قراءة في قصيدة شمس القلب للشاعر البروفيسور يحيى الشيخ – د. جميلة الكجك  

0
1356

كل نص إبداعي جزل عميق بإمكاننا تأويله عدة تأويلات على أن لا نحاول ليّ عنق النص كي يتجاوب مع فكرة مسبقة لدينا أو غرض “ما” نحاول توصيله للقارئ، أو هدف “ما” نحاول الوصول إليه، فهناك دوما قرائن أو بالأحرى دلالات معينة تضيء لنا قراءة “ما” أو تمنعنا من قراءة أخرى. إشارات تقود خطى أفكارنا وتهدينا سواء السبيل. وهذه القصيدة -شمس القلب- يمكننا وبحسب ما ذكرت تأويل لفظ “الشمس” فيها بالوطن، بالأم أو بالحبيبة ويكون تأويلا محتملا ما لم يصرح الشاعر ذاته بما يعنيه بشمسه هذه.

“شمس القلب” إذا قد تشير في التأويل إلى عدة كائنات “سامية” كسمو إطلالتها في فضاءاتنا الوجدانية والواقعية. قد تعني فيما تعنيه: وطن، أم، حبيبة، ابنة، سيدة “ما” لها مكانة مميزة في وجدان الشاعر، لها مكانة عظيمة في نفسه وتأثير عميق عليه. تمده بأبهى المعاني التي قد يتطلع إليها إنسان، تمنحه النور والضياء والدفء، الوضوح والجلاء.. إلى آخر هذه المعاني البهية الرائعة، لكنها متعالية في سماء وجوده لا ترفعا وإنما في مكانتها لديه.

ونحن إذ نقوم بالتأويل ننظر إلى دلالات المفردات وصلاتها ببعضها البعض كي نختار التأويل الذي نظن أن الشاعر أراد به هذه أو تلك من الكائنات، وتبقى الحقيقة لديه قائمة في وجدانه، وأرجو أن نصيب.

شمس قلبه في قراءتي الأولى أعتمد فيها معنى الوطن للقرائن التالية: شاعرنا رجل مهاجر من وطنه الأم اتخذ من فرنسا وطنا ثانيا له، ليبقى وطنه الأصلي كيانا جامعا لمعنى الأمومة والوطن في عبارة واحدة هي -شمس القلب- فالوطن بقدر ما تقلنا أرضه ويغمرنا فضاؤه، نسكنه، هو كذلك يسكن أفئدتنا، لا ولن يغادرنا وإن غادرناه، يبقى هو الأصل كما الأم الوالدة مهما تكاثرت المرضعات وتعددت الأمهات المتبنيات، لا دفء حقيقي إلا في كنف ذراعيها، ولا أمان واطمئنان نستشعر كنهه إلا إن ضمتنا إلى صدرها. يلازمنا شعور الفقد واليتم دونها. فراغ في الوجدان دائم بديمومة غربتنا عنه وعنها.

يخاطب الشاعر هنا وطنه أو بالأحرى يناجيه ليؤكد صدق مشاعره من خلال فيض هذا الحب الذي ينهمر دمعا لفراقه إياه.

والشمس حقيقة “نور” يمحو دياجير الظلام، ودفء يصب في أفئدتنا قبل أن يمتد إلى أوصال الجسد، تنعم به الروح، علاقتنا بها عاطفية وإن كانت حاجتنا لها مادية كما الأم – أول وطن حقيقي للإنسان – ثم الرحم الأوسع والأعظم، الوطن. كل هذه المعاني تجعل من الرحم ومن الأرض شموسا في حيواتنا. قواسمها المشتركة هي ذاتها معانيها. هي كل ما يشكل لنا ما يربطنا بالحياة. بل ما يكون هو من اهم أسباب الحياة. جذرك إن لم يجد تلك التربة الحقيقية والمعنوية ذوى ومات. تعلقنا بها إن هو إلا تعلقنا بالحياة ذاتها. من هنا حق لشاعرنا ولكل واحد فينا أن ينظر إلى وطنه على أنه الشمس. ننمو وينمو الوعي فينا وتتعمق معاني الوطن وتتسع لتشمل أجمل باعث على إحساس بوطن جد خاص لا يشاركنا به أحد، تكمن فيه أنانية الوجود كله لنختزله في شخص واحد هو -الحبيب- نستبد به ويستبد بنا ونستلذ ذاك الاستبداد، ونرتضيه. هي ميزة له وحده.

فإن اعتبرنا أن قصد الشاعر بالشمس هو الوطن فما ذاك إلا لتلك المعاني التي ذكرناها آنفا، ولأسباب أخرى ذكرنا بعضها من قبل، فهجرة الوطن معاناة في الحالتين، غادرناه عن رضى أو مرغمين، فإن كان هو من يحملنا ونحن فوق ثراه، فنحن من نحمله في قلوبنا عند الفراق، ومن غادر وطنه يعلم ثقل مثل هذا الحمل. وطن بأكمله يختزل في حجم قبضة اليد -قلبك- الذي بين جنبيك، فتصور كثافته!

يا شمس هذا القلب قولي:

“قد كفى..

ما بان مني للحبيب وما خفى!”

لو لم يكن يوما أحبك صادقا

ما ناشد الدمع السخين وما جفا

فهذا الجفاء وهذا الابتعاد لم يكن إلا لعمق الحب وشدته، إلا لصدقه. وقد تبدو هذه مفارقة، وقد يبدو هذا تناقضا ولكن، ما من تناقض في أحاسيسنا والمشاعر. التناقض لا يكون إلا في منطق العقل، عواطفنا الجياشة لا تعرفه، وجدان الإنسان لا يعرف إلا الصدق، وإن أبدت المظاهر غير ذلك. وها هي الدلائل تؤكد صدق الشاعر، وتوضح الحال وتشرحه بما لا يدع مجالا للشك، فهذه الدموع الساخنة إن أخذت حرارتها من حرارة وجدان واجد يعاني. يعاني وجده ويعاني اختياره الابتعاد، وهذه لعمري من أشد المعاناة التي قد يعيشها إنسان، أن يبتعد، أن يغادر حضنا هو الأمان ذاته وهو يعلم ويدرك أن لن يكون هناك عوض حقيقي عنه. فالحضن ذاته لا يعوض وإن منحنا آخر.

لا تحسبي أن المحبة سوأة

والعاشق الولهان منك قد اكتفى

ما عاد يقبل عاشقيك وقد محوا

من فوق بابك عشقه المتعففا

هنا ومن خلال هذه الأبيات يظهر لنا جليا كم يتداخل الحب كمعنى بين حب الوطن وحب الحبيبة وبكل الصدق الذي يصلنا ثريا، طازجا كأنما ينتقل من وجدان الشاعر إلى نفوسنا في الآن ذاته، نستشعره بحره وحرارته. بحر ناره المتقدة، وحرارة القلب الذي يسكنه. العشق واحد، ما أن تقدح شرارته حتى يسري في الروح والجسد معا، يلهبهما، لكنه يشتد ويقوى عند الفراق حتى يكاد لا يطاق فيكون الوله بالمعشوق والهيام به، ويكون البوح بالمشاعر.

الحب حالة متسامية، وهذا -على ما أظن- ما قصد إليه الشاعر عندما خاطب المحبوبة بأن لا تتصور أن يكون الحب ذاته فاحشة أو أن يكون الإحساس به مدعاة ذنب لنغادر أحبتنا أو ليغادرونا، بل هو منتهى طهر النفس، فالنفوس السليمة الطاهرة النقية هي وحدها من تعرف الحب وتعيشه وترتضيه وتحيا به ولأجله رغم أننا قد نغادر الحبيب لسبب أو لآخر، لكنه أبدا لن يكون لشعور بأننا مذنبون بأي شكل من الأشكال. الحب بطبعه فضاح أجل، لكنها أطهر وأجمل وأسمى الفضائح التي يمكن أن تعلن ولا يخجل منها. ولذا نجد الشاعر يؤكد أن فراقه للوطن أو الحبيبة ليس لزهد فيه أو فيها، ليس لتغير مشاعره اتجاهها، أو لاكتفاء لن يحدث يوما لكنه لمصاب جلل. فهذا العاشق الولهان لا يقبل أن يساء إلى حبيبته، لا يقبل أن يرى أولئك العشاق وهم يدنسون ذاك الحب العفيف، الخالي من الغرض إلا الحب ذاته ولذات المحبوب فقط.

ذاك المصاب الذي لم يحتمله الشاعر أن يجد عاشقي الحبيبة قد حاولوا تدنيس علاقة طاهرة بريئة من سوء فعل أو قول، يمتنع صاحبها عما لا يحل له وعما لا يجوز، ويتجنب ما لا يحق له، ويتعفف عما قد يكون بأمس الحاجة إليه، لكنه مقابل كل ذلك يجد عاشقي المحبوبة وقد تناولوه بالتجريح ونسبوا إليه أفعالا لا تليق بمثل هذه المشاعر النبيلة والتي نختزلها بمسعى “الحب”، فمن يحب حقا ويفهم معنى العشق يترفع ويسمو عن الصغائر تلك. أما كيف توصلنا إلى كل تلك المعاني وقلنا بها فتلك المفردة التي أوردها الشاعر -بابك- في قوله:

ما عاد يقبل عاشقيك وقد محوا

من فوق بابك عشقه المتعففا

فها هو لتعففه ونزاهة مطالبه ما زال واقفا ينتظر الإذن، ينتظر القبول، ينتظر الموافقة. ولم يتعد الباب حتى، وإذا به يواجه بكل الافتراءات والأكاذيب والادعاءات حتى أنه فضل المغادرة رغم شدة الحب والوله على أن يقف موقف الدفاع وهو بريء النفس أو يؤذي الحبيبة.

صعب عليه البقاء لأنهم تمكنوا من محو ذلك التعفف بادعاءاتهم الباطلة. ولشدة تعففه في القول أو الفعل نجده يصف أولئك بالعاشقين لها ولم يصفهم بالأعداء له. فهم إن كانوا أبناء وطن واحد، فإن ما يجمعهم هو عشق الوطن وإن أساءوا من حيث لا يعلمون. وهم إن كانوا عشاق امرأة واحدة فإن التنافس على عشقها هو ما يجمعهم، ولذا آثر أن يكون عفيفا حتى في وصفه لأعدائه أو منافسيه.

يا شمسَ هذا القلب قولي: “قد كفى

ما بان مني للحبيب وما خَفى!”

لو لم يكن يوما أحبّكِ صادقا

ما ناشد الدمع السخين وما جفا

لا تحسبي أن المحبة سوأة

والعاشق الولهان منك قد اكتفى

ما عاد يقبل عاشقيكِ وقد مَحَوا

من فوق بابك عشقه المتَعفّفا

جاروا عليه ومزّقوه وأتلفوا

فيكِ اسمَهُ وورودَه والأَحْرُفا

الآن يرحلُ والفؤادُ حرائقٌ

والليلُ يَدْفن ما نهارُكِ أَتْلَفا

حِنِّي عليهِ وقَرِّبيهِ لعلّهُ

يأوي إليكِ مُصالحا مُتأَسِّفا..

وها أنا أقوم بنشر القصيدة مرة أخرى لمن أراد الاطلاع عليها قبل متابعتي قراءتها..

غادر الحبيب باب محبوبته قبل أن تأذن له بالدخول، غادر مرغما ليس لزهد فيها أو اكتفاء من حبه لها، بل إكراما لها ولذاته. غادر وهو المظلوم. ورغم كل الظلم الذي وقع عليه يطلب منها السماح. وكأنما استطاع أولئك العذال أن يمسحوا كل حسناته من خاطرها اسمه وحروف صاغها حبا لها، وورود تقرب بها إليها حتى باتت لا تذكر من ذلك شيئا. والغريب أنه لم يحاول النيل من عشاقها ولا الدفاع عن نفسه فحبه لها أذهله عن كل ذلك وما عاد يرى إلا هي، شمسه التي لشدة وهجها أعمته بنورها عن خطاياهم بحقه، أذهلته عن الدفاع عن نفسه، حب يحول تقصير الحبيب إلى تقصير ذاتي منه هو. اعتبر أن تمكينه لهم بفعل ذلك ذنب من ذنوبه هو لذا طلب المعذرة والسماح منها. لام نفسه قبل أن يلومها أو يلوم الآخرين وهذه درجة في الحب نادرا ما يصل إليها حبيب إلا إن كان حبه صادقا وكان ذا نفس وفية كريمة.

وكما آثر أن يبتعد دون المساس بأحد آثر كذلك أن يتقدم إليها بأدلة حبه على أن يقرعها أو يلومها على استماعها إلى عشاقها الكثر وإعطائهم فرصة للتفريق بينهما. وما ذلك منه إلا نبل وكرم أخلاق وتمسك بأرقى المعايير الإنسانية حتى في أشد لحظات معاناته!

نرى الشاعر هنا وقد رسم صورة للعاشق الولهان المطعون في حبه، في مشاعره، في عشقه للحبيبة ورغم ذلك لم يخرج عن تسامحه، لم يحاول النيل منها أو التشهير بها، كل ما فعله أنه طلب السماح والقرب.

وهكذا وجدنا أن من الصور البلاغية البديعة التي وردت في القصيدة تشبيه الشاعر للحبيبة بالشمس فهي مصدر النور والضياء والظهور والوضوح، وهي كذلك مصدرا للدفء، ولكن هنا ولأول مرة يستخدم هذا التشبيه لغاية ذهول الحبيب عن مساوئ منافسيه على حبه للحبيبة كما تكاد تعمي أشعة الشمس القوية عيون المشاهد لها عن رؤية ما عداها، فرغم أنه غادرها بسببهم ورغم الحريق الذي أضرم في فؤاده لفراقها إلا أن عينيه قد عميت عن رؤية سواها.

أما الصورة البلاغية الأخرى فهي:

الآن يرحل والفؤاد حرائق

والليل يدفن ما نهارك أتلفا

صورة القلب المتأجج بلهيبه ورغم ذلك لا يرى من الليل إلا أنه مقبرة لأخطائها بحقه. ظلمته لا تخفي تلك الأخطاء بل تدفنها لتنسى لا لتختفي من المشهد فقط.

وفي خاتمة القصيدة صورة تختصر ذاك الحب بصورة توحي للقارئ أن الحبيب هو الوطن الحقيقي للمحب، وأن الوطن هو ذلك الحضن إذ يقول:

حني عليه وقربيه لعله

يأوي إليك مصالحا متأسفا

فالإيواء لا يكون إلا لحضن، إلا لسكن، إلا لوطن. والإيواء بحد ذاته دلالة على الحنان والحب، فإن قبلت بقربي فأنت الوطن، والوطن إذ ذاك هو أنت. عندها تستحقين أن أتأسف لك رغم أنني المظلوم لا الظالم، وأنسى كل ما حدث، وأقبل بالصلح. شروط ولكنها ليست شروطا بالمعنى المتعارف عليه، فهي تمني وطلب ورجاء وإغراء لها بقبول هذا الصلح الذي ليس من شروطه إلا مزيدا من الحب والتقرب والتسامح.

وتحضرني قصيدة “صالح جودت” التي غناها “فريد الأطرش” تحت العنوان ذاته تقريبا “شمس القلب”:

يا شمس قلبي وظله

يا شمس قلبي وظله يا فرحة عمري كله

طالت علىّ الليالي بوحدتي وابتهالي

أناجي صوره في خيالي

لحد ما شفتك أنت

وقولت أنت اللي كنت

منورالي الليالي

أشوف خيالك وأقوله

يا شمس قلبي وظله

يا فرحة عمري كله

ما تعتبنيش على اللي فات

ألماضي كله آهات

ذابت مع الذكريات

وفضلي من الدنيا حبك

وهمس قلبي لقلبك

وكفاية فرحك بقربك

وأنا اللي عايش في ظله

يا شمس قلبي وظله.. يا فرحة عمري كله

فالقلوب إن أحبت بحق تشابهت، وتشابه السلوك وساد التسامح والعطاء وغفران الزلات. وما كانت المطالب إلا مزيدا من القرب والتواصل والحب، رغم أن لكل إنسان تجربته الفريدة التي يعيشها وحده.

في هذه القصيدة “المغناة” أشار الشاعر “جودت صالح” إلى المعنيين المحتملين للشمس، المعنى الحارق والآخر حيث النور وحده دون اللهيب، حيث الظل رغم أن الشمس لا ظل لها فحضورها لا يحضر معه ظلا لها بل ظل للأشياء لكنه هنا اخترع لها ظلا يقيه ويقيها حرها، وعلى الجانب الآخر نرى أن شاعرنا لم ير لمحبوبته غير جانبها المشرق وحده، وما ذاك إلا لشدة حبه لها وذهوله عما سواها كما سبق أن أشرنا.

وفي ختام القراءة هذه خاطرتي الشاعرية التي رددت بها على قصيدة الشاعر المبدع “يحيى الشيخ”:

شمسك..

شمس تنام على وتر

تستيقظ فينتحر القمر

تطل من عليائها

تناظرها الورود

ويبتسم لها ثغر الزهر

تغني البلابل

وتعزف النسمات موسيقى ناياتها

وحبيب لها هناك

مأخوذ بسحر جمالها

يمد أطراف أصابعه إليها

يداعب شلال شعرها الذهبي

يرجوها أن ترفعه إليها

فتجيبه: أي حبيبي تعال

قد سامحتك

فشمس قلبك تنتظر

فكل هذا الحب الذي يكنه الشاعر لمحبوبته لا بد أن تقابله الحبيبة بالود والتسامح ويعود العشق يسري بين قلبيهما كما كان ولكن دون أن يكون بينهما عذال، دون أن تسمح لأحد بالتدخل فيما بينهما.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here