إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
__
رائعةٌ نسجت بزمنٍ منصرمٍ يحددُ تقريباً بــ770 ميلادية، قالها أبو العتاهية الشاعر الشاعر بوافر من وزنٍ، وجميل من سبكٍ، وبليغ من كلمٍ، ومرهف من حسٍ، ورائع من شجنٍ، وخاشع من شعرٍ يناجي به جل جلاله، واليوم كأنه بُعث من جديد بلباس مختلفٍ، ولسانٍ مقتدر، وبيانٍ مكتمل فصاحة وبيانا وشعرا.
شاعرنا الماهر لقد استوقفتني أبياتٌ حاورتني بعدما سألتُها عنك فقالت : أعن النجم تسأل ؟ أم عن الكوكب الدريّ تغفل ؟ ، إنه الماهرُ الأمين وما أدراك ما الماهر الأمين ؟ ثم ما أدراك ما الماهر الأمين ؟ فقلت متأدبا متأملا : على رسلك أيتها الأبيات ودعيني أتعرف من خلالك على الذي صاغكِ، فقالت هيت لك فافحص ولكن كن منصفا كعادتك فلا تجامل ولا تتحامل وكن بين بين.. فقلت : لك ذلك وإليك مايلي :
_
لمحة نحوية :
(ياربي أجرني )
عنوانٌ بدأ بحرف نداء مبني على السكون لامحل له من الإعراب، ولكن له محلٌ ومحلٌ ومحلٌ من المعنى البليغ والعميق وجليل لجلال وعظمة وبهاء وقدسية وكبرياء المُنادَى بفتح الدال لا بكسرها، ثم بعد الحرف لفظ لهو أشرف وأجل وأكبر وأعظم وأعلى الألفاظ وأعرف المعارف وهو (لفظ الجلالة) الواقع موقع المنادى المضاف إلى ياء المتكلم (الضمير المتصل المبني على السكون فى محل جر مضاف إليه )،ثم بعد ذلك الفعل الأمر الطلبي لوقوعه من الأدنى للأعلى، ثم نون الوقاية، فياء المتكلم الواقعة موقع المفعول به، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت يا ربي، أجرني أنت لا غيرك، وأجرنا جميعا يارب العالمين.
نواصل الحديث عن الجانب النحوي؛ ونلحظ أن الشاعر استخدم ربما بلا قصد وربما بقصد الحفاظ على النسق الإيقاعي حرف النداء الأشهر (يا)، ظاهرا مرة ومستترا فى اثنتين، هما : (إلهي قد دعوتك فى سجودي) و (إلهي ما بعبدك ليس يخفى)، والتقدير فى كليهما : (يا إلهي)، واستخدم (أيا ) مرة واحدة قاصدا الحفاظ على النسق الإيقاعي (الوزن)، رغم كونه حرف نداء للبعيد، ولكن بنظرة أخرى وبوضع قوله تعالى : (فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) على العين والرأس نجد أن البعد هو البعد المكاني باستواء المولى على العرش، وبكون المتذلل على الأرض هو محض عبد ذليل يناجي سيده ومولاه، والقرب الفعلي لا يناقض استخدام (أيا) إذ أن لفظة (مولاي) تجعل من المعنى الشفيف وضوحا يتجلى بالواقع العملي من كون السيد يعلو ويبعد مكانة وعظمة وبهاء وقدسية عن العبد، وشاهد ذلك استخدام الشعراء نفس الحرف مع ذات اللفظ فى قصائد كثيرة منه قول القائل :
أيا مولاي مجد الدين يا من
إليه ومنه بثي واشتكائي
نعود فنكمل :
نلحظ استخدام الشاعر لـ(كم) الخبرية فى المواضع الثلاث استخداما له وقفة :
حيث جاءت في المواضع كلها بعد استئناف يجعلها تحل محل ابتداء على الأغلب، وإن كانت نظرة أخرى تغير ذاك الموضع لموضع آخر لكن على كلٍ نهتم بإلقاء الضوء على (كم) وروعتها النحوية والبلاغية، فهي التي وردت بكتاب الله جل جلاله فى ستة عشر موضعا تفيد الإخبار (على القول الأرجح )، ووردت بأربعة مواضع فقط تفيد الاستفهام، والأمثلة محصورة بعشرين مثالا؛ فمن الإخبار قوله تعالى : “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة “، وقوله عز شأنه :”كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا “، ومن الاستفهام قوله تعالى :”قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين “، والفرق بين الإخبار والاستفهام يكمن فى احتياج الأخير للجواب وللتوضيح نقول :” أن المثال الأخير يحتاج إلى إجابة جاءت بكتاب الله حيث قال جل شأنه : ” قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ” فهو يسأل عن العدد، وجاء الجواب ليوضح العدد، أما الإخبار فلا يحتاج إلى الجواب لأنه لا يسأل عن عدد أو وضع أو بيان بل هو الإخبار بالكثرة أو للتنبيه أو للتهديد أو إنكار أو توبيخ…الخ، نعود للنص فنقول أنك شاعرنا الماهر عندما قلت :”وكم للمرء من حصن يقيه ” لا تسأل عن العدد لأنه مبهم ويصعب تحديده، لذا كان الإخبار أقوى وأبلغ كـأنك أردت أن تقول كثير من الأذكار والصلوات والفروض والطاعات التي تحصن المرء من الشرور ومن نزغات شياطين الإنس والجن، وكذلك الحال بالموضعين التاليين على الموضع الأول ….
أما عن المآخذ النحوية فأصدقك القول أيها الأديب بأني قد بحثتُ مدققا فلم أجد لك مأخذا، اللهم إلا اختلاف حول العطف من قولك :”مقر بالذنوب وسوء فعل “، فأنتَ خفضتَ عطفا على الذنوب وأرجح العطف على الإقرار، من قبيل عطف الاسم على الاسم، أو من قبيل جعل الواو (استئنافية وما بعدها يعرب على الابتداء) فيحملُ المعنى على تقدير مفاده :”مقر بالذنوب وسوءُ فعلي مقر به أيضا”، وحملُ هذا المعنى يأتي من افتراض افتراق الذنب عن الفعل السيئ، فليس كل فعل سيئ يعد عند الله ذنبا ولا العكس، فالذنب هو السيئات المتكررة عمدا (كما قال العلماء )، والفعل السيئ قد لا يتكرر ليتولد عنه الذنب، فمن الأفعال السيئة (الحقد )، ورغم كونه فعلا سيئا إلا أنه غير مذموم شرعا، لو كان بحق كمن يحقد على ظالم وفاسد ومضر للمسلمين (كما قال العلماء )، وبنظرة أخرى لخفض الاسم (سوء) وعطفه على شبه الجملة، يفترض التقدير أن يكون مفاده :” مقر لك يا ربي بكل ما هو ذنب وبما ليس بذنب من الأفعال المشينة والقبيحة والفاسدة”.
لمحة إيقاعية :
الشاعر الماهر أو الماهر الشاعر أصدقك القول بأنني إذ أتعرض لقصيدكم ينتابني شعور غريب بالحيرة، فأنت تجمع بين البساطة والقوة، وبين التواضع والرفعة، أو ما يسمى (بالسهل الممتنع)، لكن وأنت تعلم أن من عادتي الإنصاف لذا اسمح لي أن ألقي الضوء على الجانب الإيقاعي من زاويتين :
الأولى : الإيقاع
فنراه عزفا على الوافر بصورته المقبولة والمعهودة والمعروفة، لا بصورته الشاذة التي وللأسف يقترفها الكثير من الشعراء معاذ الله، بل المستشعرين من المعاصرين، وتفعيلاته : (مفاعلتن، مفاعلتن، فعولن) دخله القطف وهو علة، ودخله العصب وهو زحاف، وهذا وذاك جائز ومستعمل بكثرة، وسنقوم بتحليل النص خطوة بخطوة ونقف عند كل بيت على حدة ونبدأ بالمطلع :
دواء القلب أنك أنت فيه == وأنك يارسول الله كلي
مطلعٌ جميل وجميل وجميل، يتناسب مع جمال الممدوح (صلى الله عليه وسلم)، وروعة المادح الشاعر الأمين، دخل العصب أول (مفاعيلن )، ثم سلم (مفاعلتن )، ثم قطفت عروضه (فعولن)، ثم سلم (مفاعلتن )، ثم عُصب (مفاعيلن )، ثم قطف ضربه (فعولن ) في حبك وسبك رائع وجميل لا يعاب البتة …
وَكَــمْ لِلْمَرْءِ مِنْ حِصْـــنٍ يَقِيْـــهِ تَفَضَّلَ ذُوْ الجَلَالِ عَلَى الْمُصَـلِّــــــــيْ
نواصل الحديث عن الإيقاع فنجد البيت الثاني وقد عصب أوله (مفاعيلن)، ثم تكرر العصب (مفاعيلن)، ثم قطفت عروضه والقطف علة لازمة (فعولن)، ثم سلم بالشطر الثاني (مفاعلتن )، ثم قطف الضرب (فعولن ) في سبك جميل ولا شيء فيه …
فَطِــبْ نَفْـسًــا إِذَا صَلَّيْـتَ بَعْــدِيْ وّطِـبْ نَفْسًـا إِذَا صَلِّـيْـتَ قَبْـلِــــــــــيْ
الفعل الأمر المبني على السكون الظاهر، له وقع جميل جدا، بتكراره فى البدايات الإيقاعية، واللفظة المنصوبة على المفعولية أيضا، لها جميل الأثر الإيقاعي يجتمعان بجملة (فطب نفسا)، لا يتعلق الأمر بوتد وسببين خفيفين، أكثر من تعلقه بإيقاع رقمي، تجمل وتده حرف الباء، ويقوي ترنمه تنوين (نفسا)، والبداية طبعا معصوبة (مفاعلْتن)، ثم يتكرر (مفاعلْتن ) بسكون اللام في كليهما، ثم قطف في العروض، ثم يتكرر نفس الأمر في الشطر الثاني، ولم نجد للبيت كسرا كالعادة …
إِلَـهِـيْ قَــدْ دَعُوْتُـكَ فِـي سُجُـوْدِي وَكَمْ يَـدْعُـوْكَ فِـي الْأَسْحَــارِ مِثْلِـــــيْ
حرفٌ للنداء يحذف تاركًا المنادى المقدس المتعلق بالله (جل جلاله) يتصدر المشهد الإيقاعي في صورة جميلة، تضيف ياء المتكلم للمقام خشية وروعة وتذللا، (يا الهي) جميل أن نلجأ للمولى سبحانه، والأجمل مناداته جل جلاله، بداية معصوبة (مفاعلتن)، ثم السلامة (متفاعلن)، ثم قطف للعروض (فعولن)، وكذلك الحال بالشطر الثاني باختلاف بسيط ….
وَكَــمْ يَـرْجُـوْكَ غُفْـرَانًــا وَعَفْـوًا مُـقِــرٌّ بِـالذُنُـوْبِ وَسُـــــوْءِ فِـــعْــــــلِ
ولا يختلف هذا البيت عن سابقه في شيء، فوزنه بالقسطاس المستقيم وإن اختلفت النهايات، فكل النهايات السابقة زينتها (ياء المتكلم)، أما هذه النهاية فكانت للإضافة النصيب الأكبر في ختام المشهد الإيقاعي بكسر مستحق، يخرج الروي من دائرة الإقواء إلى دائرة الصحة والسلامة، وسنتحدث عن ذلك في جانب القافوي …
أَيَـا مَــوْلَايَ لَـيْـسَ يَخِـيْـبُ ظَـنِّـيْ عَلَى مَا كَانَ مِنْ صَـعْـبٍ وَسَـهْـــــــلِ وَلَـسْــتَ تَـرُدُّنِــيْ صِفْــرًا بِـذَنْــبٍ وَأَنْــــتَ عَــلَـي ذُوْ مَــنٍّ وَفَـضْــــــلِ إِلَــهِـــيْ مَـا بِـعَـبْـدِكَ لَيْـسَ يَخْـفَـى عَـلَـيْــكَ وَلَــيْـسَ يَـخْـفَـى قَـطُّ ذُلِّـــــيْ فَــوَيْـلِـيْ إِنْ رَفَعْـتَ السِّتْــرَ عَـنِّـي وَوَيْلِـيْ مِــنْ كَــلَامِ الـنَّـــاسِ وَيْــلِـيْ فَــيَــا اللهُ يَــا رَبِّــــيْ أَجِــرْنِـــىْ فَـلَيْــــسَ يُـفِيْـدُنِـــىْ جُهْـدُ اَلْمُـقِـــلِّ
الأبيات السابقة اتسقت مع الأبيات التي سبقتها وزنا وإيقاعا وجمالا، فلم نر لها عيبا ولم نلحظ بها كسرا، غلبت الإضافة على الخاتمة الإيقاعية لكل بيت ولا مشكلة في ذلك أبدًا، فيا أيها الشاعر الماهر قل لي : على أي قسطاس عدل وزنت كلمك ؟ أهو قسطاس المهارة والموهبة والفطرة ؟ فقط لنا مأخذ يتيم نوضحه على النحو التالي :
1_ ماالداعي أيها الماهر الأمين لهذا الكم من التشكيل المنضبط حسب قواعد اللغة، لديك كم هائل من سكون وحركات لا داعي لها فأنا وغيري يعلم جيدا أن ياء المتكلم (سااااكنة) طالما لم تعتلها الفتحة، فلماذا كل هذا التشكيل لعمري هذا مبالغ فيه ….
ثانيا : الجانب القافوي
أما عن القافية فهي من النمط الثالث من أنماط القافية ألا وهو المتواتر، وهو حرف متحرك بين ساكنين، فالقافية في المطلع هو قول الشاعر :”كلي” وذلك عند العلامة الخليل وهي مطلقة؛ رويها اللام والياء تسمى وصلا، وقد التزم الشاعر بقواعد القافية أيما التزام فلم نر له (إقواء ولا صرفا و لا سناد ولا عيبا من عيوب القافية) وهنا أقول:
إن الحفاظ على النسق القافوي ليس بالأمر السهل على الشاعر، فهذا التقيد العمودي بالقافية يتطلب مهارة وموهبة شعرية لدى الشاعر، وأنت أيها الشاعر الماهر تمتلك ما قلنا وسبق ذكره من مقومات وأدوات، فنراك لم تعتمد فقط على الياء الساكنة لتكون وصلك بل أتيت بإضافة نحوية تولدت منها (ياء الوصل) بحسب لفظة الضرب تعرب بالإضافة..
ختاما :
شاعرنا الماهر إن نصك هذا من ناحية الفكرة لهو نص رائع بكل المقاييس لتعلقه بمدح وخشوع وتجلي لله جل جلاله، اقتديت فيه بأبي العتاهية وسيطر عليك شعوره تارة وابتعد تارة أخرى، ونلحظ ذلك في توارد الخواطر وسبكك لبيت يتشابه معه روعة وجمالا، الشاعر الماهر أكتفي بذلك ودعني أقف لك إعجابا ودهشة لروعة ما قمت بصياغته، وتقبل مني رؤيتي الأدبية تقبلك لمودتي ومحبتي.
الشاعر ماهر الأمين