الباردة، مقارنةً مثيرة عن تشابه “الجو السّوريالي” الذي أثارته جائحة كورونا هذا العام وما شعر به هو شخصيا قبل 76 عاما عندما كان شابّا مجنّدا في فرقة المشاة 84 في الجيش الأميركي أواخر عام 1944، بعد ستّ سنوات من فراره مع أبويه من ألمانيا إلى لندن قبل الاستقرار في نيويورك في سبتمبر/ أيلول 1938.
ثمّة إحساس “بالخطر العظيم”، كما يصفه كيسنجر، بأنه لا يستهدف أي شخص بعينه، ولكنّ الهجوم المدمّر “كان يتمّ بشكل عشوائي، وهناك فرقٌ مهمّ بين تلك الفترة البعيدة وحقبتنا الراهنة. عندئذ، تمّ تدعيم القدرة الأميركية على التحمّل وقتها بهدف وطني نهائي. الآن ونحن في دولة منقسمة على ذاتها، تدعو الضرورة إلى حكومة تتمتع بالكفاءة والفعالية، للتغلب على العقبات التي لم يسبق لها مثيل في حجمها ونطاق تأثيرها في العالم”. ولكنّ كيسنجر يفضّل عدم المحاسبة أو تحمّل المسؤولية عن فشل مؤسسات بلدان عديدة، بعد أن ينتهي وباء فيروس كورونا، بل يحاول القفز بجرّة قلم بالقول: “لن يهمّ ما إذا كان حكم الفشل هذا عادلا بشكل موضوعي”.
نصيحة الخطوات الثلاث:
ينتقل كيسنجر بسرعة من “الخطير العظيم” إلى نبرة الأمل بالمستقبل الواعد، بعد مرور الغمامة “الكورونية” ثقيلة الظل، ويحثّ على الحفاظ على “الثقة العامة ومدى حيويتها بالنسبة للتضامن الاجتماعي في علاقة المجتمعات مع بعضها بعضا، وبينها وبين السلم والاستقرار الدوليين”. وتنمّ عباراته المنتقاة بعناية عن محاولة تمهيد الأرضية الذهنية والنفسية لتفادي النقاش حول من المسؤول عن فشل النظام الوطني في جلّ الدول والنظام الدولي الذي استقرّت له موازين القوة بعد النشوة العارمة التي خالجت الجمهوريين وبقية التيارات المحافظة واليمينية في الولايات المتحدة وبقية الغرب، بكسب المعركة مع المعسكر الاشتراكي، عقب تحطيم جدار برلين في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1989.
أحترس دوما من مثل هذا اللغة الموشّاة بكلمات “الحكمة” المفتعلة و”الدروس والعبر” حسب سياق المقام. وأؤمن بأنّه عندما يتفاءل دعاة المثالية، فلا خوف على غدك. ولكن عندما “يتفاءل” أنصار الواقعية السياسية، فابحث عن تأمين حياة إضافي! يقرّ كيسنجر بفشل الولايات المتحدة في معركتها مع جائحة كورونا، لكنّه يتفادى التعليق على تهافت حكومة الرئيس ترامب على إمدادات الكمامات من الصين، ولو عن طريق القرصنة في مطار شنغهاي، أو محاولة البيت الأبيض أيضا التحايل على الشركة الألمانية “كيورفاك” لصنع الأدوية الحيوية لتأمين اللقاح، واحتكاره “للولايات المتحدة فقط” مقابل مليار دولار في منتصف الشهر الماضي (مارس/ آذار).
يعتمد كيسنجر أيضا مراوغة الواقع بأسلوب الانتقائية التاريخية في استحضار مثاليْن مثيرين، سلبا وإيجابا، لأخذ “العبرة منهما”، كما يقترح، من تاريخ السياسة الخارجية الأميركية منتصف القرن العشرين: خطة مارشال التي ساهمت في إعادة إعمار أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، ومشروع مانهاتن الذي طوّر الأبحاث العلمية التي أدّت إلى إنتاج القوة النووية في شقّيْها، المدني والعسكري، بين عامي 1942 و1964، تحت إشراف عالم الفيزياء روبرت أوبنهايمر. ثم يتدرج حديث كيسنجر إلى لغة الينبغيات لما يسمّيه “جهدا رئيسيا”، ينبغي أن تقوم به الولايات المتحدة الآن في ثلاثة مجالات، عقب الخروج من فترة الحجر الصحي:
أوّلا، الحاجة لدعم مرونة العالم في مواجهة الأمراض المعدية، وتطوير تقنيات جديدة لمكافحة العدوى واللقاحات المناسبة لـ”مجموعات كبيرة من السكان”، وهو يتفادى عبارة البشرية جمعاء أو سكان الأرض كافة. وتظل العبارة فضفاضة في المنحى المبطّن بأولوية الأميركيين أو مراعاة “الاستثناء الأميركي”، كما تكشفه حاليا حرب الكمّامات.
ثانيا، السعي إلى الشفاء من الجروح التي يعانيها الاقتصاد العالمي، وهو يعتقد أنّ “قادة العالم تعلّموا دروسا مهمة من الأزمة المالية عام 2008. بيد أنّ الأزمة الاقتصادية الحالية أكثر تعقيدا”.
وثالثا، حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي. ويكتب كيسنجر أنّ “القصّة التّأسيسية للحكومة الحديثة هي وجود مدينة مسوّرة يحميها حكّام أقوياء، أحيانا مستبدّون وأحيانا خيّرون، لكنّها حكومة قوية دائما بما يكفي لحماية الأفراد من أي عدو خارجي”. وتمتدّ تأويلات كيسنجر أيضا إلى الزعم بأن مفكّري عصر التنوير في القرن الثامن عشر في أوروبا، خصوصا في ألمانيا وفرنسا، أعادوا صياغة ذلك المفهوم، على أساس أن “الغرض من الدولة الشرعية هو توفير الاحتياجات الأساسية للشعب: الأمن والنظام والرفاهية الاقتصادية والعدالة”. ويذكر أن الأفراد لا يمكنهم تأمين هذه الأشياء بأنفسهم، فيما أثارت جائحة كورونا حاليا ما يعتبرها “مفارقة تاريخية بالعودة إلى المدينة المسوّرة في عصر يعتمد فيه الازدهار على التجارة العالمية وحركة الأفراد”.
ما يخفيه تفاؤل كيسنجر:
لا ينازع المرء في أهمية الخطوة الأولى التي تقتضي تطوير البحث العلمي والحماية من
الأمراض والأوبئة. هي معركة التحدّي مع وباء تصعب السيطرة على حركته عبر الحدود وبين القارّات، ويمثل تذكيرا مروّعا جديدا بمدى هشاشة الحياة البشرية في القرن الجديد. ولكن، يمكن اعتباره أيضا الوباء الأكثر ديمقراطية في عصرنا الحالي، لعدم التمييز ضدّ أي عرق أو جغرافيا أو أيديولوجية سياسية أو ثروة أو مستوى من التنمية أو التخلف. وكما قال أحد المعلّقين البريطانيين، “إنه لا يرحم ولا يستثني أحدا، لا إماما ولا طبيبا صينيا، ولا يراعي أي حدود وطنية. لذا، وحتى مع تراجع القادة الوطنيين عن ضمان طرق وطنية ذات إرادة في التعامل مع انتشاره، ينبغي أن تظهر إملاءات العلم والعقل. ومن دونهما، ليس هناك طريق آخر بديل للمضي قدما”.
وتثير الخطوتان، الثانية والثالثة، في نظر كيسنجر عدة أسئلة، ينبغي الحسم فيها قبل الخوض في ترميم النظام الاقتصادي الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه حاليا بين الحجر الصحّي وانسداد آفاق المستقبل المعيشي للبسطاء من ذوي الدخل المحدود. ويبدو أن كلمة “شفاء” الاقتصاد العالمي تنمّ عن مغالطة ضمنية، وكأنّ الطبيب يقول للمريض إنّك ستتعافى من مرضك من خلال طول استشراء المرض ذاته في جسمك. كيف تصبح النيوليبرالية ذاتها مؤهلة لعلاج ذاتها من أمراض الهرولة نحو الربح وتعاظم رأسمال على حساب مصلحة الفرد العادي، والأسرة المعوزة والمجتمعات الفقيرة؟ من المرتقب أن تفلس شركات ومقاولات صغيرة كثيرة في كل النظم الاقتصادية، شرقا وغربا. وستفقد الطبقة الوسطى قسطا آخر من قدراتها المالية، وسط تقلص مستوى استهلاكها ومساهمتها في حركية الاقتصاد.
مع تفاقم المضاعفات الصحية والانتكاسة الاقتصادية عبر أرجاء العالم، تنزلق الإنسانية عام 2020 إلى الأسفل. ويتحوّل الشعار الشهير للمنظر الليبرالي الرئيسي، آدم سميث “دعه يمرّ، دعه يعمل” إلى شعار مأساوي “ابق في بيتك، ومُتْ في بيتك”، فقد ظلت فرص الأميركيين مثلا في إمكانية فحص أجسادهم بشأن أعراض الفيروس ضئيلة جدا أسابيع ولا تزال كذلك مع اتساع نطاق الإصابات. ويختزل حاكم ولاية ماريلاند، لاري هوغان، التحدّي على المستوييْن، المحلي والفيدرالي، ويقرّ بأنه “ليس لدينا ما يكفي من وحدات الاختبار، وليس لدى أي ولاية أخرى، ولا الحكومة الفيدرالية إجابة مفيدة. نحن متخلّفون عن ركب انتشار الوباء، وستستمر هذه المشكلة”.
لن يمكن معرفة الآثار الضخمة لجائحة كورونا إلا عندما يتمكّن الأفراد من العودة إلى العمل والخروج إلى الأسواق وإنفاق المال، بحلول يوليو/ تموز أو أغسطس/ آب المقبلين. ويضع نموذج بلومبيرغ إيكونوميكس احتمالات الركود خلال العام المقبل عند نسبة 52%، وهي أعلى مستوى منذ 2009. ويقول جون نورمان الخبير في شركة إدارة الأموال الضخمة، جيه بي مورغن، في نيويورك، إنّ مؤشرات قيمة الأصول في الأسواق المالية تنذر بحدوث ركود اقتصادي بنسبة 80%. ويبقى السؤال معلّقا بشأن مقدار الوقت الذي سيحتاجه العالم لاستعادة ثقة المستهلكين والشركات. هذه حقبةٌ يغلب عليها الغموض وعدم اليقين بامتياز. ويتوقّع خبراء في المالية أنه لن يمكن التغلب على تداعيات كورونا، وتغيير مسار الاقتصاد في اتجاه النمو مجدّدا إلاّ بحلول عام 2031.
مقاول ورشة ترميم النيوليبرالية
يمكن للمرء أن يتخيّل زحف الليبرالية الجديدة في بريطانيا والولايات المتحدة بين سياسات
مارغريت تاتشر ورونالد ريغان في الثمانينيات، وما ينحو إليه دونالد ترامب منذ دخوله البيت الأبيض بداية 2017، باعتباره دعوة برّاقة إلى تحرير القيود، أو إلغاء القوانين التنظيمية، أو التحرّر، أو توسيع القطاع الخاص، أو التقشف المالي. لقد استمدت الليبرالية الجديدة من عدة مفاهيم يفترض أنها ترتكز على المفهوم الكلاسيكي (homo economicus) أو الإنسان الاقتصادي، وهو الإنسان العقلاني تمامًا الموجود في النظريات الاقتصادية، والذي يسعى دائمًا لمصلحته الذاتية.
وهنا يُخشى أن نقع في شرك الخطوة الثالثة التي يقترحها كيسنجر، أن تتولّى الدولة، دولة بيع المؤسسات العامة إلى أصحاب الثروات وملاك الشركات، دولة نقل الصحة والتعليم إلى القطاع الخاص، إيمانا منها بأن المقاولات والشركات الخاصة هي الحلّ، دولة الصفقات وليس القيم، أن تحتكر الدولة بوصلة التخطيط أو توجيه المرحلة المقبلة. أسوأ مكر فكري يضمره كيسنجر، وغيره من المتشبعين بمنطق المصلحة والقوة والواقعية السياسية، هو أنهم يعرفون كيف يعزفون اللّحن المناسب في الزّمن المناسب، فتطاول السيمفونية العذبة خيال الشعوب جيلا بعد جيل، وكبوة بعد كبوة للنظام الاقتصادي القائم.
لا يزال كيسنجر، وغيره من حماة الليبرالية، يعتدّون بأفكار المنظّر الكلاسيكي ميلتون فريدمان ومقاله “الليبرالية الجديدة وآفاقها”، فقد رفض ما اعتبره في الخمسينات “إيمانًا واسع النطاق، وإن كان ساذجًا، بين الطبقات المثقفة بأن التأميم سيحلّ محلّ الإنتاج من أجل الربح بمقولة الإنتاج من أجل الاستخدام”. كما اعترض على ما اعتبره تراجعًا للمنحى الجماعي، في إشارة ضمنية إلى الاشتراكية والأشكال الأخرى للديمقراطية الاجتماعية. وقال “من المرجح أن يثبت أن المنحى الجماعي أكثر صعوبةً في عكس التيار أو تغييره بشكل أساسي، مقارنة مع نظرية عدم التدخل، خصوصا إذا كانت تذهب إلى حدٍّ يقوض أساسيات الديمقراطية السياسية. ومن المؤكّد أن هذا الاتجاه الذي سيكون موجودًا على أي حال، سيزداد تسارعه بسبب الحرب الباردة، ناهيك عن البديل الأكثر رعباً، وهو حرب واسعة النطاق. ولكن إذا كان يمكن تجاوز هذه العقبات، فإنّ الليبرالية الجديدة تقدّم أملا حقيقيا بمستقبل أفضل، وهو أملٌ يمثل بالفعل تيارًا تتقاطع حوله الآراء، وهو قادر على إثارة حماس الرجال ذوي النيات الحسنة في كل مكان، وبالتالي يصبح التيار الرئيسي للرأي العام”.
تعزّزت الليبرالية الجديدة بتطورين جديدين في أواخر التسعينات: إلغاء القيود المالية، ما سيساهم لاحقا في الانهيار المالي عام 2008، وفي أزمة اليورو المستمرّة، وقد تعجل أزمة كورونا بزوال نظام “شينغن” وانهيار الاتحاد الأوروبي. والثاني العولمة الاقتصادية التي عجّلت بصنف أكثر طموحًا من الاتفاقات التجارية في عالم التدفقات المالية الحرّة. وأصبحت قوة المال والعولمة أكثر مظاهر النيوليبرالية تجليا في عالم اليوم. ويشدّد المتخصص في دراسة النيوليبرالية، ديفيد هارفي، على أنها “مشروع سياسي” أطلقته طبقة الشركات الرأسمالية، بهدف “الحدّ من قوّة
العمل”. ويتذكّر كيف أن صعود الحركات الاجتماعية، والدعوة إلى حماية المستهلك، والمبادرات الإصلاحية الأخرى، شكلت تهديدًا لمصالح الطبقة السائدة. ويلاحظ أنها “لم تكن على دراية كاملة، ولكنها أدركت أن هناك جبهاتٍ كان عليها أن تناضل عليها: الأيديولوجية، والسياسية، وقبل كل شيء كان عليها أن تكافح من أجل كبح قوة العمل بأي وسيلة ممكنة.. هكذا ظهر مشروع سياسي أسمّيه النيوليبرالية”. ويعتقد هارفي أن المشروع السياسي النيوليبرالي لم يكن “هجومًا أيديولوجيًا” فحسب، بل وأيضا “هجوما اقتصاديا وضعته البرجوازية أو الطبقة الرأسمالية التجارية موضع التنفيذ تدريجيا”. في لحظة تأملٍ حزينة، يلاحظ الطبيب وأستاذ الصحة العامة، سييجي يامادا، كيف تكشف جائحة كورونا نقاط الضعف التي وضعها البشر لأنفسهم “عن طريق تشبّعهم بالنظام النيوليبرالي”.
ولكن يطيب لكيسنجر اليوم أن يتقدّم إلى وسط المسرح، ليقود جوقة العازفين مبكّرا على وتر “الحكومة المستنيرة”، والمطبّلين حماسيا على إيقاع توفير “الأمن والنظام والرفاهية الاقتصادية والعدالة”. ألم يكن توفير هذه الخدمات والغايات هو أصل فلسفة العقد الاجتماعي التي لوّحت بها جمهرة المنظرين الغرويتيوسيين والهوبزيين واللوكيين والروسويين (من غرويتيوس وهوبز ولوك وروسو)، وغيرهم من منظري النيوليبرالية والعولمة لاحقا؟ هل نلغي ترانيم أربعة قرون من أدعية “العقد الاجتماعي”، لنبدأ ابتهالات جديدة بانتظار أن يحل عصر “الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية”؟!
يقارب عمر كيسنجر مائة عام بعد أقل من ثلاث سنوات، وهو ممن يستعذبون مقام “الحكمة والوقار” في تجديد أيديولوجية الليبرالية الجديدة، ويجاري بذلك المسؤولين الأميركيين من ذوي المنطق النيوليبرالي، وهم يلعبون بطاقة الضغط أو اللوبي الاستباقي لصالح شركات الأدوية والمختبرات المهيمنة. قبل أسبوعين، وقف وزير الصحة والخدمات الإنسانية، أليكس عازار، مع الرئيس ترامب في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض، وهو يزعم أن “السوق ستقوم بالفعل بتنظيم الفوضى”. نعم، يا للغرابة: السوق المقدّسة هي المنقذ والمخلّص في زمن شحّ الكمّامات وغياب اللقاح! هكذا يُسقط كيسنجر فقهه الليبرالي المتجدّد على اجتهادات هؤلاء اليمينيين لفرض ما أصبح تشخيصًا غير منطقي للمعضلة، وتمهيد الطريق مرة أخرى لشركات الأدوية لتحقيق أرباح هائلة في الأشهر والسنوات المقبلة.
حان الوقت لوقف العدوى لمثل هذه الاجتهادات الليبرالية الحربائية، وأن يتمّ مسح الطاولة بالكامل لبدء نقاش جريء وتقييم موضوعي لأخطاء الماضي والحاضر، وتعنّت النيوليبرالية المحتفى بها في الغرب وفي الشرق. لن يستقيم بناء المستقبل إلا عندما يصرّ المجتمع المدني العالمي، ونشطاء المنظمات غير الحكومية، والنخب المثقفة الملتزمة بضمير شعوبها، ودعاة حماية ما تبقّى من الإنسانية، ومن بقي غير ملوّثٍ من حقبة اليسار، بسائر مشاربه الديمقراطية والاشتراكية التقدمية والعلمانية والحداثية، على أن الوقت قد حان لدحض هذه النيوليبرالية بوصفها خطابا أيديولوجيا، وليس ما قصده آدم سميث بعبارة الرأسمالية الأخلاقية ومنحى الحرية من خلال مقولة “دعه يمرّ، دعه يعمل”.
لا ينبغي اعتبار الفضيلة والأخلاق في السياسة مجرّد عفاف خيالي، بل هما بالأحرى قوة دفع واقعية للتقدّم الجماعي، فمنذ معاهدة ويستفاليا الموقعة عام 1648، احتكرت الدولة والقطاع الخاص وسوق الأوراق المالية والقوى البنيوية الأخرى وضع وحدة التحليل الرئيسية لفترة طويلة. وينبغي الآن أن يتنازلوا عن تلك المكانة للفرد، والأسرة، ودولة الرفاهية، ومبدأ الصحة للجميع، والتعليم للجميع، والازدهار للجميع.