للشعر قواعد وأوزان، وللشاعر لحظات جنونه التي لا يمكن أن تدان، والتي بدونها لا يمكن أن يكون الشاعر شاعرا ومبدعا..
وقصيدة الشاعر أحمد حضراوي “مجنونة قيس” هي لحظات جنون وإبداع وخلق، ولحظات من تجليات الخيال في أبهى وأحسن صوره. فالقصيدة تعبر فعلا عن جنون الشاعر المستمد من مجنونته.
حب يبتدئ بلا عنوان:
” تَنسى لتُنسى أيها الإنسانُ
فالحب ليس لذكره عنوان”
وينتهي بدعوة للوفاء لطيف العاشق الولهان الذي تُشتت حبه العذري أوطان وأوطان:
“للحب قولي لا مساس فليس من
بعدي أنا تتلاحم الأحضان”.
بين البداية والنهاية جنون الشاعر المستلهم من جنون محبوبته.
يقول أحمد حضراوي لحبيبته، لا تكوني ضعيفة تندبين حظك بالدموع بل كوني كشهرزاد التي قضت على القوة والجبروت، وزرعت الحب وحررت نساء مملكة بأسرها:
الشهرزاد بألف ليلتها محت
سيف الذكورة فانتشى النهدان
وقوة ليلى الشاعر في جنونها وفي براءة طفولتها، وفي قدرتها على إلهام الشاعر الذي يبدو أن قلبه كان قد أقفر وغادرته أوزان الشعر وقافيته. الشاعر يتحدث عن امرأة ملهمة معذبة حبيسة وسط أحزانها:
ليلى المعرة طفلة مجنونة
صُبَّتْ على فلواتها الأوزان
وهي نفس المرأة المحصورة بين قافية المجاز وأركان القصيدة:
في لون قافية الحصار مجازها
ولهذه المرأة صرخة، صرخة الحب وصرخة الحرية وصرخة لحظات جنونها:
والصرخة الأولى بها تزدان
امرأة مجنونة بكل المقاييس، لا ينال منها العاشق ما يطمح إليه عادة من معشوقته، ولا يدري إن كان حبها سيدخله الجنة أم يخرجه منها:
في سُنة التقبيل أنجز قضمتي
تفاحتي في طعمها شيطان
لكن الشاعر لا يبحث إلا عن الطهر وعن الحب العفيف النقي:
أستاك في خصف الجبال وعثرتي
وطن تخطت سفحه الأوطان
ويبدو أن حبه لا محالة طاهر بعيد عن الشبهات لأنه محجوب بالجبال ومتعثر فيها.. فمحبوبته تنتمي لوطن الحنين، لوطن الشوق، لوطن أصول منفى الشاعر ووطن حبيبته، وكأنما يتحدث الشاعر عن منفيين متناسلين: الوطن الأم وهو منفى المحبوبة ووطن المهجر، وهو البلد الذي يعيش فيه الشاعر منفيا بعيدا عن أحبته:
ميقات منفى واحد متناسل
لصحيفة الطغيان فيه بيان
لكن الشاعر يتكلم عن حب من طرف واحد، وعن خدعة موصولة وكأنما جبلت كل النساء في نظره على حب الخداع وخداع الحب:
أركان حبك خدعة موصولة
مذ أن حبتك فإذ هو الإدمان
الإدمان على الخداع وعلى المراوغة وعلى عدم القدرة على الحفاظ على نيران الحب وشرارته:
الحب سيدتي دخان لا يرى
إلا إذا ما اشتدت النيران
لا شيء قربك قد نما حتى يُرى
فيداك راحلة بها الوديان
ويأبى الشاعر إلا أن يعاتب الحبيبة على ماضيها الذي لا تستطيع التخلص منه، والذي يقف حاجزا بينهما:
ويَغُلُّكِ الماضي إلى طوفانه
فرصيد قلبك ذلك الطوفان
ويعود الشاعر ليطلب من ليلاه أن تتراجع عن حبها له وألا تتمسك به لأن قدرها المحتوم هو إبعادها كسابقاتها اللواتي فشلت في الوصول إلى جزيرة عشقه المتوارية خلف موج الشعر:
لا تخلعي نعليك في وادي الهوى
قدر عليك التيه والأشجان
وهنا تكمن قوة الشاعر وعزيمته وإصراره على البقاء والصمود في قلب “الحبيبة”، فهي وإن كانت مجرد طيف تحجبه الجبال ويبعده المنفى ويقزمه ترددها وعدم قدرتها على حبه، إلا أن الحب ذاته يبقى قويا في قلب الشاعر الهيمان المتيم، الذي لا يستمد إلهامه ولا تتأجج قريحته إلا من مثل هذا الحب العصي المستحيل..
وإضافة إلى كل هذه الصور الشعرية التي تبرع في وصف جنون الحب، يوظف الشاعر أسلوبا سهلا ممتنعا، يجعل القصيدة عصية على الفهم والاستيعاب من القراءة الأولى، وكأنه يدعو القارئ لإعادة قراءتها مرات ومرات ليفهم معانيها، ويحفظ دلالاتها عن وعي أو عن غير وعي، لأن كلمات الحب تخاطب القلب أولا لا العقل، ولا يجيد الحديث عنها إلا شاعر مجنون متيم بنار الحب كأحمد حضراوي.
وأخيرا يمكن القول بأن الشاعر أبدع في هذه القصيدة أيما إبداع.. إبداع تلاحم فيه جنون العشق والهوى وسحر البيان والموروث الثقافي، فأهدى للقارئ لوحة فنية بألوان مختلفة.
رابط قصيدة مجنونة قيس: