أسالت القضية الفلسطينية الكثير من الحبر وأججت العديد من المنابر الإعلامية والسياسية وألهبت ملايين الحناجر.. فهي قضية الإنسانية وقضية العجم والعرب وقضية كل مسلم، رغم تنصل الكثير من الحكام وتخليهم عنها.
لكن تبقى للقصيدة السياسية، إن صح التعبير، خصوصيتها وعطرها المتميز عندما تتحدث عن القضية أو تتغنى بها أو تدافع عنها..
ولقد تنافس العديد من الأدباء والشعراء الحاملين لهموم الأوطان والشعوب والغيورين على ضمير الأمة الإسلامية وضمير الإنسانية جمعاء.. تنافسوا على نظم أحسن القوافي وسرد أحسن القصص تكريما وتمجيدا وغيرة على فلسطين وعلى مستقبل الأمة.
وتأتي قصيدة “القدس” للشاعر أحمد حضراوي في هذا الإطار، لتبدع لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون في تناولها لقضية متميزة بشكل متمي.
صمدتْ ولم تعرف سوى أنَف الصمودْ
القدس عاصمة السماء على الوجودْ
خلافا لجميع عواصم بلدان العالم التي وضعها ونصبها البشر على بقاع الأرض، فإن القدس هي عاصمة السماء وتتويجها كان ربانيا قبل أن يكون إنسانيا.. فهي أرض المحشر وأرض الإسراء والمعراج والبقعة المباركة التي صلى فيها الأنبياء.. وصمودها إذاً أمر حتمي لا نقاش فيه.
ولبني إسرائيل عقود طويلة مع الظلم وقتل الأنبياء وطمس هوية الحق منذ غليان دم يحيى في قبره عليه السلام إلى أن جاء بختنصر ليقتل منهم العدد الكثير على قبره ليهدأ دمه.. إلى الآن حيث لا غيرة على الدم العربي ولا تحريك ساكن ضد جبروت الصهاينة، وخصوصا من طرف خدام الحرمين الشريفين الذين يفترض فيهم الدفاع والذود عن الأراضي المقدسة!!!
طالت حكايات وما طالت كما
خلف السدودْ
سور وإعصار وجرح دم وأفئدة الجنودْ
القدس محرقة الدماء بقبر يحيى
زاده بِخْتِنْصِرٌ بعض العقودْ
تزهو التلال بريحه
حتى ارتوى آل السعودْ!
ويظهر هنا آل السعود وكأنهم مصاصو دماء يستمتعون ويتلذذون ويسعدون برؤية الدم العربي الشهيد يسفك على مرأى ومسمع من العالم.. فعهدهم هو نفسه عهد اليهود الذين أحكموا قبضتهم على العالم العربي فلم يعد يزعجهم حاكم أو ترهبهم شعوب.. هذه الأخيرة التي أصبحت دماؤها مستباحة وقمعها وإخضاعها أسهل ما يكون. وكيف لا والخونة كثر والعملاء لا حصر لهم في زمن تخلى فيه المسلمون عن دينهم وعن مهد حضارتهم.. وأصبحوا لا يذكرون قضاياهم المصيرية إلا بجرة قلم وفي مناسبات محدودة.
بحر الدماء وجرة الأقلام في عهد اليهودْ
محراب مريم والمسيح إلى الشرودْ..
لكن حضارة القدس لا شك صامدة صمود انتفاضة وصرخة الحجارة في وجه الأسوار والحواجز والأسلاك.
القدس مهد من حجارة صرخة
طافت على سور الغواية عبر أسلاك الحدودْ..
وصمود المئذنات الجريحة والأديان السمحة عبر العصور:
المئذنات تزف آذان النواقيس الجريحة
فوق أكتاف الحضارة
قبل ميلاد الرصاص
وقبل ميلاد البنودْ..
ويرمز الرصاص إلى كل تلك القوة العسكرية والنووية الهائلة التي تمتلكها إسرائيل ومن ورائها أمريكا للضغط على الأمة العربية والإسلامية وإخضاعها بشتى البنود والعقوبات والقوانين.
لكن بالرغم من كل هذه القوة يبقى الأمل مع أطفال قرروا جميعهم أن يصبحوا شهداء حاملين أرواحهم قبل حجارتهم بين أيديهم:
طفل ترفرف روحه فوق الحجارة
حول مقلاع لداوود
وحول زجاجة المولْتوف
والشال الجديدْ
كوفية بيضاء ينقرها غراب السود
بالكحل اللدودْ..
أطفال تحملوا المسؤولية قبل الأوان وحولوا كوفياتهم البيضاء إلى أكفان..
تلك المسؤولية التي أثقلت كواهل حكام ومسؤولين وسياسيين كبار فتخلوا عنها واستسلموا لرغباتهم وغرائزهم ومتعهم الشخصية :
سيل اللعاب على اللعاب إذا تعتق للظروفْ
والشارة النصرية العنقاء تهزأ باللحودْ
دالية تنمو على عبث الوعودْ
دالية تنمو على كأس الندامى
والخمورْ
خلطوا الجنابة بالسياسة بالفحولة بالأمورْ..
سكر ولهو ولعب واستهتار بأمور الخلق وطموحات الشعوب.. هؤلاء هم من تولوا أمور السياسة في بلاد العرب
واستأسدوا لكنهم ليسوا أسود، لا يظهرون شجاعتهم إلا في قمع شعوبهم المستضعفة، أما أمام العدو فهم ليسوا أسودا ولا يملكون الجرأة لتغيير أو فرض أي شيء أو اتخاذ أي قرار..
العم سامُ يسومهم فصل القرارْ
زعموا بأن قراره كان انتصارْ
فاصطف رهبان الخليج بلا انتظارْ
حكم العقال وكان أشقرهم يسودْ..
وهكذا جنحوا للسلم رغما عن أنوفهم وأصبحوا يمدون يد العون للصهاينة ويساعدوهم في تشديد الخناق وتكثيف الحواجز والمعابر..
زرعوا المعابر ليس تذهب أو تعودْ
الموت يعبرها فتنفرد الإشارة
في الجمودْ
ويمر قربان التحرر
في زجاجات من الحبر الذي
يجتر ميلاد “البنودْ”..
وهكذا جاء حل الدولتين.. ولكن الحقيقة هي أنها دولة واحدة مستقوية بأمريكا في مواجهة شعب أعزل خذله حكامه ألف مرة.
وينتقل الشاعر ليتحدث عن المولد العربي والقومة الإسلامية:
المولد العربي أنثى وجهها..
ميزان “عهد”
ليس تشبهها عهودْ
المولد العربي في كل الشوارع..
في الرياض وفي أبو ظبي
وقاهرة الحشودْ
الموعد العربي في اليمن السعيدْ
الموعد العربي في طهران
في بغداد
رام الله..
في الشام الكنودْ
الموعد القدسيّ يبدأ حيث تبتدئ الشهادة من جديدْ!
وقد تأتي الانتفاضة الجديدة والمولد العربي الجديد على يد النساء بعدما خذلهما الرجال.. فهاهي عهد التميمي تصفع بكل شجاعة جنديا إسرائيليا مغرورا وتطيح بكبريائه.. فتسجن ثمانية أشهر إثر ذلك.. لتخرج من السجن أكثر صمودا وأكثر إصرارا على مواصلة النضال.. ولا شك أن تحرر البلدان لا يمكنه أن يتم إلا بتحرر شعوبها من الخوف والجبن، وهذا التحرر لابد آت “إذا الشعب يوما أراد الحياة “، ولأن أرض القدس غالية ومباركة باستشهاد الأنبياء وبإراقة دمائهم الشريفة عليها، فإن تخليصها من العدو لا يأتي إلا بالدماء وبالجهاد وبالشهادة.
ويعود الشاعر ليتحدث عن سوء خلق العرب وانحلالهم وسقوطهم في قعر المذل، والهوان وفقدهم لهويتهم العربية الإسلامية بانسلاخهم وموالاتهم لأمريكا الامبريالية.
عرب ولكنّا تأمْرَكْنا أكيدْ!
عرب عرابيد وعن عين نحيدْ
عرب رعانا الذل في بلد عنيدْ
والباء بغي ضميرنا الموسوم من عصر الجليدْ..
عرب أصبحوا لايجيدون غير البكاء على صدور النساء:
عرب حضارتنا بكاء بين وادي البغي
أو سفح النهود..
ما أقبح الكلمات حين تُعرِّف العُرف الوحيدْ..
وأخيرا حان وقت التطرق لموضوع عهود إسرائيل وإيمانها المزيف بأرض الميعاد، والذي وجدت فيه أمريكا أرضا خصبة لتحقيق أهدافها الاقتصادية والسيطرة على نفط وبترول منطقة الشرق الأوسط..
سبحان من أسرى بصرح سفارة “الكوبويِ”
نحو حظيرة البقر المسجى..
باصفرار العهد إن بقديمه أو ذلك العهد الجديد..
وإن اختيار الشاعر لكلمة “كوبوي” كان جد موفق، فرعاة البقر انتقلوا إلى حيث توجد الأبقار ويسهل ترويضها، لكن هم لا شك مخطئون لأنهم سوف يواجهون جيلا مرابطا مجاهدا لا يخشى الموت ويقدم نفسه ودمه قربانا في سبيل قضيته من الوريد إلى الوريد.
من أرسل الكوبويَ مثل “الدون كشوتِ”
إلى طواحين الدماء تراق من جيل الوريدْ..
ومثلما حارب”الدون كشوت” طواحين الهواء سوف يحارب رعاة البقر طواحين الدماء.. تلك الدماء التي ستظل تغلي على أرض المحشر إلى أن يأتي هذه المرة المهدي المنتظر وليس بختنصر، ليهدأ من روعها بالقضاء على الصهاينة وعلى كل يهودي عنصري متكبر.. والبشرى هذه المرة لن تكون لهيكلهم بل للمسلمين المؤمنين الصالحين في كل أنحاء العالم..
من خول الدم كي يكون الدلو
والبشرى لهيكلهم؟..
وهذا التساؤل كاف لإفراغ قضيتهم من محتواها والرمي بها في سلة المهملات..
من ظن يمحو ركعة للأنبياء بباحة الأقصى وأن يمحو السجود
القدس ذاكرة القصاص
وكل قسطاس شديدْ!
لا يمكن إذاً لتلك البقعة الطاهرة إلا أن تسترجع طهرها وبركتها وعنفوانها، فهي موعودة بالنصر من رب كريم وعادل، ميزانه قسطاس دقيق وحساب عسير لكل ظالم متجبر على الأرض
ولا يسعنا في الأخير إلا أن نشيد بشاعرنا الكبير أحمد حضراوي، وبتفانيه في الدفاع عن قضايا الأمة وقضايا الإنسانية، وله قصائد عديدة في هذا المجال، ولا يمكن إلا أن ننوه به كشاعر أتقن قصائد الغزل أيضا وحرك بها مشاعر القراء.
وإن دل هذا التنوع في قصائد الشاعر على شيء، فإنما يدل على كونه إنسانا قبل أن يكون شاعرا ومبدعا.
رابط القصيدة: