قراءة في ديوان “تقاسيم على الجسد” للشاعر نور الدين قبة ــ ذ. مالكة عسال

0
995

خلخلة السكون الرهيب يوهج الذاكرة لصناعة الفرحة
1ــ بوابة الديوان :
ديوان أنيق من الحجم الصغير يضم 20 قصيدة تتمدد على 62 صفحة ،تتركب عناوينه من لفظة أو ثلاث ألفاظ ..وقبل ملامسة الأضمومة ،لابد من المرور بظل خفيف ،على العتبة النصية كبوابة مُوجهة تُيسر لنا لحظة القبض على النصوص …
***الغلاف :
في الحافة اليمنى من الغلاف طرز شاعرنا بياضه بلوحة معبرة ، متوجة بكلمة ” شعر “باللون الأسود ..واختار معه كتابة العنوان باللون الأحمر ، فانعقدت الألوان الثلاثة في لفافة ساحرة لتزيد الديوان رونقا ، وقبل ولوج واحة اللوحة ، استدرجني العنوان لفظا ومعنى “تقاسيم على الجسد ” كجملة تامة تتكون من الخبر لمبتدأ محذوف تقديره “هذه”، وجار ومجرور من لفظتي “على الجسد”، والجملة ترمي إلى دلالات عميقة كما سأوضح لاحقا …
لنعد إلى كلمة “تقاسيم”: والتي تتداول بمعنى ترانيم أي ألحان منفردة على أنماط موسيقية معينة ، والتي تعني أيضا ملامح الوجه .. فلغويا لها معان كثيرة ، وتتداول بأشكال مختلفة في صياغات تعبيرية عانية .. لكن ما القصد” بتقاسيم على الجسد ” من منظور شاعرنا نور الدين قبة ؟؟؟؟
إذا دققنا النظر فيها كبوابة تحيلنا إلى المعنى والدلالة المقصودين في القصائد ، نجد أن شاعرنا قد وظفها بشكل رمزي مختلف، عن مفهومها العادي المعروف ، لينطقها بأشياء غير متداولة بدلالة رمزية ، تعبيرا عما عاناه ويعانيه الجسد من أضرار جسيمة وجراح غائرة ، وتأثرات سارة كانت أم ضارة …
***اللوحة :
ومن الإيحائي في العنوان ، انتقل شاعرنا نور الدين قبة إلى المباشرة في اللوحة ، بصورة فتوغرافية لشلالات عذبة دافقة ، عبر منحدرات حافرة بسيلانها وجريانها مخلفة خطوطا عميقة ، ورغم ذلك فاللوحة لم توضع عبثا ، بل يقصد بها الشاعر جريان الزمن ، وما يخلفه في تضاريس الذات من آثار مفرحة أو مؤلمة إثْر انصرامه ستظل محفورةً  في الروح والقلب والوجدان، وهو تعبير صريح شفاف ، لكنه ينثني على خلفيات لا يعيها إلا الكاتب نفسه .. كما لا يني أن يوشح الشاعر الدفة اليسرى من الغلاف بصورته الشخصية ، وقطعة جميلة في البعد الوطني ، مما يدل أن شاعرنا نور الدين قبة مُلهَم بعشقه الوطني حتى النخاع …
***الإهداء :
في الصفحة الثالثة توقف القارئ فقرة الإهداء المتميزة ، التي ينطلق فيها الشاعر من أسرته الصغيرة إلى الأقارب ، فالأصدقاء ثم الإنسان بوجه عام ، مما يبين بالكاد مايتحلى به الشاعر من رهافة حس ، ومشاعر ساخنة تنضح بالحب والمودة والتقدير تجاه الإنسان ، وهذه خصلة أخرى محمودة إلى جانب الوطنية …
يعقب الإهداء في الصفحة الخامسة ، مقدمة محترمة من الناقد الفلسطيني أحمد دحبور ، الذي يقول في شهادة مشرفة في شاعرنا نورالدين قبة ((شاعر مغربي يلمع في عالم شعراء القصيدة الجديدة في المغرب الشقيق ))، وأنا أشاطره الرأي لأنه منذ لمسَتي الأولى لصفحات الديوان شدتني النصوص بحرارة ، واستمتعت بما نحتته من الواقع الموبوء من رخام بألوانه القزحي ، وما نثرته من جمال في المساحات الذميمة الفائرة بالقبح والنتانة ، وما طرحته من استفسار حول أسرار الحياة المبهمة ، وما تتميز به من جمال يخلخل مهجة القارئ ويربكها في نفس الوقت …
2ـــ الأضمومة :
أي إبداع مهما اختلف شأنه من شعر أو سرد أو نحت أو تشكيل ، لا ينزل وحْيا من السماء دون مقومات ، أو مسببا ت ، أو عناصر تطبعه .. بل هو نتاج نصال تخز المهجة ، انطلاقا من تأمل تحس خلالها الذات المبدعة بتوتر شديد ، فتترجم إحساسها وفق حدوس وطقوس معينة إلى إبداع ، فكذا شاعرنا نور الدين قبة ، فقد امتص جراحه عن كمد في صمت ، ثم ترجمها إلى محلول شعري لتسكن الذات الشاعرة وتهدأ.. فدخلت غابة الشعر دون استئذان ..:
سكت القلب عن الخفقان
ليخرج الشعر عن صمته
يا روحا اعتنقت هوية الشعر
أناديك من بوابة الحزن
ص:14
فالشعر هو البلسم الشافي لقروح الجراح ، وهو الصرح الجميل الذي تأوي إليه الذات المنكسرة ، بعد تأملها تفاصيل العالم بكل أبعاده الكونية والإنسانية والطبيعية التي تسير عكس التيار ،لا مفرّ من أن تعصر الذات ملوثاته وقبحه نبيذا أو تحول قاحلَه واحات وبساتين ، ثم ببصمة الخلود تشِم صفحات التاريخ ..:
حدثتني عنك القصيدة
وهي تشيعك إلى الخلود
الليلة سأرتوي من ماء شعرك
حتى الثمالة
ص:15
شاعرنا ينشطر بين ثلاثة أشياء أساسية وهي : الذاكرة ، والحلم والأمل ، ليتخلص بواسطتها من الأسئلة الملحة، التي جعلته يركض خلف جنونه ، وهذا قدر الشاعر، فحين يقترب من جواب لسؤال مستفز ، يتناسل سؤال آخر أكثر لبسا ، وأشد عمقا ، ولكنه لا يفقد الأمل ..:
فبدأت أنسج
خيوط الأمل
من قش الهموم
ص:20/21
فالذات الشاعرة تحاصرها عدة مواضيع ، تعتمل مطارقها في الضمير ، والجسد والروح ، ولا تدري كيف تستدرجها خارج تخوم التفكير والتأمل ، والتساؤل.. وهذا هو سر الإبداع ، بل الحافز القوي للذات المبدعة كي تأتي بالأجمل والأرقى ، من خلال شحنة صراع تحتدّ بين ما تأمله وتحلم به الذات المبدعة، وبين غياب الإمكانات والأدوات لتحقيقه ..
***الأمل :
على الرغم من الزوايا المظلمة التي تدحرج الذات المبدعة في متاهاتها ، التي تتعَب بالبحث في غسق الكوني عن مرفق نظيف، وعلى الرغم ما يعتريها من عُسْر للوصول إلى ما تصبو إليه ،فهي ما زالت متسلحة بالأمل ، وتركض خلف هواجس تنبئ بأفق مضيء وفجر جديد …:
قشعريرة تسري
كم أنا مهووس
بخبايا فجر جميل
ص:26
وما دامت بلورة الأمل تلألأ أمامها ، ستظل الذات المبدعة تحلم بتغيير الأوضاع ، لتحقيق الحلم المنشود …
***السؤال :
حين يتلاشى الحلم وتفقد الذات المبدعة الأمل في الوصول إلى المحلوم به ترتكن إلى خلوتها ، تقلّب في فضاءات السؤال ، عن جواب للغز مبهم محير لأسرار الحياة التي تخصب المستحيل ، مستعينة بتجارب الماضي ، وحمولة الذاكرة علّها تجد جوابا مريحا للنفس المتعبة ..

علمتم صنع البارود
فتعلموه في لعبة القنص
إنه فضاء السؤال
ص:28
***البعد الوطني والإنساني :
فحين تتقاذف الذات المبدعة المدارات المتفاقمة ، ويتعبها الركض خلف مساحات الأوهام الشاسعة المطنبة بالرتابة والفراغ ، تتنفس الصعداء بانتمائها للوطن كبلسم شاف ، فتجد في صرحه الاستقرار ، وتحس برعشة الفخر بمجده وعروبته ، فتعزف بعشقها الصوفي له ، والتفاني في محبته والذود عنه ، فيتردد على أرضه الحلم ، ويزهر الأمل من جديد، ولا تتعبها قائمة الانتظار في تحقيق المبتغى ، لأنه في الفخر بمجد الوطن يتلاشى المتعب والمضني …
يقول ص:29
الوطن
سنبلة قمح
تصنع رغيف العشق
جرعة هواء
تشعرني
برعشة الانتماء
يبدو بالواضح أن الاستقرار النفسي هو النبع الأول للحلم والأمل ، بل الدعامة الأساسية لتحقيقهما ، أو المحفز القوي للانخراط في جملة من الهندسات والخطاطات للوصول إلى مشارفهما ، فكما شاعرنا نور الدين قبة غارق في حب الوطن حتى النخاع ، فهو يخصص غرفة دافئة للإنسان ، حيث يتقاسم معه على مائدة الصداقة رغيف الجراح والأحزان ، يبث له شكواه بما يجثم على صدره من صخر الألم ، ويحذر رفيق دربه الطاهر من الرذائل والغرور والأوهام ، وسراب الأحلام ..يقول ص: 50
يا صاح
ضع وهمك جانبا
فندى دمعك رقراق
ركام أحزانك وهم
فتات حلمك سراب
لهيب حزنك يحرقني
هي مرموزة إلى الإنسان كله ، ليرى الحقائق بعين الشمس ، أو يبحث عنها في حقائب التمويهات والمغلوطات ، دعوة كريمة من الذات الشاعرة للوعظ والإرشاد ، صادقة من القلب إلى القلب لغرس بعض القيم النبيلة في النفوس ، وقد أتت بها تجربة دققت الأمور بتأملها الثاقب في كنه الأشياء ، فكانت هذه الزفرة العفوية الصادرة من مكنون الروح ، انطلاقا من شروخ غائر …
***الشعر :
الذات الشاعرة منشطرة تخلخلها تصدعات غائرة ، تعيش توترا وانفعالا شديدين من واقع معلول وحياة معتمة ، تتناسل بطواحين ساحقة للبشر ، حيث أصبح العالم بأسره في أرجوحة الواقع واللاواقع ، يصطخب بالأهوال والأحزان والجراح ، تنحرف ظلاله نحو الدامس والمضني والمتعب ، لا حَل لمعضلاته ولا جواب لتساؤلاته ، هذه الأشياء مجتمعة هزّتها من جذورها ، فاتجهت نحو قلعة الشعر تركب موجه الهادر، لتستعيد توازنها ، وترمم بعذوبته شقوقها ..:
وأرتشف نسيم الشعر
من رحيق الحياة
لأربط جسر التواصل مع الذات
ص:27
وعلى الرغم من أن الشعر هو المعول الوحيد الذي بين يدي الشاعر نور الدين قبة ، للحفر به في جوهر الأشياء كي تتلاشى رتابة الحياة ، وتستعيد جمالها ولو في الخيال ، ورغم أنه في برج الكلمة ، وشعلة الحرف ينفض غبار الأحزان والآلام العالقة ، فهو لم يقتنع به كمنجز مكتمل ..:
هذا الشعر
العديم اللمسة
لايهمني في شيء
يا شاعري
ص:37
هي هواجس محفزة يركض خلفها الشاعر ، الذي يقفز على القمم ، ويتجاوز الكهوف والأغوار للوصول إلى القصيدة الناضجة المكتملة ، التي تؤدي دورها كرسالة نبيلة لا تنحني لإملاءات ، ولا تخضع لقرارات متسلطة ، ولا تكبلها جغرافيا مهما كانت حدودها ، ولا تشكلها رؤى مذهبية أو رجعية أو عرقية أو مادية …:
لا تمنحنا شعرا
على المقاس
لا ينعش الحلم
القابع فينا
ص،38
ركض تحركه أشياء تتورم في عمق شاعرنا نور الدين قبة ، لتحقيق الأمل الذي يراوده والإمساك بقبضة حلمه المنشود ، والإجابة عن سؤال جسيم منتصب ، فهذه الأشياء كلها مجرد أحلام تنبري وتختفي في أفق الشاعر ، سيظل مسكونا بها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها …:
هي غمرة
البوح الأزلي
تحمل تباشير
حلم عالم جديد
ص:42
فالشعر إذا هو ضمير الأمة المنافح عنها ، وهو لسان الطبقات المقهورة ، الفاضح لسبل التسلط والهيمنة ، الرافض للسلوك الوحشي الغادر ، المحارب لكل العلاقات الغابوية الوحشية ..الساعي إلى نشر المحبة والود والوئام بين البشر ، الداعي إلى قيم الخير والسلام .. هو المتنفس الأول والأخير للذات الشاعرة ..
كن ضمير العالم
الأنفاس
ضاقت كراهية
ص:41
***التيه :
فحين بلغت الذات الشاعرة أوج الإرهاق من أجل فهم الأشياء الملتبسة ، وفهم كنه المحيط المبهم ، توغلت من جديد في زوايا التأمل باحثة عن تفاحة الفرح في المجهول ، أو عن ابتسامة في الوجوه الكدرة ، أو عن طريق يفضي إلى المرفأ الوضيء ، فتاهت في تخوم متاهات متناسلة ، تتقاذفها بين أجنحة الغربة ، وهذا التيه المطلق إنما هو تيه في النفس الحالمة بالنظيف والجميل، وعسرها تحقيق ما تصبو إليه …:
أبحث عن معنى المعنى
فليس هناك معنى
أبحث عن لحظة تأمل هادئة
تعيد شعاع التوازن
ص:33
وهذا البحث المضني أفرزه التأمل في الأوضاع والإنسا ن ، والقيم النبيلة المندثرة ، في تحولات الحياة من السيئ إلى الأسوأ بالرؤى المطلسمة ، التي أصبحت فيها الذات الشاعرة محصورة بين ليال دامسة ومطارق تعتمل في النفس والذهن …:
أبحث هنا وهناك
عن الحلقة المفقودة
في طلاسم الرؤى
ص:34
وهذا التيه جعل الذات الشاعرة تحس بالغربة والحنين إلى اللمة وكؤوس الشاي ، مما يبين معه أن شاعرنا نور الدين قبة اجتماعي بطبعه ، ولكن الأوضاع المقهورة شرذمت قراره ، فأصبح يعيش أزمة نفسية ، ألبسته ثوب الغربة والوحدة والانعزال، وهي غربة في النفس ليس إلا ، وحتى يتنصل من وطأتها الطويلة يعود شاعرنا إلى الذاكرة يستعيد على مهبها طفولته …:
من فوق غيمة الدجى
أطل قرص
طفولة مشاكسة
ص:54
3ـــ الجانب الفني :
إن التواصل إلى الإيقاع الخاص والموسيقى المستقلة هما الشرطان الأساسيان لمنح قصيدة النثر هويتها ، بقفزة نوعية على الإيقاعات المقننة الكلاسيكية للاستجابة لتجربتنا المعيشة وحياتنا الجديدة ، فهي ليست رغبة عابرة للتجديد ، بل ضرورة فرضتها السيرورة التاريخية بكسر القيود والرتابة والتحرر من القوالب الحصينة الثابتة التي تقف في وجه التطور.. ناهيك عما تحمله من حُلل تتنوع بين الصورالشعرية ، والتراكيب الانزياحية والإيحائية والرمزية ..
تأملوا معي هذه الشذرات الجميلة وما تزخر به من متعة وجمال :
وزقاق القلب
المؤدي إلى طنين الرأس
يرهبني
ص:35

***اللغة :
البناء اللغوي قائم بذاته، كل لفظة أخذت مكانها على مقاسها تؤسس للممكن ، بمتانة ملفتة سليمة من الركاكة والأخطاء ، تخاطب في القارئ روحه وفكره وخياله ، تضرب السهل الممتنع في عمقه ، مطرزة بصور شعرية تميس بين الرمزي والمباشر،  فالمجموعة الشعرية إذاً بهذه الخصائص أصبحت في متناول مختلف الشرائح الطبقية بما فيها مَن هُمْ على مستوى محدود من الثقافة …
***التكثيف ووحدة العضوية :
أضف إلى ذلك فقصائد شاعرنا نور الدين قبة صيغت ببناء جماليات فريدة ، متجاوزة الشروح والفائض من الإيضاحات ، معتمدة قوة اللفظ وإشراقه لتؤسس للتكثيف من أجل توسيع الدلالة ، في علاقة جدلية بين اللفظ والمعنى والتركيب ، لخلق الدهشة ..:
على ربوة الشعر
وبين مروج القصيدة
تدفق ينبوع الحرف
تلك هي نخوة الشعر
ص:57
لنلاحظ هذه الشذرات ، وما اكتنفها من إيجاز ، حيث في شرذمة من الألفاظ خلقت من الشعر مروجا تتدفق بينابيع شعرية بين الربى ، من خلال تجربة ومراس في استخدام محنك للفظ سياقيا وتركيبيا ..حيث اتخذت الألفاظ أمكنتها لتخلق وحدتها العضوية تدور رحاها حول الشعر ..
***الأسلوب والصياغة :
أشعار شاعرنا نورالدين قبة تُدخلنا في قوقعة من المتعة الجمالية ، من حيث صدق المشاعر وشفافيتها ، وروعة أسلوبها ، بانتقاء مرجان الألفاظ البراقة ، وروعة التركيب فسيفسائيا في سلسلة تعبيرية من النسيج اللغوي اللامع ، وفق نغمة إيقاعية فريدة ، أحكمتها علاقات جدلية جميلة بين اللفظ والصياغة. مما يبين بالكاد أفق الشاعر المَعْرفي المتنوع والعميق …:
أيها الجسد اللوام
كم من جرعة خلاص
تشفي جنونك
فجر حممك
ص:44
رقة في الأسلوب وجمالية في اللفظ ، ودهشة ممتعة في التركيب أتمنى أن يتناوله القراء والنقاد بالقراءات…

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here