دور المذاهب الفقهية في توازن المجتمع ــ الشيخ الدكتور سمير مراد

0
610
ذ. سمير مراد
ذ. سمير مراد

دور المذاهب الفقهية في توازن المجتمع

‏**********

   الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم التنزيل: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) والقائل: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) والقائل: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) والقائل: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) وصلى الله على سيدنا محمد العربي الهاشمي الأمين، القائل: “وكونوا عباد الله إخوانا” والقائل: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله” والقائل: “الناس لآدم وآدم من تراب” والقائل: “وإن منكم لمنفرين” ورضي الله عن أصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بأحسان إلى يوم الدين وبعد:

  فمما لا شك فيه أن اجتماع الأمة أمر مطلوب شرعا، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقال: (ألا إن حزب الله هم المفلحون)، لكن ذلك مناط بالقدرة على تحقيق ذلك، من غير مضار تلحق المسلمين، فأن من صور حمل الأمة على الاجتماع قسرا، مع عدم المؤهلات، لهو من أكبر أسباب الفرقة والتشرذم، وإن من صور الاختلاف ظاهرا، ذلك أن مجتمع المسلمين غير قابل لهذه الصورة لعدم أهليته، كمن يدعو إلى كون الحاكم واحدا للجميع، فلن تقبل على حالها الأمة، مما سيقسمها إلى مزيد من الدول.

وعليه؛ فلنحرص على المحافظة على ما نحن عليه خشية ازدياد الفرقة، لكن ننشط في توعية الأمة لتوحيد الأفهام قدر المستطاع، وهو الأمر الأهم كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، إلى أن يحين الوقت في علم الله تعالى اجتماع الأمة تحت راية حاكم واحد.

ومن الجدير بالذكر أن الأمة في عامة مفهومها، مجتمعة على قواسم مشتركة كثيرة، فمثلا:

أصول التوحيد وأركان الدين، أصول التشريع والعبادات، أصول الأحكام والمعاملات، الأخلاق برمتها، أصول الحقوق وحفظها من التعدي، وغير ذلك من الأمور مما يساوي من حجم التدين ما لا يقل عن ٩٠ بالمئة مما هو متفق عليه، ولا يعني أن هناك تجاوزا وتعديا من البعض، أن الأصول قد نقضت، فهذا من الخطإ البين.

هذا؛ وإن ما بين الأمة من خلاف أو اختلاف، لا بد من تمييزه حتى لا نعكر صفو الحياة بيننا، فأن الاختلاف في أصله مذموم، أي: إذا كان يؤدي إلى شقاق ونزاع وفرقة، ولذا كان ممنوعا في كل الأصول التي ذكرناها سابقا، مما يوحي بأن الاختلاف في فروع هذه الأصول، غير ممنوع، بل كل مجتهد فيه مأجور أجرا أو أجرين، وإن أوسع الأبواب ولوجا، هو باب الظنون من الفقه، لأن نتاج الفكر فيه لا بد من تفاوته لتفاوت دلالته، أو تفاوت أصله الذي بني عليه، وعليه فلا بد أن ندرك، أن ثمة فرقا بين الاختلاف الممنوع، والاختلاف المشروع، إذ لا يصح جعل كل اختلاف ممنوعا، بدعوى أنه: نقمة، فرقة، مشاقة، منازعة، أو: تعدّ على شرع الله تعالى، حينها سينمو الخلاف الرديء المنبوذ، لأن هذه الدعوى غير ممكنة التحقق، فعجبا ممن يدعو لها.

باستقراء التسلسل التاريخي، نجد أن نماذج العقول والفحول متفاوتة، إذ لا يصلح الحال بكون الجميع درجة واحدة في الغنى، أو الفقر، أو القوة والضعف، وكذلك الإنتاج العقلي والكم المعرفي، لأن الدنيا بذلك ستفسد، فكان من أسباب صلاحها وجود التفاوت الذي ينتج عنه التدافع مما يؤدي إلى عمارة الأرض، فمن عقول قوية في الصناعة، ومنها في العمارة، ومنها في الزراعة، ومنها في العسكرية، في السياسة، في علم الأرض، في علم الفلك……، وهكذا، ومما جعله الله تعالى سببا في عمارة الدنيا، ورقي الخلق، التفاوت في الكم المعرفي وقوة الذهن والعقل، المؤدي إلى التفاوت في الإدراك والإنتاج ومعرفة الصواب والأصوب، والنافع والأنفع، والضار والأكثر ضررا، والسيئة والحسنة وهلم جرا، مما أوجد في النهاية صروحا شامخة، لا تطالها إلا عقول ناضجة، تدرك أن ذلك كله من أجل بناء الأمة، وعلى ذلك يجب أن يفهم، وحين نستعرض تطبيق فهم قوله تعالى: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، نجد كما وافرا يثري حياة الأمة ويحقق تآلفها وخلاصها، لأن الأمة -على تنوع ألسنتها وثقافاتها البيئية وأعرافها- لا يمكن لعقل واحد أن يستوعبها علما وفقها، والسبب قصور هذا الواحد عن ذلك وعدم كماله، إذ الكمال فقط في النص ثبوتا، ودلالة في علم الله: “علمه من علمه”، وأما في أفهام المجتهدين فلا كمال، ومن هنا كان من الصحابة من يرى أن الأمر كذا حدث ينقض الوضوء، أو أن العدة مطلقا تكون بأبعد الأجلين، أو أن الرؤية للصيام تثبت بواحد أو اثنين، وهكذا، ومن هنا، صح مذهب المخالف، لصحة مأخذه ولا ينقض ذلك بأي دعوى تدعى، لأنها حينها غير صحيحة.

وترتب على ذلك، أن لكل فقيه معتبر أتباعا يأخذون برأيه، وقد كان ابن عباس يفتي برأي الشيخين، أبي بكر وعمر، وكان ابن مسعود يأخذ برأي عمر، وكان الصحابة يقلد بعضهم بعضا، حتى فشى ذلك الأمر وانتشر دون نكير، لأن القضية قائمة على أمرين:

١. أهلية المتكلم.

٢. احتمالية النص للدلالة.

ولهذا لم يكن لهم اجتهاد في القطعيات من حيث دلالتها -إلا من حيث النسخ وما شابهه- لأنها لا تحتمل، وأما ما وراء ذلك، فكتب الفقه طافحة بآراء الفقهاء، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا.

فعن مسروق أن فقه المدينة آل إلى علي ابن أبي طالب، وعلم العراق آل إلى ابن مسعود، وعلم الشام إلى أبي الدرداء، قلت: وفقه مكة إلى ابن عباس.

ولما آل الفقه -بعد الصحابة- إلى التابعين، برز منهم من برز، كعطاء وابن المسيب وغيرهم، بل اشتهر في المدينة الفقهاء السبعة، وكما ذكرت سابقا، أن الفقه في كل مدينة مركز للمسلمين، آل إلى صحابي، فهو فيما بعد آل للفقهاء من التابعين، ثم آل فيما بعد:

فقه العراق إلى أبي حنيفة وطلابه.

وفقه المدينة إلى مالك.

وفقه مصر إلى الليث.

وفقه الشام إلى الأوزاعي.

وهكذا، ثم جاء الأئمة من بعد، الشافعي وأحمد، فكان لكل واحد مذهبه، وعندي أن فقه الأئمة جميعا قد اجتمع في الشافعي، فهو تلميذ مالك، وتلميذ محمد بن الحسن الشيباني، فحاز بذلك علم المدينة والعراق، وأخذ فقه الشام ومصر عن تلامذة الأئمة، وأضاف إلى ذلك فقهه، فكان وعاء العلم بلا نزاع ولا مدفع.

وعليه:

فتحقيق الإنسانية، وتحقيق التوحيد، وتقرير المبدأ والمعاد، كلها أسباب الاجتماع، والتي لا يمنع منها بل يعززها، الاختلاف الفقهي، لأنه إثراء لها وإثبات، لا محو وتعطيل، ونقول الثراء الفقهي للأمة، لأنه من الأمر المستساغ، ذلك أنه يقوم على أصول وقواعد كلية، تنتج لنا فروعا نمشي عليها لنصل جميعا إلى عبادة الله تعالى، وهذا الذي قصدته من أن:

المذاهب توحدنا، وتوجد توازنا بين أفراد المجتمع، لأن المحصلة الوصول إلى مرضاة الله تعالى، وليس هذا من باب إقرار خلاف مرفوض شرعا، بل هو من باب إقرار الخلاف أو الاختلاف المأذون به شرعا -كما سبق ذكره- إذ بطلب رفعه ينشأ خلاف أو اختلاف أكبر منه، لأن حقيقة القول به تقليد وقد يكون لغير مؤهل، فكيف يُصار من خلاف هو رحمة إلى خلاف هو نقمة، ومن خلاف معتبر إلى خلاف غير معتبر، ومن خلاف من مؤهلين، إلى خلاف من غير مؤهلين، وهكذا، ولذا فمن قال بهذا، فهو غير مخالف للمنهج، ونحن نقص عليك حقيقة المنهج، لتدرك:

١. ما هو المنهج.

٢. أن من دعاة هذا القول من لا يعرف حقيقة ما يقول:

أقول: فالمنهج هو:

أولا: المنهج الكلي الغيبي (العقائد)

ثانيا: المنهج الكلي الاستدلالي.

فالأول: الذي هو العقائد، الخلاف فيه معروف، نوعا ومن يخالفنا فيه، مع الاتفاق في أصول الغيبيات جملة بين المسلمين، وهذا فصله ابن تيمية في الفتاوى، وفي كتاب النبوات تحديدا.

والثاني: وهو كليات الاستدلال، فلا شك أن الكل من المسلمين يستدل بالكتاب والسنة وجمهورهم يزيد الإجماع وغيره، ولا يخالف في هذا سوى الخوارج والرافضة.

قلت: فهذا هو المنهج الذي يمكن التحدث عنه، فما شأن الفقه في ذلك؟! لكن يدخلها البعض تدليسا أو تلبيسا أو جهلا أو خطأ، ولذا فلا تصح نسبة الفقه لغير الفقيه، لأنه عمل ذهني في النص، فلا يقال:

فقه أشعري، ولا ماتريدي، ولا سلفي ولا غير ذلك.

لكن يقال:

حنفي، مالكي، شافعي،حنبلي، ظاهري، ذاك أن هذه الأسماء في الحقيقة تمثل مدارس للاستنباط، قبل أن تمثلها في الفروع، أعني:

أن لكل مدرسة -بعد الاتفاق على أصول كلية في الاستنباط- لها أصول قد تتميز بها عن غيرها في الاستنباط، ولذا نجد خلافا بين بعضهم، ولا يصح أن يعتبر خلافا للدين، لأنه خلاف في الدين لا ضده، أي: معه، لأنه نوع من الفهم أو التفسير للنص، على طريقة محددة من خلال إما الدلالات اللغوية، أو الأخذ بنوع من أنواع الاستنباط لا يأخذ به غيره، أو يأخذ به لكن ينقص منه أو يزيد عليه، وهكذا.

ومن هنا يظهر أثر في غير محله، وهو دور الحديث والمحدث، فمن المعلوم أن المحدث وعلوم الحديث، سياج يحفظ الشرع والسنة من أن يدخل فيهما ما ليس منهما، لكنهما في نفس الوقت، -أعني المحدث- فلا يمكن أن ينتج فقها، إلا أن يكون فقيها، ولا يمكن أن يكون فقيها بعلوم الحديث وحدها، من غير أن يضاف إليها آلات الاجتهاد والاستنباط المعروفة عند العلماء، ومن هنا ندرك خطورة فهم:

إذا صح الحديث فهو مذهبي

إذا حملت على غير مقصد الأئمة الذين قالوها، لكن البعض أجرم في مسائل، لعدم إدراكه الفرق بين السنة والسنة، بين السنة التي من تركها فليس من رسول الله، ويكون معناها حينئذ الطريقة الكلية في العبادة، وهي التي يقابلها البدعة، وبين السنة التي تعني الحكم التكليفي بمعنى المندوب، والذي يقابله المكروه لا البدعة، فلا نريد أن نخلط بين المصطلحات، ثم نلزم الناس بهذا الخلط على أنه الدين، وليس هو من الدين في شيء.

وكذلك يظهر خطأ عبارة:

كل محدث فقيه، إذ ليس كذلك، إلا أن يكون فقيها في ذاته يملك آلات الاجتهاد غير الحديث، كأحمد والبخاري وأبي داوود، لا كمسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم، فهم غير فقهاء، أي: غير مجتهدين وإنما هم مقلدون لغيرهم من الأئمة كالشافعي ومالك.

ومن هذه النظرة -أعني نظرة الكمال في شخص ما- نشأ التعصب، والذي معناه، أخذ القول ولو لاح فساده، وهو أخطر شيء على العلم وأهله.

فالتعصب شيء، والتقليد المجرد شيء آخر.

ولا أطيل، و البحث بحاجة إلى مزيد بيان، لكن في ذلك كفاية لكل لبيب، فينتج أن التقليد:

١. مطلوب: وهو اتباع إمام في أصول مذهبه، ليصبح المقلد مؤهلا لأن يقول: هذا حلال وهذا حرام، إذ بغير آلة الاستنباط لا يمكنه ذلك، وذلك للطالب النجيب.

٢. لا مفر منه: وهو لازم لكل عامي يريد أن يعبد الله، إذ لا يمكنه الوصول للحكم الشرعي بلا واسطة.

٣. محرم: وهو التعصب كما مضى معناه وبيانه.

وفي الختام، فلا شك أن من قلد دينه لإنسان كامل في علمه كمالا يؤهله لذلك، يخشى الله ولا يتقول عليه، جائز شرعا، بل هو من دعائم وحدة الأمة وتوازنها، إذ لا يمكن غير ذلك، والواقع والتاريخ يشهد، وأن الدعوة لغير ذلك على إطلاقها، زعزعة للمجتمع المسلم، وتشكيك في علم الأئمة وتدينهم، ولا يعني هذا قصر الاجتهاد عليهم، لكن لا نعطي حق الاجتهاد لغير أهله ولغير مؤهل.

والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. سمير مراد

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here