قصة واحدة في روايتين “في شراك أحمد بخيت” و”عصابة شيرين وببلاوي” (4) – د. جميلة الكجك

0
1470

(4)

أعجبني جدا رأي الصديق “إياد مهند” في صاحب دار النشر الذي نصب على “حضراوي” واستنزفه ماديا ومعنويا إذ كتب يقول: “سرقة الحلم ظلم، والانحدار به لهوة الوهم خطيئة كبرى. هكذا بعض البشر يسرقون حلمك ويبيعون لك الوهم ويتركونك للص الأكبر، وهو لص بلا أقدام، هو اليأس، لكن تمسكك بالحلم والتشبت به، والأمل بالله واليقين بالنجاح هو قارب النجاة.”

هذا ما حدث بالفعل، سرق “بخيت” الأمل وسرق المال والجهد والكثير من الوقت. بل لنقل حاول التهامه ولكن على دفعات، إلا أن السمكة الكبيرة -يبدو أنها- حاولت التهام السمكة الصغيرة ولكن بالمقلوب فتوقفت عند مدخل الجوف. حدث كل ذلك ممن، من شخص عرف في الوسط الأدبي بأنه شاعر عظيم. والعظمة لم تكن يوما في الحصاد وحده، فقد يكون حصاد الغير، وهذا ما حدث. فقد طبع الشاعر الكبير “بخيت” ديوان شعره الضخم والذي تم في جزئين على حساب الشاعر الصغير “حضراوي”. وسدد الكثير من ديونه كذلك من تلك المبالغ التي دفعها له أيضا. كان الجميع يعتقد أن كل ما كتب الشاعر الكبير كان من بنات أفكاره حتى جاء من يفضحه على الملأ ويظهر سرقاته المباشرة وغير المباشرة من نزار قباني وغيره. فهذا الناقد “عبد الله السمطي” يقول: “أحمد بخيت” سطا على قصائد نزار قباني وسمير فراج والسهروردي. والمقالة منشورة باسم وكالة أنباء الشعر – ولاء عبد الله. إذ أكد أن السرقات كانت عن طريق القص واللصق، وما أسماه بــــ”التقميش الشعري”. كما أكد “السمطي” أن “بخيت” قد مارس خديعة شعرية على قرائه في عدد من النماذج الشعرية التي سطا فيها على أبيات وقصائد كاملة ونسبها إلى نفسه، وأنه كانت له طريقة خاصة في ذلك. وصفها الناقد بالطريقة الفسيفسائية..، وكذلك على الصفحة الرسمية للشاعرة زينب أبو النجا اتهام آخر لبخيت بالسرقة، إذ قالت: سرقني وشتمني.. والتفاصيل منشورة بالكامل على النت.

كان ذاك ما قصدته بالحصاد، فأن تستولي على مال غيرك، أو جهده أو كل ما يخصه أو جزء منه له جرائم حقيقية، فكيف إن بعته فوق ذلك الأوهام على أنها حقائق وهو يصدقك لأنك عظيم وما أنت بعظيم. عظمة الإنسان الحقيقية تكمن في قيمه، في المبادئ التي يؤمن بها ويعيش بها ولها لا تلك التي يتشدق لسانه بها دون تفعيلها في سلوكياته مع الناس!

لم يكن حضراوي بالفريسة السهلة وإن كان وقوعه في الشراك سهلا. لقد اعترف “بخيت” له بذلك إذ قال: أنت يا أحمد يا حضراوي ذكي وذكي جدا.. كان لازم نفهم أنك لا تشبه كل الغرباء الذين مروا من هنا، أنت عندما نتحدث تنصت وتلاحظ وتتأمل وتدرس بعمق، لقد حللتنا جميعا، أما نحن فلم نستطع أن نفهمك أو نعرف عنك شيئا، وهذا قمة الذكاء. وهكذا بدأ الحوار بينهما ليقول “حضراوي”: لم يكن فهمي هو المطلوب.. بل إنجاز العقود التي تمت بيننا. ثم أخذ “بخيت” يبكي كطفل صغير قائلا: إنت حتعمل فيا إيه؟ أكيد حتفضحنا؟ ليتساءل “حضراوي” بينه وبين نفسه، أين القوة، أين الجبروت، أين الكبرياء، أين الشاعر، هل بكى حقا أم هي تمثيلية أخرى واستعطاف يريد منه ما بعده؟! ثم تحدثا بخصوص “فارس العنزي” ومن يكون. خرج “حضراوي” من عنده ولمح أبيات الشعر التي كتبها “بخيت” على باب شقته والتي يقول فيها:

أنا الصوفي والشهوان عشاقا ومعشوقا

أعيش بقلب قديس وإن حسبوه زنديقا

وحين أحب سيدة  أحولها  لموسيقى

ليقول “حضراوي” في نفسه ردا على هذه الأبيات: ربما صدق في كونه شهوانا وزنديقا ولكنه كذب لا محالة في الباقي! وأن تساقط دموعه قد كشفت عن الطفل السفيه داخله، الذي لم يستطع أن يأخذ الأمور يوما بحزم، كبر الشاعر “بخيت” لكن الطفل فيه لم يكبر، ذلك الطفل الذي تعلم الخيانة منذ الصغر مع البنات المراهقات اللواتي كانت أمه تأتي بهن لرعايته وإخوته كما قال، كان هو الولد الصغير وكن هن تأشيرته إلى عالم الخيانة.

وهكذا ظهر “بخيت” أخيرا على حقيقته. “أحمد بخيت” الذي تأكد “حضراوي” أنه نصاب وحرامي بامتياز، لكن نصاب عاطفي، يقتل القتيل ويبكي في مأتمه ولا يتوارى أن يعترف بأنه صاحب قميص الشعر كما في قصيدته عزلة الذئب.. فأية عزلة وأي ذئب..؟!

“عزلة الذئب” قصيدة للشاعر “أحمد بخيت” بطل حكاية النصب والخداع والمراوغة والتسويف.. يعبر في قصيدته تلك عن مأساته الحقيقية ويكشف عن مكنونات ذاته ويفصح ليس عن تناقضاته فحسب بل عن خراب أصاب هذه الذات مما يصعب إصلاحه، فقد وصل الخلل إلى العمق وغير طبيعة الإنسان الذي فيه وحوله إلى ذئب.. يؤمن بسيادة الظروف على مصير الإنسان وكأن الإنسان لم يخلق ذو إرادة فاعلة وإن تكن منفعلة.
 تلك ترجمة حقيقية لحياته التي صنعها بيديه ولم يفرضها عليه أحد ولا حتى الظروف، فقد كان يرى نفسه ذئبا، فكيف سيراه الآخرون إذا. إن هو إلا رجلين في إهاب واحد. هو كما قال:

رجل سواي يعيش تحت ثيابي

فإلى متى ستغازلين غيابي؟

أيقونة الأحزان، سلطان الرؤى،

ملك الخرافة، صائد الألباب..

أما عن اسمي الخاص لست أبيحه..

إلا لأنثى لا تجيء لبابي..

لا شأن لي بالحب ما شأني به؟

أنا خارج من جنة الأحباب..

ودعت نصف العمر نصف متاهتي..

وغسلت كفي منهما وثيابي..

أنا أبتر الأحلام، لا تاريخ لي،

لا شوق، لا نسيان في أهدابي..

الشعر أرملتي التي ضاجعتها

عشرين عاما دونما إخصاب..

هل تعرفين الذئب.. هل قاسمته

ليل الفلاة برعبها الخلاب؟

إني أنا الذئب.. العجوز فحاولي

أن تلمحي في بسمتي أنيابي..

أن تسمعي صمتي وأن تتنفسي

لغتي وأن تتفهمي أسبابي..

صادقت ظلي واتكأت على دمي

وأكلت جوعي واحتميت بنابي..

للناس ألفتهم ولي بريتي..

ولي الذهاب إلي دون إياب..
 بعد الشكوك التي أخذت تستبد بالشاعر “حضراوي” أخذ “بخيت” يكشف عن حقيقة ذاته ونواياه إزاء شريكه حتى قال فيه “حضراوي”: “.. كان أهون علي أن يصارحني منذ أول يوم أنه لا يتعامل معي إلا كصفقة مقابل يوروهات معدودة، أما أن يلقيني في جب الكابوس بعدما كنت على ضفة الحلم فهذا ما لم أستطع فهمه أو تحمله”، فكيف يفعل ذلك من يرى أنه صاحب قضية، قضية الإنسان الذي يصارع الظلم ليصفو له أفق الإنسانية -ويظلم- يحلق فيه شاعرا بعيدا عن غبار الأرض، لكن سرعان ما تأنفه الريح ليهوي به.. التحليق نحو هاوية ضاع جمالها، تحول ارتطام مبادئه القوية التي أحبها من قبل وجحدها إلى موسيقى السقوط.. لكنها الظروف كما كان يقول دائما، ولكن هل الظروف هي حقا تصنعنا؟!! وأتساءل أنا قارئة هذه القصة، هل نحن يا ترى مجرد نبات في الأرض، أو مجموعة من حيوانات تباشر حياتها بالغريزة وحدها، ولم كان العقل إذا، ولم كان الوجدان الذي يحاسبنا إن أخطأنا فلا يرتاح البال إلا عند الرجوع عن الخطأ أو تصحيح المسار؟! من منا لا يخطئ، لكن أن نتقصد الخطأ ونكرره هو ذاتها ونحن ندرك أنه خطأ فهذه مأساة الضمير حقا!
 عاد “حضراوي” منكسرا حزينا إلى “بلجيكا” دون أن تتم طباعة ديوانه، فقد شاء “بخيت” ويا لسوء ما شاء، شاء أن يئد تجربة الشاعر هذا، أن يحطم الحلم، ويسحق الأمل، بالرغم من أنه أعجب بقصائد الشاعر وتجربته الإبداعية ووصفها بأنها رائعة إذ كان في بدايات أول لقاء بينهما في قمة الانبهار بها.
 كان الديوان “قصائد في زمن الثورة” كتب فيه الشاعر لتونس، مهد الربيع العربي ومصر وليبيا والشام، وقبلهم جميعا كتب للثورة الأم فلسطين. فهل يا ترى كانت غيرة منه؟ هل كان حسدا؟ هل تعمد ألا يظهر اسم الشاعر المغربي على الساحة المصرية مرتبطا به وهو الذي أصر على كتابة مقدمة الديوان؟ ولكن لم لم يتردد وهو يقبض اليوروهات أم أن ذلك شيء آخر؟!
 علم “حضراوي” أن “بخيت” قد حذفه من قائمة أصدقائه بل وحجبه نهائيا وكأنه يريد أن يمسح أثر كل ما كان بينهما! لم يعد يرد على الهاتف، قطع عنه نهائيا وسائل الاتصال به متصورا أنه بهذا قد أزاح عنه كل ما يمكن أن يدل على جرائمه معتقدا أن عقد النشر وجميع الاتصالات وبيانات التحويلات ما تزال بحوزته هو، ولم يكن يعلم أن “حضراوي” قد أخذها جميعها عندما أحس بالغدر منه. الوسيلة الوحيدة التي لم يتمكن من حذف “حضراوي” منها كانت “الفايبر”، فراسله من خلالها، ليصله الرد بأنه هو من يتهمه بنشر أكاذيب عنه وينهي رسالته بعبارة: “مفيش فايدة لو بقيت محترم كنت ارتحت، بس إنت حمار وهتفضل حمار!”
 عندها لم يجد “حضراوي” أمامه إلا نشر بيان على صفحته ليكشف وجه “بخيت” الحقيقي حتى لا تقع سمكة أخرى في شباكه. وفوق هذا كتب فيه شعرا فقد أدرك جيدا مراوغاته وثعلبياته وكان لا بد أن يخسر شيئا ما هو الآخر ولو كان الجزء الضيئل المتبقي من سمعته مقابل ما خسره الشاعر ليس من مال ولكن من آمال أهرقها “بخيت” في صحراء ذاته.

كان بيان الشاعر “رسالة مفتوحة” إلى “بخيت” وضح فيها الإشكال الذي حصل بينهما والمبالغ التي دفعت مقابل نشر الديوان والشراكة ومبالغ أخرى أقرضها له ولم يقم بسدادها وغيرها. وهو في الوقت ذاته يأسف أنه اضطر إلى ذلك.. “فالسيل قد بلغ الزبى ولم يعد في قوس الصبر منزع..”. عتاب وتوضيح لأحداث وحقائق، ومشاعر.. حتى قال: لا يفوتنك أن كل ما أقوله لدي عليه دليل، فأنا خريج حقوق وأعلم أن قذف التهم جزافا يؤدي إلى مساءلة قانونية.. أعلم أن هذه الرسالة ستصلك، ولك مني شهرا كاملا لتسوية هذا الأمر..
 نعم، ربما لو كان ذاك الرجل يحتفظ ببقايا ضمير وأعاد له أمواله -وهو لم يفعل- فمن سيعيد له تلك الأحلام والأماني العظام التي تحطمت، والوقت والجهد، وقبل كل ذلك الثقة بالآخرين، وحسن الظن بهم، وقيم تحطمت على صخرة مشاعر ذاك الشاعر الذي كان يرى نفسه كبيرا. 
 ختم الشاعر “حضراوي” روايته الأولى بقصيدة -سنتحدث عنها فيما بعد- كما بدأها بأبيات تظهر مدى إبداعه وبراعته يقول فيها:

ستعلم..
أيها المسكين ما
أجهضته قسمات
ستعلم .. أنما الأشعار
نبذة سيرة الصدمات
هنا قلب يئن..
يموت لكن..
يبعث الكلمات
كلمات تلخص شدة الألم والمعاناة. فقد كان الألم عميقا بعمق خيبة الأمل، وسعة المفارقة بين التصور السابق والحقيقة التي عايشها بالفعل واقعا متحققا. وكان الألم كذلك ضخما بضخامة الفرق بين قيم وقيم. لكن هذا الذي غدر به وأهرقت آماله “شاعر” يعرف كيف يأخذ حقه، كيف يستعيد ما له، كيف يعوض ما فات وضاع، فالكلمة في قصيدة حياة، بل بعث لما تصور الغادر أنه مات ودفن.
 شاعرنا “حضراوي” الذي قال عن -نفسه- في صباه: “أنه كان انعزاليا صامتا، يحسبني معظم أقراني معقدا أو متكبرا كل حسب ظنه وهواه، لكني لم أكن إلا طفلا وفتى يتعقب فكرة، يجلس أمام الشاطئ.. يرسم الكلمات على الماء ويحفظ اللوحات لنفسه، كان سر قصائده له وحده، حتى والديه لم يعلما بهوايته للشعر إلا بعد أن تجاوز العشرين بقليل”. ورغم ذلك فإن هذا الفتى عاش وعايش أحداث وطنه العربي عندما أصبح شابا كتب في قضية البوسنة والهرسك ديوان “آمنت بالإسلام وبالمسلمين كفرت”. 
فطرته السليمة ورقي أخلاقه وتمسكه بالقيم والمبادئ، كل هذا حماه من الوقوع في شراك “فارس العنزي” الذي تخفت “مها” خلف شخصيته، إذ حاولت أن تجعله يبوح لها بشيء أي شيء قد تستعمله ضده أو يستغله “بخيت” لسحقه مستقبلا، أو يلتقط من لسان الشاعر قدحا في أحدهم ليقيم الدنيا عليه ولا يقعدها.. وبما أن الشراك هنا هو شراك أخلاقي، قيمي، لم يستطيعا الإيقاع به رغم أنه وقع فعليا في شراك نصبهما واحتيالهما. ولم يتمكن فيما بعد من إخضاعه لأي تهديد فالرجل كان دوما على حق. فقد كان “حضراوي” إنسانا متمسكا بالصبر الجميل كما تمسك بالسلوكيات الراقية رغم كل ما واجهه من بذاءة معاملة الآخرين له. فقد سأله أحدهم عن الشاعرة التي أساءت إليه وتحدثت عنه بغير الحق، ليرد باقتضاب ويذكرها في غيبتها بكل خير..: “كنت أستحضرها بما يرضي ضميري أولا، وبما كان لها من فضل سابق علي”.
 بقي أن نتحدث عن المعقول واللامعقول في هذه الرواية، ثم بعد ذلك نتحدث عن إبداعات الشاعر في روايته هذه رغم أنه لم ير ذاته قاصا بل شاعرا.
 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here