Home Slider site قراءة في “بكارة الأسماء” للشاعر أحمد حضراوي – ذة. جميلة بالوالي
يوحي مطلع القصيدة بالرغبة في التجرد من المعاصي والتطهر من كل ما مضى، ومن كل ما تحمله الأسماء والكلمات من ألغاز ومن غواية وجاذبية.. لكن تخيب فجأة آمال الشاعر لأن الغواية تلاحقه في كل مكان، فلا يستطيع الهروب منها بالرغم من جميع محاولاته.. تسيطر عليه الأهواء وتتمكن منه بشدة ولا سبيل للتخلص من قبضتها.
الماء ينضح فوق ثوب ردائي
ليزيل عنه بكارة الأسماءِ
ويشد في مرج الطريق غواية
آبت إليّ بقضْمة الأهواءِ
والشاعر لا يمكن أن يعيش بدون عشق، لأنه الهواء الذي تتنفسه قصائده:
في كل كأس العاشقين بقيّة
سُكبتْ لتصنع آية الشعراءِ!
عشق حتى الثمالة.. اختزل كل قصص العشق وتجرع كل وصفات التودد والتقرب. لكنه عشق تنقصه الجرأة، أو ربما تعوقه الأمكنة والمسافات، أو ربما هو الحياء من افتضاض بكارة الأسماء وحرمتها، وبراءة تلك العيون الخجولة، وربما بكل بساطة تلك هي نظرة الشاعر المتصوف المتواضع أمام كل ما هو مقدس وممنوع:
سبلي تطأطئ في عيونك خلسة
ما قيل فيها أول الإنشاء
وكأنما يخجل الشاعر المتصوف الزاهد من اللجوء لكل أسماء معجمه وقاموسه الزاخر بعبارات الغزل والعشق التي استعملها فيما مضى في وصف الحبيبة أو الحبيبة-الطيف كما يحلو له أن يلقبها.
العابرون تجردوا وتأزروا
وحكاية التفاح دارُ بقاء
العابرون هم المارون من مكان إلى مكان آخر، لكنهم في لغة التصوف هم الواصلون الذين تجردوا من كل الذنوب وارتقوا، وارتقى وسما مفهوم العشق عندهم حتى صار تواصلا روحيا لا اتصالا أو التحاما جسديا ماديا تافها.. لكن مع ذلك تبقى الغواية ملازمة للإنسان مادامت هذه الدنيا في هذا الكون.
غصن الجمال اهتز حين رأيته
في غنجه يرقى لغير سماء
يعشق الشاعر الجمال بطبعه وإحساسه المرهف وذوقه الرفيع حتى وإن كان هذا الجمال بعيدا عن أرضه وسمائه.. يلمحه من بعيد ويجعله يهتز ويتفاعل معه تفاعل غصن الشجرة مع الريح التي تداعبه من حين لآخر.
العارفون بظله وسكونه
العابثون بلطمة هوجاءِ
الباعثون مع التراب دماءهم
لغةً لموعد سورة الإسراءِ
العارفون هم الذين وصلوا إلى الحقيقة عن طريق العلم والتجربة والتضحية والتزهد في هذه الدنيا الفانية الآيلة إلى التراب، وهم الذين يسعون إذاً للقاء من يحبون في الآخرة، لأن اللقاء على هذه الأرض أصبح مستحيلا.
لم يخطئ التدوين آخر عمرهم
بيد تُغطي قُبلة الإيحاءِ
تدنو من الغيب القديم بريبها
لا ترشف الحب الذي في الباءِ
يتحدث الشاعر مرة أخرى كما في قصائد كثيرة كتبها من قبل عن فشل الحب بسبب الشك وحصار الماضي وملاحقته للإنسان حتى آخر عمره..
والطين في شفة الجرار معتق
بنوازل الأعذار قبل الحاء
جبلت عليه الروح في جهة دنتْ
من خلد نفس رفرفت بدعاءِ
في وحدة الريح التي جبلت على
ريش تخطى دورة الأشلاءِ
لكن الشاعر هنا يتفهم ويقدر أعذار المحبوب الذي يريد أن يرقى بروحه وأن يحلق في السماء بجناحيه ممتطيا براءته التي تخطت وتجاوزت كل ما هو مادي محض.
لم تدْعُ جانحةٌ صليل جناحه
لترش فوق الأرض بعض غِناء
السلسبيل الحر يلفظ جرعة
أخرى ليولد آخر الأحياءِ
لا تجاوب مع الشاعر الولهان الذي كان يبحث فيما مضى عن تبادل الحب والعشق والسعادة الزائلة وأصبح الآن يسعى لما هو أفضل، ويتمنى أن يولد من جديد وأن يرفرف في السماء باحثا عن العشق الحقيقي الأبدي.
ذاك المكان عبارة ممشوقة
رصت عناقيدا من الأضواءِ
تتطلع الصيغ القديمة نحوها
لتجرها الخيبات في إفتاءِ
لكن للأسف لا يستطيع الشاعر أن يصل بسهولة إلى كل ما يريد وأن يرتقي ويحلق بروحه في كنه السماء، تماما مثل الصوفي المتعبد الذي لا يمكنه الوصول إلى مرتبة الإحسان إلا بعد محاولات عدة.
إني هناك ولا هناك ولا هنا
هرم تهادى في يد الصحراءِ..
الشاعر إذاً متواجد في عالم البين بين، في ذلك البرزخ الذي لا يمكن الخروج منه إلا بعد حين.. كما الهرم الشامخ التائه والمعزول في وسط الصحراء.
لقد تطرق الشاعر أحمد حضراوي في قصائد عديدة إلى هذا العالم المغري بجاذبيته والمجتر للخيبات باستحالة الخروج منه، نذكر منها: أحمر على شفاه البرزخ، موعد الحب الأخير والجحيم يليق بك.. لكن ستظل هذه القصيدة التي بين أيدينا تهتز وتتمايل وتتبختر من شدة جرعات الجمال والإبداع فيها، في مهرجان قصائد الشاعر القديمة والحديثة والمستقبلية!