Home Slider site قراءة في “خواطر مغترب” للقاص عبد الإله مرتبط – خالد الهلالي
التداخل الأجناسي بين القصة والشعر والفن التشكيلي:
القصة القصيرة جدا فن جديد بدأ يشق طريقه في المشهد الثقافي العربي عامة والمغربي خاصة، ويتميز هذا الفن بالكثافة اللغوية والإيحائية للتأثير على المتلقي، ورغم أن هذا الفن لم يحظَ بالاهتمام من حيث التداول النقدي والإعلامي وفرص النشر والدراسة الأكاديمية، لكن رغم ذلك فلهذا الفن مبدعون ونقاد يعقدون له ندوات ومؤتمرات. والمغرب يشهد تطورا مميزا ملفتا في فن القصة القصيرة جدا لقدرتها على اختزال اللحظة الإبداعية واعتمادها قوة المخيلة والكثافة اللغوية والإيحاء.
ومن تجارب القصة القصيرة جدا تجربة المبدع عبد الإله مرتبط الذي أبان على حنكة وتجربة في كتابة هذا النوع من القصة في مجموعته القصصية الموسومة بــ”خواطر مغترب” .
تشكل المجموعة القصصية “خواطر مغترب” أنموذجا للقصة القصيرة جدا، فنجد الكثافة والاختزال والدقة في التصوير من خلال اللحظة واللقطة، إضافة إلى التناص، فضلا عن القفلة والفضاء الزماني والمكاني والقوى الفاعلة والحكاية. وهذه المجموعة القصصية تميزت بعدة خصائص يمكن إدراجها في هذه القراءة.
تتضمن المجموعة القصصية مئة وخمس عشرة قصة قصيرة جدا “115” في مئة وتسع عشرة صفحة “119”، من القطع المتوسطة، رُتبت النصوص فيها دون الإشارة إلى تواريخ كتابتها، بتقديم للدكتور الحبيب ناصري، وصمم الغلاف والرسومات الفنان والأستاذ حميد صاولة، والطبعة الأولى لهذه المجموعة القصية صدرت سنة 2016.
لقد جاءت المجموعة القصصية بتشكيل بصري مميز، محترما سيميولوجيا الصورة وببياض دلالي يتخلل صفحات هذه المجموعة أو ما يسمى بــ”الدرجة الصفر في الكتابة” ، كل ذلك لمساعدة القارئ على الارتقاء بمستوى القراءة إلى ذلك الأفق الساعي لتجاوز القراءة التقليدية النمطية.
نجح القاص -إلى حد بعيد- في توظيف العنوان توظيفا فنيا، إذ استخدم جملة مركبة أكسبت العنوان ميزة مختلفة عن المألوف من التسميات التقليدية المختزلة لمضمون المجموعة أو مأخوذة من اسم من أسماء أحد أبطال المجموعة القصصية، والعنوان ليس مجرد تسمية بل عتبة من عتبات النص “وما دام العنوان عتبة من عتبات النص فهو ممتلك لبنية ودلالة” .
“خواطر مغترب” ونوعية الكتابة:
في هذه المجموعة القصصية نجد عناوين النصوص التي اختارها القاص كجزء من محيط النص أو النصوص المصاحبة بالتحديد المفهومي الذي وضعه ‘جيرار جونيت’ في كتابه “مدخل إلى جامع النص” وردت منسجمة مع روح المجموعة والتيمات والموضوعات المتضمنة لها، كما أن نوعية كتابة القصص في هذه المجموعة يصعب على القارئ العادي التفريق بين الشعر والسرد، فنجد في قصة “اعتذار”:
اختلطت لدينا الأضواء و الألوان،
تنقلت بين بياض أسود وبني أبيض،
أشهرت في وجه زوجها الورقة الخضراء..
غادرت بيت الزوجية نحو القطار..
وجدت السائق أنثى ومساعده ذكر..
اختلطت لديها مدونة السير بمدونة الأسرة،
فلعنت النهار واعتذرت للظلام..
فمن ناحية الشكل الطوبوغرافي فقد كتبت على شاكلة شعر تفعيلي حر وعلى نظام الأسطر، وهذا ما أكسبها متعة وجعلها مفتوحة الفهم.
شعرية اللغة في “خواطر مغترب”:
كُتبت المجموعة القصصية بلغة الغربة والاغتراب، تقدم تيه الذات في هذا العالم البئيس بصيغ يتداخل فيها الواقعي والخيالي وأحايين ينفصلان فيأخذ كل منهما طريقه، معتمدا أمكنة وأزمنة وقوى فاعلة وأحداث ورؤى تجعل القارئ يتمعن الكاتبة والحلول فيها بحثا عن المدلول.
وإذا اعتمدنا على الأسلوب الإحصائي المعتمد في الدرس الأسلوبي المعاصر، سنستخرج جملة من النتائج تحدد لنا بلاغة الكتابة السردية للمبدع ‘عبد الإلة مرتبط’، فلا غرابة إذا وجدنا أصواتا مهيمنة أو ما يعرف ب”التراسل الصوتي” بين الأحرف فيما يسميه ‘ادوارد الخراط’ ب”تقنية المحارفة أو الاماتة أي استخدام الحرف بشكل متكرر” ، فحرف الميم والألف وحروف المد والتي تدل على الحالة النفسية المخنوقة للقاص، حروف تتكرر بشكل بارز من بداية المجموعة القصصية لنهايتها محدثة تناغما إيقاعيا تطمئن له الأذن وينجذب له الوجدان ويدفع للتأمل والتفكير ولا يؤدي إلى النفور بل يشد القارئ لتمعن الكتابة وتذوقها.
كما اعتنى القاص بالعنوان والقفلة وما يتركاه من أثر في ذائقة المتلقي محافظا على “وجازة” النص بتعبير ‘ادوارد الخراط’، مع الميل إلى تيمات وموضوعات الحياة اليومية والصراع مع هموم الحياة والتيه في عوالمها، مستخدما الحوار الداخلي في عديد المرات تمهيدا لجر القارئ لمأزق القفلة أو النهاية الصادمة لوعيه والتي لم يتعود عليها في القصص الأخرى.
إن اللغة في هذه المجموعة القصصية مستويين؛ الأول حضور والثاني غياب، فالحضور يتجلى في الدلالات المباشرة التي تنبني عليها الحكاية، والثاني تحيل عليه تلك الدلالات بما تحمله من أبعاد أوسع من دلالاتها المباشرة، دون أن يفقد النص انسجامه والخط الرابط بين المعنى المباشر المكون للحكاية والمعنى الغائب الكنائي.
إن لغة ‘عبد الإله مرتبط’ تمتاز بالانزياح اللغوي فيلجأ للرمز والاستعارة والمجاز، لغة صوفية، كل هذا أعطى للنصوص شعرية تفتح للقارئ آفاق التفكير والتأويل والتخييل والتدبر وتجعل للنصوص معاني أخرى تُفهم من الغموض.
التكثيف في القصة القصيرة جدا:
نجد التكثيف أحد أهم ركائز “خواطر مغترب”، والتكثيف ليس اقتصادا في المفردات المكونة للقصة القصيرة جدا، بل هو تكثيف لدلالات تلك المفردات، فكل مفردة تحمل شحنة دلالية عالية التركيز، فيقدم القاص حكاية دون أن تفقد أثرها لدى المتلقي بل تبقى في ذهنه. والتكثيف عند ‘عبد الإله مرتبط’ يحمل معنى ودلالة، فينقل تجارب الحياة وصراعاتها ورؤاه للعالم وقضاياه بألفاظ ومعاني تحمل دلالات ورموز وإيحاءات لتصبح لغة متأرجحة بين نص مكتوب وبأبعاد استشرافية تنبئية صوفية فلسفية وجودية تداعب وجدان القارئ.
“التناص” وتذويب الجليد الأجناسي:
الأديب ‘عبد الإله مرتيط’ “عاشق ومتملك وقارئ للعديد من النصوص الإبداعية من التراث العربي.. ومالك لمنهجية تعي قيمة حكي الأشياء بلغة إبداعية” ، بل جمع بين الفن القصصي والفن التشكيلي حيث “متون تشكيلية بدورها تمارس قراءتها للمتون القصصية، بل أحيانا تتداخل متعة القصصي والتشكيلي..” ، كل هذا كان خدمة لهذا الإبداع الرصين، فنجد نُتَفاً لبعض القصائد والأغاني والروايات توظف بشكل جمالي في بعض قصص المجموعة.
ولأن ‘الغربة’ موضوعا مهيمنا في هذه المجموعة القصصية فقد استغلها أحسن استغلال وجعلها موضوعا بارزا سائرا على درب ‘الأدباء المتغربين والمتشردين’ على غرار جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وبدر شاكر السياب ومحمود درويش.. فنجد في قصة “التربة الطاهرة”:
دوى أزيز طلقات الفجر من خلف الأحلام اليقظة،
تلاها موال عميق من الأقاصي، نبع معه غيث ملفوف بقوس قزح،
يردد لازمة الأرض الطاهرة:
“وطني حقيبتي وحقيبتي وطني…”
يقول كذلك في قصة “همس الخريف”:
همست الثرثرة الصامدة في أصواتنا:
هل تكفيني عقود من الجدال لأخرس بلاهة الفقهاء والمتكلمين؟
توقفت أقل من هنيهة، فوجدت خاطرتي تردد مع الشاعر:
“عشقي للكلام غالب سكوتي، وكرهي للسكات جالب شقاي…”؟؟؟
وهذا يدل على استعادة القاص قصيدة ‘أحمد فؤاد نجم’ المعنونة ب”أصلي على النبي في البداية” والتي لحنها وغناها ‘الشيخ إمام عيسى’، و”الشعر قدر القصة القصيرة، ومن الضروري أن يقرأ القصاصون الشعر، لأن القصة جنس يقتضي أن تكون رؤياه واسعة ودلالية رحبة رغم حجمه الصغير” .
وختاما، فإن فن القصة القصيرة جدا فن صعب المراس، يتطلب الدربة والثقة الكبيرة والقراءة الكثيرة ومهارة الكتابة والتمكن من تقنيات القصة تكثيفا واختزالا وتصويرا بلغة سردية موظفة أحسن توظيف تنوع بين الواقع والذات والمثاقفة من تاريخ وفلسفة وفكر وشعر وموسيقى وتشكيل ودين.