قضت العادة في الدورات الماضية أن أكتب مقدما لها، وعارضا مادة المحاضرة الملقاة على مسامعنا في المقهى الأدبي، لكن هذه المرة اختلف الأمر، فأنا من ألقى المحاضرة في الدورة الحادية والخمسين للمقهى الأدبي، وأقولها من مقام المحاضر وسط حضور كنت دائما بينهم من المستمعين. ولزاما عليَّ أن أوطأ لمسيرتي مع المقهى الأدبي التي ابتدأتها في أول يوم لي على أرض بلجيكا قبل أربع سنوات، لأجد نفسي بعدها قد تعلقت بهذا التجمع الأدبي الذي شابه الربيع بأثره في الورود، ففتّح النفوس، وأزهر الأفكار، وفاح العطر في أروقته، وازدان بحضور مريديه والقائمين عليه. أربع سنوات مرّت في المقهى الأدبي، ازددنا به حظوة ما بين مدارك عقل تتسع، وتعرّف على هامات أدبية وقامات شعرية، لم يكن ليتسنّى اللقاء بها دون هذا المقهى الأدبي، وآخر نفحاته عليَّ شخصيا أن أتاح لي الفرصة لأن ألقي محاضرة عن القراءة في دورته الأولى بعد الخمسين، ولي الشرف في افتتاح النصف الثاني من دوراته نحو المئوية الأولى التي أطمح أن أصلها مع المقهى الأدبي.
القراءة في حياة الإنسان ما بين الدوافع والعقبات، بهذا العنوان افتتحتُ المحاضرة، ومتسائلا بعدها أيما أسبق القراءة أم الكتابة؟
إن القراءة لم تكن يوما مجرد فك الرموز في الكتب ومعرفة تهجي ونطق الحروف، فيقول علماء الأنثروبولوجيا في إجابتهم عن سؤال الأسبقية، بأن القراءة هي الأسبق، وأسموها بـ”القراءة الأولى” أو “المنطق البري”، فبعد الثورة المعرفية وتشكل الوعي الأول للإنسان كما يشيرون فإنه قد بدأ مهمته في فهم العالم، وقراءة المحيط الخارجي، وإدراك معنى البيئة وكل ما حوله، فكانت قراءته الأولى هي فك رموز هذا العالم.
نظر إلى الشمس وعرف أنها مصدر للضوء، ونظر إلى الماء وعرف أنه مصدر للحياة، ونظر إلى القمر وعرف أنه مرتبط بالليل وعلامة من علامات السكون والراحة، وهكذا مع كل شيء حوله، ليتشكل له العالم المحيط عبر القراءة. وهنا نعرف قيمة القراءة في حياة الإنسان المتمثلة في فهم العالم وفك رموزه لأجل الاستمرار في التطور والتقدم والسير بالعجلة البشرية إلى الأمام، فبالقراءة نُمسك مِقبض العالم، وبالقراءة نُمنح القوة لتحريك هذه العجلة.
نجد في آيات الذكر الحكيم أن الله أمر عباده بالقراءة وحث على العلم، ومايز بين العالم والجاهل، بل وأن نبيه (صلى الله عليه وسلم) قد أكد على قيمة القراءة ولنا في غزوة بدر أكبر برهان حين فادى أسرى المشركين بتعليم القراءة والكتابة لمن يجهلها من المسلمين مقابل العفو عنهم وإطلاق سراحهم.
ونقرأ قوله تعالى “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار”.
نرى أن قراءة الكون هنا أمرا تضمنته كلمة “يتفكرون” فكيف للإنسان أن يتفكر في شيء لم يقرأه، والقراءة هنا في البحث وتأمل الخلق والحياة والكون، نقرأ الليل بكواكبه وأقماره ونجومه، نقرأ النهار بشمسه ونوره، نقرأ الأرض بزرعها ونباتها ومن يدب فوقها، فهذه قراءة بل وأسمى أنواع القراءة، إنها قراءة المتأمل الباحث عن/ في آيات الله المعجزة، القارئ الذي وصفه الله أنه من ذوي الألباب، وأردف التفكير القارئ لخلق الله بعد ذكره، فأي منزلة عظيمة تلك.
ولا يجب هنا أن نحدد القراءة بمعنى واحد، أو نربطها بآلية معينة، أو نحصرها بالكتاب والمكتوب، بل القراءة هنا كناية عن العلم وكسب المعرفة والسعي لفهم الحياة والكون وإيجاد معنى لهذه الحياة، إلا إن الغاية من هذه المحاضرة هو في الحديث عن نوع من أنواع القراءة ألا وهو قراءة الكتب.
لا يجهل القارئ أن القراءة أضحت اليوم ضرورة من ضروريات الحياة المعاصرة، وإن تهاون وتكاسل الكثير منا فيها، لذا فالتالي في عرض كيفية فهم الدوافع وتجاوز العقبات التي تواجه أي منا في القراءة.
إنَّ أولى خطوات بدء القراءة والتعود عليها وتخطي ضعف الهمة والتكاسل يكمن في:
1- اعرف الدافع.
2- حدد الهدف.
3- ابدأ اليوم.
إن معرفة الدافع قبل الولوج إلى عالم القراءة، ثم تحديد الهدف، والبدء فورا، يعينان أي امرئ على القراءة، ويشدان من عضده، ويمنحانه درعا تجاه أي مثبطّات، كلما كان الدافع موجودا أضحت القراءة واجبا ذاتيا، يحثُّ المرء نفسه عليها، وكلما كان الهدف محددا سهُلت مهمة خوض الطريق وكبح أي نوازع نفسية مائلة إلى الدعة والراحة؛ فلا راحة قبل تحقيق الهدف، فإذا تعيّن الدافع وحدّد الهدف؛ فلا عذر للتقاعس أو التأجيل والتسويف.
لا بد للمرء أن يجعله من هدف القراءة وكسب العلم ساميا، وشريفا، يكون فيه منارة للآخر، فالقارئ مصباح بل فنار للبقية يرشدهم ويوعّيهم ويحثهم على العلم، وأفزع ما في الأمر أن يتحول القارئ خصوصا والإنسان عموما إلى عود ثقاب، يشتعل ثم ينطفئ بصمت بلا أثر أو تأثير. ما أتعس حياة المرء منا وهو يحيا السنوات الطوال ثم يموت ولم يترك أثرًا خلفه ولا حتى في أقرب الناس إليه! المسألة التي يجب أن يتوقف عندها كل منا، من أنا؟ وما معنى حياتي؟ وكيف أصل إلى تحقيق الذات؟ وكيف أترك أثرا خلفي؟
لكل منا وسيلته الخاصة في الإجابة عن هذه الأسئلة، ولا يختلف اثنان على أن القراءة إحدى الوسائل التي تعين المرء على هذا.
ننتقل إلى المرحلة التالية المتمثلة بسؤال كيف نقرأ؟
إن بناء أرضية ثابتة وصلبة دائمة الإسناد تتحقق من خلال ما أسميته بمثلث القراءة، وهو ما استلخصته من تجربتي الشخصية. يتكون مثلث القراءة من ثلاثة أضلاع:
1- الجدولة.
تنقسم الجدولة إلى ثلاثة أفرع: جدولة العناوين، وجدولة الوقت، وجدولة السنة.
عندما لا تخطط وتترك الأمور تسير وفق هواها ومجريات الأقدار، ستصطدم بحواجز كثيرة، تجعلك تنفر مما ترغب فيه، وبما إن الحديث عن القراءة فعليك التخطيط والجدولة.
إن جدولة الكتب بعناوينها ومواضيعها المختلفة سيوفر عليك الوقت الذي تتحيّر فيه ماذا تقرأ ولمن تقرأ، قبل أن تقرأ في مجال معين أو لكاتب أو مجموعة كُتّاب عليك تحديد العناوين التي تُريد قراءتها، وكلما كانت الجدولة لمدة أطول كان الانتظام والالتزام أيسر، وبعد أن تختار العناوين وتضعها مجدولة، تختار المدة التي سوف تقرأ بها هذه الكتب، فلو افترضنا إنك اخترت عشرة عناوين وأردت قراءتها في شهر، فعليك تقسيم أيام الشهر بما يناسب كل كتاب، فجدولة الوقت لا تقل أهمية من جدولة عناوين الكتب.
فحين تضع خطة قراءة كاملة بعناوينها وأيامها وأوقاتها، ستوفر لنفسك الكثير من التخبط والحيرة وعدم الالتزام والعشوائية.
2- الالتزام.
أن تضع خطة عمل ثم تتكاسل في تنفيذها أو العمل وفقها فنهايتك الفشل، لا يعني أن خطتك كاملة لا نقص فيها، فابإمكانك أن تُعدّل فيها وفق وقتك وجهدك وقابليتك على التنفيذ، لكن ما هو مهم هو أن تنتظم وتلتزم بالقراءة وفق جدولك.
قد تواجهك صعوبات في الالتزام أول الأمر، خاصة إن لم تعود نفسك على القراءة والالتزام اليومي بها، ما عليك هو الصبر وعدم الركن إلى الكسل، إن الالتزام لا يعني الملل، لأنك أنت المسيطر على كل شيءٍ لم يفرض عليك أحدٌ نمط حياةٍ معين أو خطة معينة، فبيديك كل شيءٍ، ما عليك هو أن تفهم نفسك وتضع خطة وجدول يلائمك أنت. بعدها سيكون التزامك نابع من حب وتتحول القراءة إلى نمط وأسلوب حياة، لن تبحث عن أجواء مناسبة أو مكان هادئ، ستجري القراءة ُ في عروقك، وستشعر بالنقص حين يمر يومٌ لم تقرأ فيه، ويؤنبك ضميرك إن تقاعست عن تنفيذ ما هو مطلوب منك.
٣- الاستمرارية: ما نفع الجدولة والالتزام بها إن لم يكن هناك استمرارية وديمومة في العمل؟ الاستمرارية هي الثمرة الأولى للقراءة، فاستمرارك في القراءة هو الذي يجعل الجدولة والالتزام بالقراءة أمرا أمتع وتجد الحافز الدائم في القراءة. الاستمرارية لا تعني أن تستمر شهرا وتتركه في آخر، بل أن تستمر في المدة التي وضعتها في جدول قراءتك، فإن كان جدولك مكون من ستة أشهر، فالاستمرارية يجب أن تكون في الأشهر الستة، لا في ثلاثة أو حتى خمسة، بل في ستة أشهر كاملة دون نقصان. لا تأتي الرغبة في الاستمرارية دفعة واحدة، لكنها في دفعات متدفقة، لذلك عليك أن تعرف قدراتك وتضع جدولك بما يضمن لك الاستمرارية في أدائه.
***
قد يواجه القارئ منّا عقبات أثناء القراءة، بعضها شخصية وبعضها خارجي، لذا فأني أضع تسع تقنيات تعين القارئ على تجاوز العقبات، والاستفادة من القراءة بشكل ملموس أكثر.
1- اختيار العناوين:
اختيار العناوين الخطوة المهمة التي يسألها كل إنسان يود القراءة، ماذا أقرأ؟
العناوين لا تخضع لنظام محدد أكثر من كونها عشوائية منظمة بالقراءة. المعرفة تراكمية وتحتاج وقتا للنمو ولا وسيلة لإروائها ورعايتها عدا القراءة، أما متابعة أحدث العنوانين الصادرة، في العصر الحالي، أصبح لدور النشر جميعها حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي، وبهذا أكون في متابعة مستمرة لأحدث الأعمال الصادرة حديثا.
2- التنويع في القراءة:
التنويع في القراءة لا بد منه، القراءة في مجال واحد، مهما كان ذا نفعٍ سيبقى محدودا، اعمل دائما على التنويع في القراءة، اقرأ في عالم الرواية واقرأ في الشعر، وكتب النقد الأدبي والتاريخ والفلسفة والصحة وعلم النفس واللغات، فلا تمر السنة حتى تكون قد قرأت في مجالات متنوعة.
3- المؤلفات الكبيرة:
تحتاج قراءة المؤلفات الكبيرة ذات الأجزاء المتعدد وقتا ونَفَسا طويلين لإكمال وقد يرغب الواحد منا قراءة أكثر من مؤلف ضخم في السنة فيجد أن من الصعوبة قراءة كل هذا. الخطوة الأمثل في توزيع المؤلفات الكبيرة على مدار السنة، وتوزيع كل مؤلف ضخم في وقت معين من السنة ثم قراءة مؤلف أصغر حجما، وهكذا يتوزع الجهد المبذول على مدار السنة دون ضخه دفعة واحدة لتجد نفسك بعدها غير قادر على تجديده حتى تمر مدة زمنية طويلة.
4- الاستمرارية:
أيما أفضل قراءة عشر صفحات في اليوم على مدار السنة أم قراءة ثلاثة آلاف صفحة خلال ثلاثة أشهر؟ بالتأكيد القراءة اليومية مهما كان عدد الصفحات قليلا فهو أفضل من القراءة على مدد زمنية متباعدة، قطرة ماء تنحت طريقا في إلى قلب الحجر باستمرارية سقوطها، منجزةً عملا لا يفعله سيلٌ يمر في وقت ما وينحسر بعدها. اقرأ كل يوم واعمل على تعويد نفسك القراءة اليومية، فهي أنجع وسيلة للدخول في حالة حب مع القراءة وأصلب درع يحميك من جيوش الملل التي قد تصيبك.
5- هل أقرأ في وقت فراغي؟
لا تقرأ في وقت فراغك إن كان لديك وقت فراغ، استغله في الاستمتاع بعيدا عن القراءة، في الرسم أو الكتابة أو تعلم لغة جديدة أو ممارسة الرياضة أو مشاهدة فلم أو مسلسل أو قضاء الوقت مع العائلة.
القراءة أجعل لها وقتا خاصا بها، وليس نشاطا تقتل به وقت فراغك، أعطها تُعطك.
6- القراءة أسلوب حياة:
يجب أن تسعى جاهدا على تحويل القراءة إلى نشاط يومي ثم إلى أسلوب حياة، فهي لا تقل أهميته من التنفس والحب والطعام والشراب. وفي هذا يقول الأمام أحمد رحمه الله : (الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس).
ويأتي العلم بطرق كثيرة أحدها القراءة!
7- الصراع مع الكاتب:
القراءة تفاعل وليست خضوع، اقرأ لتتعلم وتكتشف عالما جديدا لا لتكون عبدا مملوكا للكاتب أو الأديب، القراءة بهذه الكيفية ستجعلك فردا في القطيع بلا أي آلية في التحليل أو التفكير أو النقد أو إبداء الرأي السليم.
اقرأ بصفتك منافسا للكاتب، فكلّما زادت المنافسة بين الكاتب والقارئ زاد اهتمام الكاتب بعمله الأدبي، فحين يستخف الكاتب بعقول قرّائه، لن يُتعب نفسه كثيرًا، وحين يعرف الكاتب أن القراء صِعاب المراس يكون اهتمامه بعمله أكثر جدية وقوة، وسيفكر ألف مرة قبل أن يجرأ على إصدار عمل ما.
8- قراءات:
بعد الانتهاء من كل عمل، تكون الكتابة عنه وتدوين الأفكار المستخلصة من العمل، وعرض نقاط القوة والضعف في الكتاب، أمرا يساعد على ترسيخ ما قرأنا في الذاكرة، وبذات الوقت تكون القراءة عن العمل محفزة ومشجعة للقراء الآخرين من أجل قراءة هذا العمل أو ذاك، ونشر المعرفة لا يقل أهمية من اكتسابها ولربما تفوقها قيمة.
شهد القسم الثاني من الدورة كما العادة إلى أمسيّة شعرية ونثرية من أمسيات المقهى الأدبي، ألقى فيها الحضور ما خطته الأنامل وجادت به النفوس، ليسدل الستار بعدها على دورة ناجحة من دورات المقهى الأدبي الأورو-عربي في بروكسل.