Home Slider site رواية شيشنق الأمازيغي الذي حَكم مصر “الفصل 4” – أحمد حضراوي


تنفس صعداء الملح والرمل وهو يمتطي جواده الأدهم الذي يتوجه به نحو الميناء حيث ترسو الباخرة التي ستقله من هناك إلى أرض الحكماء بعدما سمع أن بها من ترك الشعر ليتنبأ بمدينة فاضلة فطرد منها حتى ماضيه، أي فضل لمدينة يحرم من دخولها من تاقت أنفسهم إلى الحرية وألهَبوا لإضرام فتيلها الكلمات.
تجار فرسان فلاحون وبعض طلبة ذلك العلم الغريب، هكذا تشكل رواد السفينة التي واجهت الموج بصدرها المنتفخ تحطم أوج كبريائه بمجاديف طاقمها الذي يحرك سواعده على إيقاع صوت الربان المرتفع حينا والصارخ أحيانا كثيرة، وكأن الشمس كانت قبلتهم يتوجهون نحوها بعرقهم المرسل على جباههم، بل وعلى كل أجسادهم.
رآها هناك تتمشى على استحياء وكأنها تتخفى عن متربص أو تتهرب من متعقب أو تنزوي عن عيون، تحاول أن تختلس النظرات إلى أفق البحر البعيد، نحو مرسى أول لم يحن بعد أوانه، كان تعاقب الليل والنهار مازال يخفيه بعيدا خلف طياته ويكاد أن يأذن له بالوشوك. ربما كان ذاك المصري الفض صاحب الكلب الأبيض المبرقع بالسواد هو من يثير اشمئزازها، فلا يترك لها فرصة الاستمتاع بهدير البحر لحظة. تساءل كيف يسمحون لأشخاص باصطحاب حيوانات إلى ظهر السفينة المكتظة أصلا بالركاب؟ غير أن تركيز عينيه على الكلب أثار صاحبه فتوجه نحوه:
– لا تخش شيئا فهو لا يشكل خطورة على أحد إلا إذا أنا أمرته بذلك -صاحب الكلب-.
– أمرته أنت بذلك -رد شيشنق-؟
– نعم إنه مروض بشكل جيد -قال صاحب الكلب-.
– أعلم أنكم معشر المصريين تحسنون الترويض على الطاعة -قال شيشنق متهكما-.
– ماذا تقصد؟ -سأل صاحب الكلب-.
– لا شيء، لا أقصد شيئا أبدا -رد شيشنق-.
نظر إليه المصري بغضب وقد لمس في كلامه بعض التعالي، لم يتعود على هذا النوع من الخطاب من أمازيغ يفترض فيهم أنهم رعايا لعرش الفرعون وحاشيته، هذا إن تجاوزوا طبقة العبيد أصلا.
– حاول ألا تشعر كلبي بخوفك منه وإلا انقض عليك، لن أستطيع إنقاذك منه إذا عرف ضعفك -صاحب الكلب-.
كان شيشنق قد وجد حبلا مهملا على أحد البراميل الخشبية الكبيرة المرصوصة على ظهر السفينة، فأخذ يفتله بشكل غريب بحيث جعل طرفه على هيأة دائرة مفتاح الخلود، لفه في غمضة عين حول عنق الكلب وصعد على حافة السفينة وجذبه إليه على حين غفلة صاحبه بسرعة وبقوة ودلاه إلى الجهة الأخرى:
– أظن أن كلبك المرعب سيصبح وجبة شهية لسمك القرش هذا اليوم، والذي لا أظنه سيكتفي به وحده، فقد يحتاج صاحبه أيضا حتى تكتمل فرحته -قال شيشنق-.
تراجع المصري وهو يرمق شيشنق يطلق الحبل من يده ليترك طرف الحبل يهوي إلى البحر وفي طرفه الآخر كلب القبطي، تتلقفه الأسماك الضارية التي كانت قد تجمعت حول السفينة وقد رأت فريستها تترنح قبل ذلك وكأنها تتعمد أن تريق لعابها في الماء، تراجع وقد كادت ركبتاه أن تسيحا وهو يرمق سلاحه يهوي من بين يديه دون حول له أو قوة. التفت شيشنق إلى المرأة المتكتمة التي لم تعد تخفي ابتسامتها، ققد بدت مبتهجة مما رأت وشهدت حتى كاد غطاء رأسها ينسدل على كتفيها لما رأت فعلته بالحيوان الذي كان يتهددها قبل حين، تنفست طمأنينة أخيرة ونظرت إليه بإعجاب. كاد قلبه أن ينخلع من صدره هو الآخر حينها، غير أنه توجه بشزراته إلى القبطي ففر من أمامه لهول ما رأى ولقي منه!
أسدل الليل سواده على المركب والبحر والأنفس، بدأ بعض النور يتلألأ في الأفق على صفحة الماء، كانت الجزيرة تكاد تبدو موحشة إلا من مينائها الخشبي الصغير. سمع جلبة العبيد الذين أُنزلوا بضاعة في رمشة عين، وصوت وقع أقدام الطاقم وهو يشحن بعض البضائع الأخرى والماء حتى تكتمل الرحلة بسلام، ثم زعيق الربان الذي يعلن ساعة الإبحار من جديد.
على غير انتظار وعلى إيقاع سواعد الرجال، انطلقت السفينة في صراعها الثاني مع الموج اتجاه الشمال، كان صوتهم يشبه الوغى ساعة الوطيس، وكانت رائحة عرقهم تتلاشى مع نسائم الشمال التي تداعب وجنتي تلك الفاتنة المتكتمة، القابعة وحيدة على ظهر المركب، ترقب الدبدبات التي تخلفها المجاديف خلفها كما خلفت ذلك المرفأ الجميل الكامن الذي وكأنه غرز في الجبل غرزا.
أخيرا تتراءى اليابسة، اشرأبت إليها أعناق كل من ركب البحر إلا شيشنق، فعيناه مثبتتان على ذات الطيف الجميل. حاول الاقتراب منها غير أنها اختفت في وسط زحمة الجلبة التي سببها الالتطام الجزئي بإحدى الصخور المتوارية في الماء، ما أكثرها حول مدينة الحكمة والحكماء، وكأنها أرصاد تكيل سهامها في صدر كل غريب!
كان المرفأ يضج بالتجار والحمالين والباعة وربما بعض اللصوص، كل الوجوه والأجناس تلاقت في هذا المركز التجاري الساحلي. حتى القبطي الذي كان صاحب كلب بدا منزعجا بغير حارسه، كأن خبرته بهذا العالم المتلاطم الألوان هو ما دعاه إلى تملك حيوانه الفقيد. ما زال يرفض التوجه نحو مخرج الميناء، وما زال يرمق أفق البحر لعله يجود بشيء منه، وما زال يرمق شيشنق أيضا بحذر. ما كان عليه أن يستفز ذلك الرجل الأمازيغي بكبره وقد تبين له أنه حاد الطبع رغم ملامحه التي توحي بعكس ذلك، ما مثله من يخدع أو يهدد دون الوصول معه إلى آخر المطاف، ولقد أدرك فعلا آخر مطافه. أسلم القبطي فكره لذلته واستسلم ثم ذهب إلى حال سبيله.
ظل على حافة المرفأ ينتظر نزولها من السفينة من حيث لا تراه هي، تأخرت فانتظر أكثر، نزل الجميع وغادروا، غادر السفينة أيضا قبطانها ومعظم طاقمها لكن لم يظهر لمن سلبت عقله وقلبه أثر، ترى هل تخفت منه أم تنكرت لجميله أول ما وصلت إلى أثينا التي لا يبدو أنها تزورها للمرة الأولى، كأنها حبة رمل وذرتها الريح إلى صعيد مجهول.
ذهب بعد يأس من إطلالتها يتسكع في أزقة ودروب أثينا القريبة من الميناء، كان قد سمع الكثير عن منشآتها الضخمة الغريبة وعن أعمدتها العالية وساحاتها البهية ومسارحها المبهرة ورياضها الخضراء، غير أن ما رآه رأي العين كان أعظم مما سمع، إنها حضارة مختلفة تماما عما رآه بمصر، حضارة نحتت الحجر وقزمته ولم تكتف برصه فوق بعضه في شكل خيام، لقد أنطقته ولم تختزله في صمت الرمل!