Home Slider site في ضيافة عبد الله بوصوف، من ذكريات معرض الكتاب (23) – أحمد...
رغم المساحة الزمنية المهمة التي خصني بها أمين عام مجلس الجالية المغربية بالخارج عبد الله بوصوف، والاهتمام الذي أولاه لي كشاعر وروائي وإعلامي مهجري، والاهتمام بل والاحتفاء بأنشطتي الثقافية التي أقوم بها في بلجيكا وعواصم أوروبية أخرى مع مجموعة من الشعراء والمفكرين الفضلاء المكتوين مثلي بنار الحرف ولظى الإبداع، ورغم إلمامنا أنا والأمين العام بمواضيع شتى، إلا أن معظم الحديث كان يدور حوله وحول تصوراته هو، وهو فقط، للعديد من القضايا والأمور سواء المتعلقة بنا كمغاربة خارج الحدود أو أخرى عامة أو تلك التي اختصت بمغاربة الداخل وحدهم، دينيا كانت أو سياسية أو اجتماعية. كان الرجل يسابق الوقت المتوفر بعدُ لدردشتنا ليسكب في سمعي أساطير كتبه التي ألفها، وروايته التي يسرد فيها تأسيسه لمسجد ستراسبورغ في قالب درامي ذكرني بأفلام عبد الحليم حافظ الحزينة التي عزف فيها كثيرا على وتر مرضه -البلهارسيا- لكي يكسب عطف جمهوره أكثر. كان عبد الله بوصوف وهو يحدثني عن تجربة مرضه وتعافيه -المؤقت- بمرض السرطان يعزف على عاطفتي حتى أنظر إليه بعين الإكبار، حين استطاع التغلب على معاناته وإنجاز صرح تحُوّل فيه دعوات المصلين إلى السماء، واشتراكاتهم وتحويلاتهم المالية إلى حساباته السرية في أوروبا ودبي. غير أن أسوء ما يمكن أن تشعر به وهو يحدثك، هو إحساسك بأنك من قبائل المايا المشركة أو فردا من إحدى قبائل الطَّوْطَو. فالرجل ما زال يتقمص شخصية “الداعي إلى الله” مع كل “مريد” من مغاربة العالم. لم يعلم أني كنت حينها حديث تعيين كممثل لكيان صوفي عريق في كل أوروبا، وبأني كنت وما زلت موحدا بالله، مطلعا على مصادر ومراجع كتابه عن النموذج الديني الذي لا يفتأ يسوقه -إن صدق وكان هو نفسه كاتبه-، ومدركا لخلفيات فكر مرجعيته ا
شخصية تحب أن تتحدث رغم تظاهرها بالاستماع، أن تخرج كل ما في جوف ذاكرتها دفعة واحدة لا تميز بين ما استحضرته ظرفية الحوار أو لمجرد الحشو، وتعرف كيف تقتنص الفكرة وتتقمش جزئياتها وتسطو على مكامن تفصيلها، وكيف تعيد صياغتها من خلال إلباسها بمصطلحات رنانة حداثية مستخلصة خاصة من علم الاقتصاد، وقواميس الاستثمار، فكل العلوم والمواضيع عند بوصوف تؤدي نفس القصد من الخطاب: المال. حتى ليخيل لصاحبها أنها جديدة عليه، وما هي إلا بنت أفكاره قد غيرت ملابسها وتسريحة شعرها وأكثرت من أدوات تجميلها، فتنكرت خلف الأصباغ والماكياج، لكن بمجرد ما نطقت عرفها بصوتها في أعماقه، فقال بشراي هذه أفكاري.
لم أعر يومها سفسطة الرجل كثير اهتمام، فلم تحتفظ أذناي إلا بما خصني به من توجيهات ووعود: “أسرع في إنشاء جمعية ثقافية في بلجيكا واترك الباقي علي”.
عدت ليلتها إلى بلجيكا، بعد أن تداركني في الفندق من استضافني في الرباط لتوديعي، تبادلت بعض الحديث معه ثم امتطيت سيارة خصصت لي لتنقلني إلى المطار. كنت طوال مدة رحلة العودة قد تناسيت أمر رحلتي إلى المغرب ودواعيها، فلم تعلق بذهني إلا كلمات صاحب مكتب محجة الرياض ووعوده الكبيرة التي لم تكن أبدا في الحسبان، لقد أصر الرجل على مقابلتي، وبدون مقدمات فشا لي سر متابعته لي ولنشاطاتي المتنوعة، ختمها بوعوده لي بدعم لم أتجرأ على طلبه يوما من أي مسؤول أو جهة كيفما كانت، مغربية كانت أو أجنبية، لسبب بسيط هو أنني لم أعود نفسي يوما على طلب شيء من أحد، مهما كنت محتاجا إليه، أما الآن فالوضع قد تغير، فالمسؤول المباشر عني كمغربي مهاجر هو من يعرض، لا يعرض عرضا محددا بل يعرض الجمل بما حمل: “أترك الباقي علي”. كل ما تبقى علي فعله هو تدوين مشاريعي الفكرية والإبداعية وإرسالها إليه في أقرب وقت.
هل كانت ضالة الرجل فعلا طاقات المهجر الفكرية والإبداعية، والفاعلين الحقيقيين في الحقل الثقافي الجاد بعيدا عن أنشطة مغاربة العالم التي لا تفيد الجالية في تدافعها الحضاري مع غيرها من الجاليات أو مع دول استقرارها، ليس هذا موقفا سلبيا من أنشطة الترفيه من رقص وغناء ورياضة، وأنشطة مطبخ وقفطان، لكن لا يعقل أن تختصر مثل هذه الأنشطة كل اهتمامات مغاربة العالم، فهناك جوانب روحية وفكرية أيضا وإبداعية، تتحمل صياغة عقول وقلوب المهاجرين وذوقهم الهوياتي والحضاري، كل ما تتمناه هو أن يعترف بها المغرب ويعترف بتجربتها الصعبة في أوروبا، أما إذا بسط لها يد الاهتمام فتلك سعادة ما بعدها سعادة.
هل كان الرجل صادقا في كل ما قال، أو في جزء منه على الأقل؟