طريقان لطريق واحد – أحمد بلحاج آية وارهام

0
227

الكائن على صعيد الآدمية له ماهيتان متلاحمتان ومتناغمتان لا يكون إلا بهما، ولا يفعل في الوجود إلا عن طريقهما:
أولاهما: ماهية فيزيقية مادية متحيزة الأبعاد.
وثانيتُهما: ماهية ميتافيزيقية صوفية شعرية، مفتوحة على اللانهائي، مسكونة بالمجهول، تواقة للاَّمألوف.
وبهاتين الماهيتين يتم كمال الكائن، وتتحقق إنسانيته، وتبرز اختلافاته الممكنة والخلاَّقة. ولا يمكن إدراك مساراته الوجودية إلا بإدراك هاتين الماهيتين في شموليتهما، ودون عزل الواحدة عن الأخرى. ففهمُ الكائن هو فهمٌ للُغة اللامحدود فيه، وكل نسيان أو تعطيل لهذه اللغة يعدُّ نسيانا وتعطيلا لعمقه.
فلغة اللامحدود هي لغة العمق التي تحاول الشَّوْمَلة تعطيلها في الكائن، وتحاول الصوفية الشعرية تَسْيِيدَها من أجل إنقاذه وإنقاذ العالم معها من غياهب الفظاعات. فالصوفية الشعرية تلتقط كونيةَ الوقائع بمعزلٍ عن أسبابها وعللها، وباستقلالٍ تامٍّ عن مذاهبها ونِحلها ومُعتقداتها التي تنتمي إليها، على نحوٍ من الحدس Intuition عالٍ، ثم تصهرها في مضمار تجربتها القُصوى، لتُخرجها بعد ذلك لغةً بكراً ذات تلوينات وتنويعات ترى فيها كلُّ اللغات نفسَها وتعدُّدِيَّةَ تجلياتها. وهذه الوحدة في التعدد هي التي كان ابن عربي قد نذر لها صوفيَّتَهُ الشعرية، وجلاَّها على نحو صريح في هذه الأبيات الذائعة الصيت:
لَقَدْ صَارَ قَلْبِي قَابِلاً كُلَّ صُورَةٍ
فَمَرْعًى لِغِزْلاَنٍ وَدَيْرا لِرُهْبَانِ
وَبَيْتا لِأَصْنَامٍ وَكَعْبَةَ طَائِفٍ
وَأَلْوَاحَ تَوْرَاةٍ وَمُصْحَفَ قُرْآنِ
أَدِينُ بِدِينِ الحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَتْ
رَكَائِبُهُ، فَالحُبُّ دِينِي وَإِيمَانِي
إنها لغةُ وحدةِ العمقِ الحاملةُ لجمالية التعدد وجوهرية الكلمة وكونيتها لدى الكائن الكامل، لا تلتبس ولا تغدو محصورة أو مُضلِّلةً، ولا مستنفدَة. فيها تتجلى رؤيا الألوهية أقوى ما يكون التجلي متعدِّدَةً في التوحُّد، فضاؤها التسامح والإدراك وليس التنابذ والانغلاق، لأن الألوهيةَ فيها هي ألوهية تَجَلٍّ جمالي على الكائنات، لا ألوهيةَ طقوسٍ ورسومات. وكل كائن له الحق في تصورها بمقدار ما تلَقاه من تجلٍّ، وما دام منبعُ التجليات واحدا فإن إقصاء تجلٍّ من طرف تجل آخر هو محض افتراءٍ على الألوهية التي لا حدود لتجلياتها، ولا داعي لاحتكار هذه التجليات من لدن أي دين “فإلهنا -وفقا لابن العربي الحاتمي- وإلهُ اليهود والنصارى والصائبة، وجميع الفِرق واحدٌ، كما أخبر تعالى. إلا أن تَجليه لنا غير تجليه في نزوله إلى النصارى، غير تجليه في نزوله إلى اليهود، غير تجليه لكل فرقة على حدتها. بل تجليه في تَنَزُّلِهِ للأمَّة المحمدية متباينٌ ومتخالفٌ، ولذلك تعددت الفِرَق فيها إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، وفي نفس هذه الفِرق فِرقٌ بينها تباينٌ وتخالفٌ. وما ذلك إلا لتنوع التجلي بحسب المتجَلَّى له واستعداده، فتجلِّيهِ تعالى واحدٌ في كل تَنوع وظهور ما تَغير من الأزل إلى الأبد. فليس في العالم جاحدٌ للإله مطلقا من طبائعيٍّ ودهريٍّ وغيرهما، وإن فهمت عباراته غير هذا فإنما لسوء التعبير، فالكفرُ في العالم كلُّهُ إذًا نِسْبِيٌّ، ولا أحدَ من عباد الله يعرفه في كافة تجلياته، ولا أحد منهم يجهله في كافة صفاته”.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here