القصيدة:
عانق أخاك فإنه الإنسانُ
فبحضنه يتكامل الإيمانُ
عانق أخاك كلاكما من آدم
وجميعنا، ما أنزل الرحمانُ
هي صرخة الصلصال في أعماقنا
في بثها تتغير الألوانُ
صار التراب بلادنا وبلادهم
وفما بنا قان ونحن القانُ
في رعشة الشفة المليئة لثغة
كلماتها الناقوس والآذانُ
كلماتها كل الجباه إذا انحنت
لله حتى تخشع الأركانُ
نهر تفرّع في كؤوس غرامنا
وشقائق التكوين هم صنوانُ
هذا يؤم مسابحا بيمينه
وسواه جوهر سَبحها الأديانُ
شبكت دروب القرع عشا طائرا
فلم الطبول وقرعها العنوانُ؟
تلك المقابر فارغاتٍ لم تزل
في ملئها يتنافس الإخوانُ
قابيل يحفرها وينحت لحدها
لو غيّر اسما كله أحزانُ
لو كان هابيلان، كانت حرة
بجمالها يتشقق الهذيانُ
وبلحظها انطفأت سفين شراعها
في إثرها ما أجهش الطوفانُ
في فأس إبراهيم نِحلة صخرة
جُسّت لساعة هدمها النيرانُ
ولموج موسى قبضة مفتولة
شِيدتْ بها في حطة قضبانُ
بخطى المسيح تسيل خبزا طيبا
للجائعين وزيتهم غفرانُ
نصف الحقيقية أغمضت جفنا لها
بتمامها قد أُحكم الفرقانُ
سبط الظماء مشى لزمزم كوبها
فاشتُقّٓ منها الكأس والفنجانُ
قرأٓتْه عينُ الموبقات فأرسلت
كحل النذير وفصله الميدانُ
في كل بيت رحلة مجنونة
شاشاتها خوف له أسنانُ
قد نال لحم العالمين جميعهم
وتفرقت في نعيهم مذ كانوا
صفةُ الزمان مجازر موتورة
وكأننا في وِترها الإعلانُ
لم نرق، كل صفاتنا حجر على
كتفيّ سيزيف، له القيعانُ
آهاتنا متدحرجات والأسى
مُلك الصفات محله التيجانُ
ها نحن نسقي ما الملائك بشرت
في الأرض لما ساءل الرحمانُ!
ما أعظمها من قصيدة!
دعوة للإخاء، إخاء الإنسان للإنسان من أي دين من أي معتقد، في أي البلاد كان، مهما كان لونه، المهم أنه إنسان وكفى.
نعم أحمد حضراوي نحن في زمن كهذا، وسط ما نحن فيه من جنون سفك الدماء، إزهاق الأرواح، تهاوي القيم، ضياع الفضائل، غياب الحكمة عن عقول البشر، نعم نحن بحاجة ماسة إلى ما ومن يحقن هذه الدماء. بحاجة إلى معيار يجتمع الكل حوله، ذاك الغائب الغائب، هابيل، فلم يبق فينا إلا قابيل يسكن كلا منا. قتل هابيل وما حمل أحد منا جيناته، قتل هابيل وقتلت معه الإنسانية، قتل هابيل مرتين، مرة على يد أخيه، وها هو يقتل الآن.. يقتل في كل مكان وأمام أعيننا ولا من يدافع عنه. قتل من قال لأخيه: “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك.. “.
ليتهما كانا هابيلان -كما قلت حضراوي- لكنه الامتحان والابتلاء في هذه الدنيا ما أراده المولى. وكيف يكون اختيار دون ابتلاء، وكيف تكون حرية دون خيارات.؟!
صدقت هذا خيارنا، صدقت إذ قلت:
“وفماً بنا قان ونحن القانُ”
وصدقت بقولك:
ها نحن نسقي ما الملائك بشرت
في الأرض لما ساءل الرحمان!
امتحننا الله منذ فجر الإنسانية وما زال الامتحان قائما لقابيل فينا. وقد يسرت لنا سبل الحق “فإما شاكرا وإما كفورا”، فأين نحن من سبل النور والهداية؟!
لكن كفة الميزان عادت واعتدلت حين استسلم “إبراهيم” عليه السلام لأمر الله، حتى كاد أن يضحي بحشاشة فؤاده حبا في الله وطاعة له، لا حقدا ولا غدرا ولا حسدا. هنا اتضح معدن الإنسانية، هنا ارتقى الإنسان إلى ذروة سنام روحه، إذ شرع في تنفيذ ما ظنه أمرا إلهيا وما هو إلا امتحان -ابتلاء-، فكان الفداء لطفا من الله فينا نحن البشر قبل أن يكون لطفا بالأب وابنه. لكننا لم نع الدرس وبقي قابيل فينا قائما متمردا على فيض رحمة الله. أراد “إبراهيم” أن يتخلص من كبرياء قابيل الأجوف، أن يكون عبدا لله خالصا مخلص العبودية لا لشهواته ودونيتها بل لله وحده. وأسأل نفسي وكل إنسان حي لم كل هذا الشر متجذر فينا بالرغم من كل هذا الهدى الرباني. أما كان الأجدى والأجدر بالإنسان أن يعي، أن يتعظ، أن يحل السلام والأمان والرضى محل التقتيل والحقد والظلم والتظالم. أن تحل الحكمة محل الرعونة والسفاهة والحمق! أن نصبح جميعنا مسلمين لله الواحد الأحد، مسالمين لبعضنا البعض!
لكن الإنسان بدل ذلك ازداد رعونة حتى حاول متمثلا في فرعنة فارغة أن يؤله ذاته متصورا أنه يحيي ويميت، حتى قال “.. أنا ربكم الأعلى” فوصلت غطرسته شأوا بعيدا ليقول “.. فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين..”. وكذا حاول من كفر بالمسيح صلبه والقيام بتعذيبه، لكن الله رفعه إليه مكرما.
“وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً”. سورة النساء 157-158.
وجاء دين الحق يوضح ويبين لكن بقي الإنسان على ضلاله القديم، بل ازداد ضلالا على ضلال وهذه أيامنا تشهد بذلك.
ولا ننسى صورة متخيلة للإنسان كإنسان من خلال أسطورة “سيزيف” في مقال قدمه “ألبير كامو” حاول فيه شرح فلسفته حول “العبث”: بحث الإنسان عن المعنى، تطلعه لوحدة العالم والوضوح، في عالم غير مفهوم، عالم من دون الله ومن دون أي حقائق أو قيم خالدة. ويتساءل هل الإحساس بشعور “العبث” يدفع إلى الانتحار؟ كامو يجيب: “لا، بل يدفع إلى الثورة”.
هذا الإحساس بالعبث واللامعنى يكون في قمته فعلا عندما لا يدرك الإنسان مهمته فوق هذه الأرض. عندما لا يعي دوره، عندما يتصور أنه فقط ذلك الجسد الذي يتغذى، يحيا لفترة من الزمن ثم يبلى ويفنى. لو أدرك إنساننا أنه آية من آيات الله، لو علم أن فيه ما لا يفنى، وأنه في هذه الحياة يبني مستقبله الفعلي من خلال إثبات بصمته هنا، فوق جدار الحياة لينقله إلى الضفة الأخرى. ليعبر إلى عالم آخر. ولن يعلم ذلك إلا من خلال دين سماوي يسمو به عن ماديته إلى روحانية هي ما ستضمن له ذاك العبور. لكن الإشكالية الكبرى تكمن في ذهن الإنسان، في كبريائه الفارغ، في اعتقاده أنه بعقله وحده يمكنه النجاة، وفي العقل نجاة حقا لكنها منتقصة إن لم تتوجها قيم الدين. العقل نور وهبه الله لنا، نور ذاتي فينا، لكن زيته من شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية، نور لا بد له أن يتصل بنور الله ليكتمل. فما بعث الرسول الكريم إلا ليتم مكارم الأخلاق، ومكارم الأخلاق قيم إن طبقناها وعينا دورنا في الحياة، وانعدمت العبثية، وساد السلام والأمان والاطمئنان النفوس. وأصبحنا من الحكماء. عندها فقط تبطل أسطورة “سيزيف”. فهلا حاولنا!