أنا الموجوعُ
موجوع ودمعي سال
حين فراقْ
تركتُ القلب بين يديك
يلثم قبلة وعناقْ
يمنّي نفسه
باق
وكان قطاره قد ساق
تستهل القصيدة بوصف حال الشاعر وهو مقبل على مغادرة بيروت.. فالشاعر موجوع والوجع هو شدة الألم الناتج عن المرض، وسبب مرضه ووجيعته هو ذلك التمزق بين الرغبة في البقاء وضرورة السفر.
ولعل الشاعر أبدع في وصف حالة الوداع الاضطراري وشخص ولخص ذلك التناقض والتضاد الشديد بين الرغبة والواجب. فجل معاناة البشر ناتجة عن الاصطدام بين مشاعرهم ورغباتهم الحقيقية وميولاتهم وبين ما يمليه عليهم الواقع والظروف والواجب.
أنا أبكي
نعم أبكي
أعيبٌ دمعة الفرسانْ
يعود الشاعر ليؤكد على بكائه، فهو إنسان متفاعل مع المحيط والعالم، وإن دموع الرجل مهما كان قويا لخير دليل على إنسانيته وعلى أحاسيسه المرهفة وعلى صدق مشاعره.
وقلبي ها هنا
قد ظل ذكرى
أجمل الأزمانْ
ويبدو أن القلب أيضا انهار وسقط مع الدموع.. لكن هذا السقوط وهذا الانهيار سيظل ذكرى جميلة في زمن جميل، رغم كل ما تعانيه لبنان من حروب أهلية وصراعات طائفية داخلية..
أعتّق حبها صبّا
نزيفا
صُبّ في الأوراقْ
يُقلّب كل أوجاعي
وينثرها
بلا ترياقْ
ولعل هذا ما عبر عنه الشاعر بالنزيف، نزيف هذه المدينة التي سالت جراحاتها وتناثرت فوق الأوراق التي يبوح لها الشاعر بحزنه وأوجاعه. وهذه الأوجاع والآلام ليس لها علاج أو ترياق، فهي مستمرة كما ستستمر أوجاع الشاعر بعد الفراق.
ولي في الحبِّ
أغنيةٌ..
وبعضٌ من صراخ
الطيرْ
ونصف جناحه المقصوص
حتى اضطرّه
للسيرْ
وريح عاصف شوقا
على بيروت
موج الخيرْ !
والشاعر هنا كالطائر الجريح المقصوص الجناح الذي يغني للحب وللشوق رغم إحساسه بالعجز .
سأنحت٠٠
في جبال الأرز
لي كهفا
أؤوب إليهْ
ولا يبقى للشاعر إذاً إلا أن يتمنى المكوث في أرض بيروت قريبا من جبال الأرز، ولو في كهف يحقق له نوعا من السكينة والهدوء..
تعبتُ أنا٠٠
من الدنيا
أنومي فيه عزَّ عليهْ!
ومما لاشك فيه، أن بيروت بطبيعتها الخلابة تسحر قلب وروح أي شاعر حقيقي، فلا يستطيع التعرف عليها والمرور منها مرور الكرام.
جُننتُ أنا ببيروتٍ
بلاد الله
والإنسانْ
هنا الملكوتُ
في الأهداب يسرح مثل
غصن البانْ
هنا موت رديف الحب
تسعى بينه
الأكفانْ!
جنون وحب حتى الموت، هذا هو الثلاثي الذي يلخص تجربة الشاعر وإقامته في لبنان. طبيعة جبلية متميزة وجمال سارح لا حدود له، هما لا شك يشكلان مصدر إلهام متواصل لشاعر كأحمد حضراوي.
جنون٠٠
أنت يا بيروت فيك
أنا٠٠
عرفتُ غرامْ
عشقتُ الدمع في عينيكِ
تُسكب للحبيب كلامْ
فما عيشي
بعيدا عنكِ
لو فتوى تقول: حرامْ !!
جن شاعرنا ببيروت، وعرف فيها معنى العشق والغرام.. فكيف يصبح مضطرا للابتعاد عنها؟ معادلة صعبة!
معادلة الدموع
على٠٠
عيون الشوق
والأهدابْ
تسكّع في جمال الروح
يعكس رقة الأحبابْ
وكف الليل تأبى غير
أن تخنُقْه في
إرهابْ!
رقة وجمال وحب متبادل.. لكن المؤامرات التي تحاك ضد البلد تجعلها تعيش حالة من الرعب والإرهاب.
هنا
وهناك طيف القدس
في جب الأسى
كاسر
وهكذا يتذكر الشاعر القضية الفلسطينية -وهو يرى القدس من أقرب جغرافيا إليها يقف عليها بقدميه- وما تعانيه هذه المدينة المقدسة من ركود وجمود وغرق في جب لا نهاية له ولا نجاة لها منه، ولا ينسى ذكر المؤتمرين عليها وهم نفسهم من يلطخون بيروت بالدماء والأحزان.
تحيك لها
كفوف الليل نصف
ردائها القاني
يشبه الشاعر المدينة بفتاة ترتدي فستانا ملطخا نصفه بالدماء، من هول ما فعله بها مغتصبوها.. وحبيبها شاعر سلاحه الوحيد نبضات قلبه والتهاب مشاعره وخفقاته التي تأبى إلا أن تسيل على الأوراق، معبرة عن احتراقها وعن أشواقها ولوعتها.
حبيبٌ..
تحت خط النار
يرسل نبضه
طلقاتْ
من العدوان ملتهب
يدوّن شوقه
خفقاتْ
وبين الماء
بين النار مجبول
على الورقاتْ..
ولا ينسى أحمد حضراوي أن يتذكر منفاه وغربته ووحدته التي يتحدث عنها في العديد من قصائده:
بلا وطن
أثير التيه في منفى
من الأوطانْ
بلا حب
أثير القلب في يقظاته
أحزانْ
وبعض شموخ أشعاري
تذكّر أنني
إنسانْ..
يثير الشاعر هنا تلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والوطن والمنفى، وتلك المفارقة الصعبة الغريبة التي تجعل الشخص البعيد عن وطنه دائم البحث والالتصاق بهويته الأصلية، رغم كل ما يمكن أن تسببه له من أحزان ومواجع.. فبيروت رغم مكانتها في قلبه ليست وطنه الأم ولا بلجيكا أيضا، والذي هو مجبر على الرجوع إليها..
إذاً إذا كان الشاعر بلا وطن فهو أيضا بلا حب حقيقي ،لأنه قد يعاني إضافة إلى الغربة والوحدة من شتى أنواع العنصرية والتهميش لكنه يبقى إنسانا وشاعرا شامخا وصادقا في انفعالاته وأحزانه، وحمله لهواجس وهموم وقضايا أمته العربية..