بداية نعطي لمحة عن الشاعر أحمد حضراوي، وهو الذي لم يساعدنا في ذلك لأنه قليلا ما يتحدث عن نفسه -إذ لا يترك إلا شعره ليُعرّف به كما يقول دائما- فاستجمعنا ما استطعنا استجماعه من معلومات عنه، نعلم جيدا أنها قليلة جدا وغير كافية البتة للتعريف به، لكن هذا جهدنا وهذا ما استطعنا الوصول إليه بمشقة.
أحمد حضراوي شاعر وروائي وإعلامي مغربي مهجري، من مواليد مدينة وجدة، خريج كلية الحقوق بوجدة، وصاحب الموقع البلجيكي المغربي: الديوان.
يؤمن بأن عاطفة الشاعر وموقفه اتجاه المواضيع أو التجارب أو المواقف التي يمر بها، لابد أن يتم التعبير عنها بصدق باستخدام الصور البلاغية والموسيقة
الشعرية للوصول إلى الغاية المرجوة منها.
عشقه للشعر والثقافة العربية، حفزه على تأسيس جمعيات ثقافية عديدة آخرها المقهى الأدبي الأوروعربي في بروكسيل، التجربة التي نجحت واستمرت منذ 2014 حتى اليوم.
له مجموعة دوواوين تفوق السبعين، لم ير النور منها إلا:
– ديوان آمنت بالإسلام وبالمسلمين كفرت – 1996
– ديوان شذ رات 1 – 1996
– ديوان شيء من المنفى – 2011
– دوان الدموع الملتهبة، وهو ترجمة لديوان والدته عن الفرنسية – 2015.
رواياته الصادرة :
– في شراك أحمد بخيت
– عصابة شيرين وببلادي
– شيشنق
:موضوع القصيدة
لماذا اختار الشاعر أحمد حضراوي “أحمرٌ على شفاه البرزخ” كعنوان لقصيدته؟ وما هي دلالة هذا العنوان، وكذا موضوع القصيدة؟ وما أهميته بالنسبة للشاعر؟ وهل هناك مناسبة حفزت الشاعر لكتابة هذه القصيدة؟
قبل محاولة الإجابة على هذه الأسئلة كلها، علينا أن نعرف معنى البرزخ بداية، فالبرزخ هو الحياة التي تأتي ما بعد الموت، وهي حياة جديدة تبدأ مع اللحظات الأولى من قبض الروح، ومن ثم العروج بها والرحيل إلى الدار الآخرة.
فالحياة البرزخية تتميز بسمو النفس على كل من الجسد والروح. والروح تتعلق بالجسد تعلقا خاصا، فرغم مفارقتها له، إلا أنها تعود إليه فور سؤال الملكين عند نزوله إلى القبر،وهذه عملية إعادة الروح إلى الجسد قبل البعث.
هنا نفهم لماذا اختار الشاعر أحمد حضراوي عنوان “أحمرٌ على شفاه البرزخ”. فالشاعر يشبه حالته العاطفية بالحياة البرزخية. بل وأضاف لكلمة البرزخ “أحمر الشفاه”، لأن الشعر يختلف عن النثر، فهو يتميز بالخيال أو الصور الشعرية. والمعروف عن الشاعرأحمد حضراوي، أنه يختار عناوين قصائده بعناية شديدة، ويرش عبارات الخيال في كل عنوان جديد مثلما يستعمل عادة في قصائده.
وقصيدة “أحمرٌ على شفاه البرزخ” تنتمي إلى شعر البوح، حيث أن الشاعر أحمدحضراوي يبوح لنا فيها بغرامه لحبيبته في شكل قصيدة شعرية. وقصيدته تتوفر على عناصر البوح الأساسية المشابهة لاعترافات إيحائية غير صريحة،تكاد تبين عن أحداث ووقائع لكنها لا تفعل،وتكاد تعطينا وصفا لكنه وصف خفي، وتكاد تحملنا إلى جو حوار لكن لا حوار، وتكاد تحيطنا بخبايا القصة والحبكة والنهاية، ولكنها مجرد انطباعات تنطلي على القارئ فلا يجد منها إلا أثر السحر في نفسه.
شكل هذه القصيدة عمودي، وهي تضم مجموعة من الأبيات، قد نقرأها بشكل مستقل كما قد تترادف لإعطاء معنى حين تجتمع في سياقها الطبيعي.
وموضوع هذه القصيدة “علاقة الشاعر بمحبوبته التي شبهها بحياة البرزخ من أحمر شفتيها” مرتبط ببيئة الشاعر أحمد حضراوي: البيئة الشرقية التي تعلم فيها احترام المرأة ومنحها الحب العميق، رغم تغزله بها وبتفاصيل جمالها الذي يتجاوز المتعارف عليه أحيانا حتى في أشد أبواب الشعر جرأة، لكن أسلوبه التمويهي يوصلنا أحيانا كثيرة إلى خدر معشوقته، ثم يفاجئنا بإسداله ستار التمويه اللغوي عليها فلا نراها كما توقعنا -عارية من كل لباس-، لنتفاجأ بستار المعنى الجديد الذي حال بيننا وبين مارسمناه في مخيلتنا لمعشوقته -العارية إلا من حبه-، وهذه حبكة شعرية لا يستطيعها إلامن أتقن لغة الضاد واستعملها بذكاء شديد .
ولاننسى أن العديد من شعراء وكتاب عصره يهتمون بهذا الموضوع. أما مناسبة كتابةهذه القصيدة، فلا يستطيع أن يبينها سوى الشاعر نفسه.
:الأفكار والمعاني والموسيقى الشعرية
:تنقسم قصيدة “أحمرٌ على شفاه البرزخ” إلى محاور رئيسية عدة
يبدأها الشاعر بتصوير مشهد غرامي له مع محبوبته، حيث يسألها إن كانت تحبه؟ وككل امرأة خجولة تلوذ بالصمت. لكنها سرعان ما تتجرأ وتستجيب لسؤاله، رغم صدها له بداية الأمر، فالمعروف لدى النساء “أنهن يتمنعن وهن الراغبات”.
ثم يصف لنا بعد ذلك منظرا غراميا رومانسيا عاشه أو يتمنى أن يعيشه مع محبوبته، حيث
يشبه الشاعر لقاءه بمحبوبته بأول برزخه، وعصارة التأويل حين تنال. فروح الشاعرعادت إلى جسده بعد لقائه بمحبوبته. وهنا نلمس علاقة عنوان القصيدة بموضوعها. حيث أن شفاه حبيبته حملت رضابه وأرسلته إلى حياة البرزخ، وأحمر شفاه البرزخ هوأحمر شفاه محبوبته، وكأن تحقق أمنية تقبيلها لم يكن إلا في ساعة عمره الأخيرة التي ما بعدها إلى الموت، ووداع أبدي على أمل بعث في عالم ما بعد الموت.
وبما أن البرزخ هو حياة تأتي بعد الموت، فهذه القصيدة هي كتلة مشاعر وأحاسيس وتمنيات للشاعر، يرجو أن يعيشها مع حبيبته قبل مماته. لحظات حب يترجمها في قصيدته بشكل محترف، يجعل القارئ يتجول بين الصور الشعرية، وكأنه يشاهد مشهدا رومانسيا لبطل القصة الذي يحكي حكاية عشق يتمنى أن يعيشها مع محبوبته.
الجميل في هذه القصيدة، هو أن الشاعر أحمد حضراوي استطاع توظيف عبارات لغة الضاد بشكل ذكي، تجعل القارئ يشاهد فيلما رومانسيا لحبيبين يعيشان نشوة الحب في أعلى مقامه.
ليس كل من يقرأ قصائد الشاعر أحمد حضراوي يفهم معناها، فاستعماله المفردات والمعاني غير المألوفة مثل “البرزخ” و”عصارة التأويل” و”رضاب” و”الإسدال” وغيرها من الكلمات، تحفز القارئ البسيط على البحث في المعجم عن معاني هذه الكلمات وغيرها كثير. بل يتفنن الشاعر أيضا في مزج الكلمات ومنحها صورة وموسيقى شعريين، مثل قوله “لمسالك قد صدها الإقبال”، و”عصارة التأويل حين تنال”، و”كل العروق يسوقها الترحال”.. فالشاعر أحمد حضراوي نجح في توظيف أسلوبه الشعري واختيار الكلمات المناسبة لصوره الخيالية والتعبيرية لينقل للقارئ إلى ما يجول في خاطره ويسكن قلبه. وهنا يمنح الشاعر أحمد حضراوي قصيدته خيالا كليا، حيث تصبح برُمَّتها حكاية حب يتمنى ويرجو أن يعيشها مع محبوبته. ويمنح الشاعر قصيدته “أحمر شفاه البرزخ” خيالا جزئيا، يتمثل في الصور البلاغية والمجازات والتشبيهات التي وظفها.
ولاتخلو القصيدة من الإيقاع أو الموسيقى، فــ”أحمر على شفاه البرزخ”، تكمن موسيقاها في مصطلحاتها المنتقاة بدقة من القاموس العربي الأصيل والحداثي أيضا، إضافة إلى احترامها لقواعد الشعر العمودي المعروفة من بحر ووزن وقافية وروي.
وختاما، فقصيدة “أحمر على شفاه البرزخ” هي سمفونية شعرية بامتياز، مختلفة عن قصائد شعراء عصر الشاعر المهجري أحمد حضراوي، فقد جدد فيها كما هو دأبه في كل قصائده، أثرى فيها، بعيدا عن التقليد لما سبق. ويمكنني أن أقول وبدون تردد، إن الشاعرأحمد حضراوي لا ينتمي تحديدا إلى أية مدرسة شعرية قديمة أو جديدة، بل أزعم أنه استطاع أن يؤسس لمدرسة شعرية جديدة، قد تعرف بــ”المدرسة الحضراوية”.
رابط القصيدة: