“ذكريات على ضفاف نهر الأمستل” لنجاة تقني التجنيس، التيمة، اللغة والفضاء بقلم القاص والروائي والكاتب المسرحي محمد العتروس

0
190

تقديم:
أنوه، بداية، في هذه المداخلة بهذا العمل الأدبي: “ذكريات عل ضفاف نهر الأمستل”، باعتباره باكورة المبدعة نجاة تقني، وتعرفون جيدا أن للوليد البكر مكانة، وطعما، ووقعا في النفس والقلب خاصا جدا.
مداخلتي ستتناول مجموعة أفكار، أو أسئلة، أعتبرها رؤوس أقلام لمحاولة فهم النص، والقبض على المعنى فيه، وإضاءة بعض جوانبه الفنية والدلالية. وما النقد إلا إضاءة لجوانب من النص الأبداعي، يتغيى توضيحها إما دلاليا أو جماليا.
وبطبيعة الحال هذه الأفكار ليست نهائية ولا ملزمة لأحد.

1/ أدب الهجرة أو أدب المهاجر:
أتساءل؛ هل يمكن أن نعتبر هذه القصة نصا مهجريا؟ أو نصا مُهاجرا؟
لا بد من استحضار الإرث الكبير للأدب المهجري، قديمه وحديثه، للإجابة عن هذا السؤال، بداية من الأدباء المهجريين في القرن ،19 مرورا بالرابطة القلمية وعصبة الأندلس (جبران ونعيمة وأبو ماضي وإلياس….)، ووصولا إلى الأدباء العرب في أروبا وأمريكا وأستراليا (محمد ديب، محمد خير الدين، اللعبي، سهيل إدريس، صالح….)، وانتهاء إلى الجيل الجديد من المهجريين (الجيل الثالث والرابع من المهاجرين المولودين بالغرب)، الذين يكتب بعضهم باللغة العربية، أو بلغات دول الإقامة كالفرنسية والهولندية والإنجليزية والإسبانية… ومن بين هؤلاء العديد ممن ينحدر من نفس مدينة الكاتبة نجاة تقني؛ مدينة بركان: (عبد القادر معتوق، محمد ميلود غرافي، مصطفى شعبان، حسن عربي، نور الدين بنبورحلة، أحمد حضراوي، البكاي كطباش، وعبد القادر بنعلي الذي يكتب بالهولندية….).

إذن، هذه القصة تندرج ضمن هذا الإطار: أدبا مهاجرا.. فصاحبته مهاجرة من المغرب إلى هولندا. وأدبا مهجريا، لأنها أنتجته في بلد الإقامة، وتتناول فيه حياة المهاجرين بطريقة أو بأخرى، وإن كانت لا تتحدث عن إشكالية الهجرة والغربة والإحساس بالعنصرية والأنا والآخر… بشكل واضح، ولا يتوضح لنا فيها خصائص الأدب المهجري الكلاسيكية.. كالحنين والشكوى والنوستالجيا…. فنحن نلمس في القصة تصالحا كبيرا، كما لو أن الكاتبة تكتب أدبا في وطنها الأم. وهذا الميسم بدأ يميز أدباء المهجر الجدد، عن الرعيل الأول.
نجاة تقني، في هذا النص، تتحدث بدون مركب نقص، وتتحدث بدون اغتراب مكاني على الأقل. شخصياتها لا تعاني من الاغتراب أو الغربة المكانية أو الزمانية، بل هي تعيش مكانها بكل جماله، وزمانها بكل طاقاته. الغربة أو الاغتراب الوحيد الذي تعيشه هذه الشخصيات هي غربة الذات عن الذات، غربة آدم عن ياسمين في مقابل توافق آدم مع إيڤا. إذن في هذه الحالة؛ الغربة عن ياسمين تؤدي إلى اقتراف المحضور والخطأ وهو الهروب إلى إيڤا التي يعتبرها توأم الروح.. فهل ستكون فعلا توأم روحه؟ هذا ما ستوضحه لنا الكاتبة في آخر القصة.

كذلك الاغتراب الوحيد هنا سيكون اغترابا وجوديا، (وهو بالمناسبة مشتركا كونيا بين جميع البشر وجميع النصوص الكبيرة، فالغريب في وطنه غريب في جميع الأوطان). يتضخم هذا الإحساس عند آدم مع ياسمين.. وكلما دخل إلى البيت، وعلى مدار عشر سنين. في مقابل التصالح النفسي والوجودي الذي يشعر آدم مع إيڤا (حتى الأسماء التي أطلقتها الكاتبة على الشخصيتان تبارك ذلك: آدم و إيڤا. أي حواء.. الولادة الأولى، الولادة المتجددة، والخطيئة الأولى التي أنتجت كل الخطايا).

تصالح آدم مع إيڤا يرقى إلى مقام الحب/الحرام، والسعادة والمتعة والانتشاء المحضورين.. كلما زار آدم الحديقة على نهر الأمستل. ولاحضوا معي هنا الفضاءات: فضاء مغلق مقرف ممل يدعو للاشمئزاز الذي هو البيت، في مقابل فضاء مفتوح جميل متجدد متحول، هواء ونهر جاري وحديقة.

2/ السؤال الأجناسي:
أعود بكم إلى سؤال أساسي ربما كان الأجدر أن أبدأ الحديث انطلاقا منه، ألا وهو سؤال الجنس الأدبي، أو القضية الأجناسية؟ بمعنى؛ إلى أي جنس أدبي ينتمي نص “ذكريات على ضفاف نهر الأمستل”؟
أول شيء يثير انتباهنا في هذا المسار هو الاختيار الأجناسي الذي ارتضته الكاتبة وسيلة للتعبير عن ذاتها: قصة.
وقد أشارت إلى ذلك في الغلاف فوسمت إبداعها بقصة، بل أنها، في تقديمها، بررت ذلك بقولها: “هواياتي كثيرة، لكنني لم أجد نفسي إلا في كتابة القصص” ص 12. إنه اختيار عن سبق إصرار وترصد ويؤكد وعي الكاتبة بالتجنيس.
لكن؛ لماذا لم تجنس نصها مثلا بقصة قصيرة، أو قصة طويلة، أو رواية قصيرة؟

إن كل هذه الاحتمالات واردة وتصلح إلى حد ما تجنيسا لهذا النص.
هل اختارت قصة للابتعاد عن النقد الذي سيلحقها لو وسمتها بغير ذلك؟ فلا أحد يشكك في انتماء هذا النص إلى جنس السرد القصصي.
أظن أن هذا الخوف مبرر، على الأقل في بدايات الكاتبة، لكنني في المقابل أستطيع، بكل ثقة، أن أجنس النص الذي بين يدي بقصة قصيرة (Nouvelle)، على غرار ماكان يجنس به أعلام السرد العالمي نصوصهم منذ سومرست موم وموباسان وإدغار ألان بو ويوسف إدريس وأحمد بوزقور والأمين الخمليشي…

3/ التيمات:
أو الموضوعات التي عالجتها الكاتبة في نصها.
أهم تيمة تناولتها هي تيمة الخيانة، وهي الخيط الرفيع الرابط بين جميع أجزاء النص وأحداثه وأفعاله بل حتى أسماء شخصياته كما بينت سابقا. (آدم، إيڤا، حواء، يحيلان على الخيانة والخطيئة). ولأن الخيانة فعل فقد ابتدأت القاصة نصها بفعل.. ولأن هذا الفعل/الخيانة جاثم على صدر البطل والبطلة (إذا أردنا أن نصف الشخصيتين الرئيسيتين بالبطل والبطلة تجاوزا) طيلة صفحات القصة المائة وخمسة، فقد ابتدأت القصة هكذا: “جلس على كرسي في إحدى الحدائق العمومية…” الجلوس معناه السكون، وطول البقاء، ولكن كذلك يعني الحركة خاصة إذا اقترن بكرسي وفي حديقة (مكان لا يصلح للإقامة)، ويعني الفعل المضمر ويعني أكثر أن الوقوف لا ريب قادم ولو بعد حين، وهو ما كان فعلا حين استنكر آدم الخيانة واختتمت القصة بفعل أيضا: “وقرر نسيان الماضي”.

الجلوس على كرسي في الحديقة والتفكير في الخيانة ماض قرر آدم نسيانه. لقد عالجت الكاتبة موضوعة الخيانة برومانسية، كما عالجت مسألة الحب: رجل متزوج لأسباب تبدو منطقية (مرض زوجته) يلتقي صدفة بامرأة أخرى جميلة فيحبها، يخون زوجته، يقدم عشيقته إلى صديقه باسم فيخونه ويتزوج منها (خيانة من الدرجة الثانية)، ثم تتاح له الفرصة فيخون هو صديقه ويصارح حبيبته بحبه ويقرران أن يطلق كل واحد منهما شريكه ليتزوجا (خيانة من الدرجة الثالثة)، وفي الختام يعود إلى زوجته بعد أن يعلم أنها حامل (عين العقل بالنسبة لأصدقاءه وللراوي وللقاصة نفسها لكنها تظل خيانة لإيڤا التي تخسر زوجها فتصبح خيانة من الدرجة الرابعة).

إنها عبارة عن سلسلة من الخيانات.. كل واحدة تؤدي إلى أخرى، إلى أخرى، إلى ما لانهاية. خيانة مركبة ومعقدة نفسيا ودلاليا.
بالنسبة لي كقارئ، كانت النهاية وجميع أحداث القصة بسيطة ومتوقعة، انتهت كما حكايات الجدات.. نهاية سعيدة.
هل هي نهاية منطقية؟ (أنا أقول متوقعة). هل هي نهاية مبررة جماليا ومبنية فنيا ودلاليا؟ لا أستطيع الجزم بذلك. لكن الكاتبة اختارت هذه النهاية.. كما لو أنها تقول: “فعاش الشاطر حسن وحبيبته في ثبات ونبات وخلفا بنينا وبنات”.
الذي أؤكده هو أن نجاة تقني انتصرت للجانب الأخلاقي أكثر من انتصارها للجانب الفني الجمالي.

4/ اللغة:
لا تشتغل المبدعة على مستويات عدة من اللغة، بل هي أمينة على اللغة العربية الفصحى، ولا تدخل عليها تعابير دارجة، بل بالعكس تذهب في بعض الأحيان إلى استعمال تعبيرات مسكوكة وأخرى من القاموس، مما يضطرها إلى شكل الكلمات ليستطيع القارئ نطقها.

هب لا تستعمل اللغة الوسطية أو ما يسمى باللغة الثالثة، ولا تستعمل العامية حتى في حواراتها، وهو ما درج عليه العديد من القصاصين والروائيين، بل أن المثيل في الأمر أنها لم تستعمل اللغة الهولندية التي هي أصلا لغة شخصيات ومكان القصة. والرسم اللاتيني حضر مرة واحدة في ترجمة عطر “GOOD GIRL”.
أشير فقط إلى ملاحظة بسيطة زهي أن النص لم يسلم من تأثير الأنترنيت وأسلوب المحاورة في الفايس بوك، فحضر الضحك على شكل صوتي (هههههه) في مواضع عدة من النص.

5/ الفضاء الزمكاني:
توزع الفضاء المكاني في النص بين مدينتين وفضاءين:
أمستردام وروتردام.. نهر الأمستل ونهر الراين.
في المدينة الأولى اشتغلت القاصة بحرفية على فضاءين هامين الحديقة ونهر الأمستيل من جهة وبيت البطل من جهة أخرى. ووصف المكانان بدقة متناهية، جعلت القارئ يتمثلهما ويعيش في أجوائهما بل ويحفظ حتى أدق التفاصيل، بل ويشعر ويتقاسم نفسيا ذات حالة البطل، واحمرار وجنتيه وخجله، وآلام روماتيزم زوجته، وتعبها، واصفرار وجهها، وبل يشعر بدفء ماء الدش.

وفي المدينة الثانية، المطبخ التركي والطاولة والنافذة المطلة على نهر الراين، وفندق “ماين بورت ديزاين” وبيت صديق آدم…..
أما الفضاء المكاني الآخر الذي هو الفضاء النصي أو ما يمكن أن نسميه النص البصري، فما أثارني هو أن القصة جاءت ممتدة في الزمان (خطيا)، وفي الرسم.. لا فواصل فيها إلا ما جاء من قبيل الصور التي تعطي للقارئ فرصة لالتقاط أنفاسه والبدء من جديد. فلا فصول ولا أرقام لمقاطع ولا صفحات بيضاء في ثنايا النص.. والصور جاءت لتؤكد أولا على أنها المحفز الأساس لكتابة النص (باعتراف الكاتبة نفسها)، وثانيا لوضع القارئ في الصورة.. أي التعرف على الفضاء الذي تدور فيه أحداث النص بصريا.

وأما زمنيا، فالقصة تمتد خطيا من الماضي إلى الحاضر، وتدور أحداثها على أكثر تقدير من أربعة إلى ستة أشهر بعد الرحلة إلى روتردام ونهاية القصة.. وثلاثة أشهر هي أشهر حمل ياسمين وقبل ذلك نتصور ألا تتجاوز ثلاثة أشهر وهي أشهر انتشار وباء كورونا والحجر الصحي…
انطلاقا من هنا يمكن أن نعتبر قصة “ذكريات على ضفاف الأمستل” قصة الوباءين.. وباء كورونا ووباء الخيانة.

خاتمة:
في الختام، أستطيع أن أقول أن المهاجر الأوربية أعطت الكثير من الأسماء المميزة، وأتصور أن نجاة تقني، بقصتها هذه، ترسم أولى الخطوات لتلتحق بالركب. هنيئا لها وأتمنى لها الاستمرار في الكتابة وفي إمتاعنا.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here