قراءة في قصيدة : “رسالة من فتاة مجهولة” للشاعرة وعد محمد __ د. عبد الحميد بدران

0
215

 

  قراءة في قصيدة “رسالة من فتاة مجهولة” :

 

وردية الأخلاق كالريحان

مكية الأركان والتبيان

مصرية لو قيل ألف قصيدة

ما عكرت في النيل صفو بياني

أنا من أصول عروبةٍ مصباحها

قد أوقدوه بنعمة القرآن

أنا عنفوان الحرف حين أبثه

دفء الحروف على هزيج لساني

أنا ألف وعد ما أراق رحيقه

نبض القصيد ولا هوى بمكان

الزهر يشهد لي ويسكب لمستي

عطرا يفوح بنفحة الرضوان

وعلى جبين الليل أزرع كوكبًا

يُروى بهمس الروح والوجدان

نبض الحروف ببحر شعري سابحٌ

والمسك يسرح في شذا أوزاني

أنا من صرعت الخوف واجتزت العلا

لما هزمت بعفتي أحزاني

وعلى مواني اليأس أقلع هاجري

وسرى كيان العُرب في شرياني

وسقيت بالنور الحماقة فارتوت

أغصان روحي من جذوع حناني

وبنيتُ في أرض الكرامة منزلا

زينته بالصفح والغفران

فإذا سألت عن المسافر في دمي

فاعلم بأن مفاخري أوطاني

وإذا سألت عن القريض وأرضه

فأنا القصيد وهذه أغصاني

من العتبة الأولى في القصيدة وهي عنوانها ( رسالة من فتاة مجهولة ) ــ يلوح الإحساس بالتجهيل مفتاح القصيدة الذي يستطيع فض مغاليقها، فهي (رسالة) بكل ما تستدعيه الرسالة من ضرورة فتحها وقراءتها،، وهي (من فتاة) بكل ما تستدعيه المفردة من إثارة النخوة العربية تجاه الأنثى للتعاطف والوقوف معها، وهي (مجهولة) حتى وإن كانت معروفة للجميع، لأنها في الوقت الذي كانت تنتظر فيه التكريم لم تجد سوى التجاهل والتجهم .

لقد كان بدء القصيدة الأنثوية بهذه الروح الحالمة التي تستمد رومانسيتها من مفردات الطبيعة منذ أول بيت وحتى آخر بيت بدءا سحريا بامتياز، وقد ساعد في شد القصيدة برباط من وحدة الموضوع والمشاعر، فالأنثى وردية حالمة في الشطرة الأولى (وردية الأخلاق كالريحان)، وهي تتمسح بأركان العقيدة متمثلة في رمزها المكاني (مكة) ورمزها اللغوى (التبيان) في الشطرة الثانية : ( مكية الأركان والتبيان)، ومن ثم كانت الأنثى مفردة لغوية في أرض القصيدة العربية بامتياز في البيت الأخير، فجذعها القصيدة وأغصانها هذا التفاخر الذي أترعت به القصيدة بأبياتها الأربعة عشر حيث تقول :
وإذا سألت عن القريض وأرضه

فأنا القصيد وهذه أغصاني

وما أجمل هذه الرسائل المضمونية التي اشتملت عليها القصيدة، ففي البيت الأول تأتي رسالة الوداعة والسلام متمثلة في الورد والريحان :
وردية الأخلاق كالريحان

مكية الأركان والتبيان

وفي البيت الثاني يأتي تأكيد الهوية المصرية التي تستقي عزتها وشموخها وصفاءها من صفاء مياه النيل :
مصرية لو قيل ألف قصيدة

ما عكرت في النيل صفو بياني

 

وفي الرسالة الثالثة تأكيد على الهوية العربية التي تستمد نورها من قبس القرآن الكريم:
أنا من أصول عروبةٍ مصباحها

قد أوقدوه بنعمة القرآن

ثم تأخذ الشاعرة العزة بالحق، فتسري روح الفخر في عروقها بمجرد ذكر العروبة، فتتكرر (الأنا) التي تبث الدفء في الحروف، وتبعث الرحيق في نبض القصيدة :
أنا من أصول عروبةٍ مصباحها

قد أوقدوه بنعمة القرآن

انا عنفوان الحرف حين أبثه

دفء الحروف على هزيج لساني

أنا ألف وعد ما أراق رحيقه

نبض القصيد ولا هوى بمكان

ثم تخضع لمغريات الصورة في الأبيات، فتذكر أن أصل الرحيق وهو الزهر يشهد على انتمائه إليها، لكنه ليس مغرورا كما يظن، لأنه يستمد فخره من رضوان المولى عز وجل حيث تقول :
الزهر يشهد لي ويسكب لمستي

عطرا يفوح بنفحة الرضوان

وتلوح صورة الليل والبحر ــ وهي صورة عربية أصيلة تواتر عليها إبداع الشعراء منذ امرئ القيس ــ مسيطرة على المشهد الرومانسي الحالم الوديع، فالشاعرة تستطيع زراعة الكوكب المضيء على جبين الليل، لأنها قادرة على ريه من روحها ووجدانها، لأنها نفس حالمة بالحب والسلام، وهي لا تطمع في أكثر من شعورها بعربيتها ومصريتها.

وقد كانت الشاعرة قادرة على السيطرة على مفردات قصيدتها، فحروفها سابحة بمهارة في بحر الشعر، ومسكها العربي الأصيل يسرح في شذا أوزانها العربية الأصيلة
وعلى جبين الليل أزرع كوكبًا

يُروى بهمس الروح والوجدان

نبض الحروف ببحر شعري سابحٌ

والمسك يسرح في شذا أوزاني

ومن ثم تخضع لمغريات الصورة مرة أخرى في البيت السابق فتؤكد على رسالة هامة، تريد لها أن ترسو في ذهن شانئيها الذين غادروا المواني يائسين من الوصول إلى غرضهم، حين رأوا الكيان العربي ساكنا شريانها:
وعلى مواني اليأس أقلع هاجري

وسرى كيان العُرب في شرياني

إن مفردات الطبيعة العربية والإسلامية حاضرة بكثافة في كل مشاهد القصيدة : فالأغصان والجذوع، والأرض والمنزل والصفح والغفران، والسفر والوطن، والقريض والقصيد، كلها مفردات رشحت لبيت القصيد في القصيدة، الذي يتمثل في قول الشاعرة:
فإذا سألت عن المسافر في دمي

فاعلم بأن مفاخري أوطاني

 

لأن الحنين المسافر في دم الشاعرة ممتلئ بحب الوطن والفخر به، وسيظل مسافرا في وريدها طالما ظلت هي مغتربة عن هذا الوطن .
لقد أعادت القصيدة إلينا روح المهجر، ورومانسية أبولو، وفخر العرب الأوائل بأرضهم وتراثهم بكل تألق وامتياز، ساعدها على ذلك سرعة إيقاع الكامل المضمر في أغلب تفعيلاته، ونون الروي التي دأب استعمال الشعراء لها في كل ما يثير الشجن ويبعث على الحنين .
إنها تجربة رائعة فكرة وأسلوبا وصورا وموسيقا .. آمل أن أقف على مثل هذا الإبداع في صفحة شعرائنا وشواعرنا، في زمن عصف به الداء، وتبدلت فيه القيم، وصارت التبعية فيه لذوي المناصب الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here