هي تراجيديا سريالية في واشنطن ترقى إلى محاولة انقلاب نفذها مناصرو الرئيس ترمب، وتمكنوا من نسف الجلسة المشتركة لمجلس النواب والشيوخ لإقرار نتائج المجمع الانتخابي في الولايات الخمسين لصالح بايدن.
في الحادية عشرة صباحا، يخطب ترمب في تجمع مؤيديه أمام البيت الأبيض لاستنهاض الهمم لإيقاف ما يلوح بأنه “سرقة” نتائج الانتخابات، ويؤجج مشاعرهم للتوجه إلى مبنى الكابتول حيث مقر الكونغرس. وبعد ساعتين، يحدث الهجوم على مكاتب الكونغرس، وترمب بمثابة نيرون يحرق روما بكل عبثية. اضطر أعضاء الكونغرس ومساعدوهم إما للاختباء أو الفرار من الموقع تحت حماية الشرطة. ولحسن الحظ، تم الاحتفاظ بصناديق المجامع الانتخابية في الولايات الخمسين. ولو تعرض بعضها للتلف تحت زحمة الوقت وتشنج الأعصاب، كان ترمب سيحولها إلى “نكبة” سياسية تعزز ادعائه بشأن سرقة الانتخابات.
هو يوم غير أمريكي على الإطلاق، وكاد الموقف الدرامي أن يكتمل لو ركب قذافي أمريكا سيارته المكشوفة وهتف في مؤيديه “زنگة، زنگة، مكتب، مكتب..!” ومع ذلك، لم تسلم أمريكا من بهلوانيات ترمب ومشاكساته، فقررت شركة توتير منعه من نشر أي تغريدات لمدة اثنتي عشرة ساعة، تحسبا لما قد يزيده في أجواء الاحتقان والتحريض وافتعال أزمات إضافية.
هو الأربعاء الأسود في تدني ديمقراطية أمريكا لم تصل دركا أسفلا من قبل بفضل لعنة نفوذ ترمب وخطاب الاستقطاب للجماعات اليمينية والمتطرفة، ومن يعتدون بأنهم “القوة البيضاء” White Power. فقد أصبح ترمب سرطانا سياسيا يصعب استئصاله من جسد الديمقراطية الأمريكية. عادت اللحظة إلى حقبة المليشيات والفوضويين الخارجين عن القانون، ضمن أحلك حقب التاريخ الأمريكي.
تناولت القنوات الإعلامية الحادث بشتى أوصاف العنف السياسي، ولم تجرؤ أي منصة إعلامية على وصفه بأنه “إرهاب داخلي” بالنظر إلى أنه ينطوي على الترهيب ونشر الذعر بين المواطنين ومنهم أعضاء مجلسي النواب والشيوخ. هي لباقة سياسية مفتعلة لأن جميع تعريفات الإرهاب المتداولة، ولدينا 109 تعريف، تشير إلى عنصر الذعر والترهيب. ولو قام شخص عربي أو مسلم واحد بنسبة 1 ٪ مما حدث اليوم، لانتشر خطاب “الإرهاب” بشكل تلقائي.
أعود إلى تدوينة نشرتها يوم 30 أغسطس من العام الماضي بعنوان: ” كيف تدخل أمريكا لحظتها الأكثر احتراقا؟”، قلت فيها إن خسارة الرئيس ترمب التي استشرفتها في انتخابات الرئاسة ستنذر بانزلاقات قد تكون متهاونة في السياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة المتبقية من رئاسته حتى العشرين من يناير المقبل.
لم أكن الوحيد الذي عبّر عن هذا القلق بالنظر إلى مدى تمسك ترمب بمنصب الرئيس بغض النظر عن نتائج صناديق الاقتراع. وكتب وليام بيرنز مدير مؤسسة كارنيغي ونائب وزير الخارجية الأمريكي السابق في مقالة استشرافية في “ذي أتلانتيك” يقول: إن “من غير المرجح أن تكون الأيام المائة والخمسون المقبلة استثناءً. وبوجود رئيس غير مؤهل للمنصب وإدارة مصممة على خلق أكبر قدر ممكن من “الحقائق” لصالحها ومجموعة متنوعة من اللاعبين الأجانب الذين يحاولون تسجيل النقاط وسط الفوضى، فإننا سندخل في لحظة قابلة للاشتعال. وما يزال بإمكان ترمب أن يدوس على العديد من مصالح السياسة الخارجية الأمريكية إذا كانت هذه هي آخر رقصاته في البيت الأبيض”.
لم يخفت قط مستوى التوجس لديّ مما قد تصل إليه الترمبية في مراوغاتها ومجازفاتها من أجل تفادي الهزيمة أمام المرشح الديمقراطي جوزيف بادين. ومن المؤكّد أنّ تضخّم الأنا لدى ترمب لن يقبل أن يكون رئيس فترة واحدة فقط، وهي بمثابة مسبّة في القاموس الرئاسي الأمريكي منذ حقبتيْ جيمي كارتر وجورج بوش الأب.
انتهى تمرد أنصار ترمب وهجومهم على مبنى الكونغرس. وبعد أقل من ستّ ساعات، عاد أعضاء الكونغرس لاستئناف مداولاتهم بشأن إقرار نتائج الانتخابات. ويبدو أن قيادات الحزب الجمهوري قد أعادت النظر في ما تسعى إليه مجموعة الإثني عشر في مجلس الشيوخ بزعامة السناتور تيد كروز في تدبير ما قد يرقى إلى انقلاب ناعم بتوقيع مذكرة جماعية للطعن في نتائح ولاية أريزونا.
في المحصلة النهائية، كان ترمب يعوّل على حليفه السابق ميتش ماكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، وحتى مارس ضعوطا على نائبه مايك بنس أيضا. لكن بدا السناتور ماكونيل ونائب الرئيس بنس ملتزمين ببنود الدستور، وصمما في خطبهما هذا المساء على أن يجسدا أنهما حماة الدستور وحماة الديمقراطية الأمريكية بما لا يدع أي نواة أمل صغير لدى ترمب أنه قد يظل في البيت الأبيض بعد منتصف العشرين من الشهر الجاري.
هكذا تصحح أمريكا مسارها السياسي بذاتها بقوة الدستور ومتانة المؤسسات وحكمة العقلاء في الحزبين الجمهوري والديمقراطي!