نشر الصديق الحبيب الأستاذ الدكتور حسن مغازي على صفحته (بتاريخ 2018/01/19) مقالة بعنوان ” تفنيد دعاوَى الشحر العر” فند فيها (بحسب رأيه) اثنتا عشرة نقطة يذكرها كتاب “الشعر الحر” دفاعا عما يسمونه شعرا. جمعت هنا تعليقاتي على مقالة الدكتور حسن للنقاش والفائدة.
=====================
الأخ الدكتور حسن مغازي؛
أشكر لك غيرتك على العربية والشعر العمودي. لقد كتبتُ عدة مقالات ردا على أنصار “الشعر الحر” و”قصيدة النثر” ضمنتها العديد من النقاط التي تفضلت بذكرها.
ولكني، رغم اتفاقي معك في العديد من النقاط، أجد نفسي مضطرا لمخالفتك في بعضها فقد وقعت مقالتك في أسوأ فخين يمكن أن تقع فيهما مقالة مفكر/أكاديمي: الخلط والتعميم، وكما يقولون (ما يقع إلا الشاطر).
سأجعل ملاحظاتي على مقالتك في نقاط حتى يسهل الحوار، ومن نافلة القول أن نقدي لمقالتكم نقد أدبي/علمي فأنا ضد الشخصنة.
(1) من العجيب الغريب تهجمك على الشخوص وتصنيف بعض الشعراء كحملة (دبلومات متوسطة) فتقول بالنص: “في حلقات سابقة اكتشفنا أن حولنا مجموعة من(الأدعياء)؛ (أنصاف متعلمين)؛ حملة(دبلومات متوسطة) في غالبهم؛ (نازك دبلوم معلمات، والسياب فاشل في دراسة الأدب العربي، وعبد الوهاب البياتي تخلف في مادة الأدب العربي ثلاث مرات، وأسقط العراق جنسيته؛ لأنه عميل جاسوس، وعبد الصبور تخلف في الأدب العباسي، وفي الأدب الجاهلي). ”
وهنا نقطتان:
– ما علاقة المؤهل العلمي بالشعر؟!
لن أسهب، ولن اذكر أمثلة، ولكن لا يقول بوجود مثل هذه علاقة طردية عاقل، فكثيرون من حملة الشهادات العليا من الشعارير، ومئات ممن أبدعوا في الشعر لا يحملون أي شهادة أو درسوا تخصصات لا علاقة لها بالأدب العربي.
– من هم حملة الدبلومات المتوسطة في من ذكرت؟
لم تذكر سوى (نازك الملائكة) وأهملت أنها بعد أن تخرجت من دار المعلمين العالية عام 1944 دخلت معهد الفنون الجميلة وتخرجت من قسم الموسيقى عام 1949، ثم حصلت في عام 1959 على شهادة ماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن – ماديسون في أمريكا، وعينت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت.
(2) في معرض التهجم الشخصي على عدد من الشعراء ذكر الدكتور بالنص: “جميعهم عقولهم تحت سيطرة الماسونية العالمية، وإحساس كل منهم تجاه(الشعر)هو كراهية ما يجهلونه ـ أولئك بحالهم المزرية هذى(اغتصبوا منصات الشعر)فى صفقة فساد كبرى بين(أولئك)بفسادهم، والنظام بسوءاته، هو يعليهم(إعلاميا)، يصورهم لـ(الدهماء)على أنهم(شعراء)، فى مقابل أنهم فى(نتاجهم)يزيلون عن وجه النظام أدرانه، وسوءاته.”
ألا يتناقض مثل هذا الكلام مع قوله مثلا مع حقيقة أن البياتي (مثلا) قد طرد من وظيفته وأسقطت عنه الجنسية العراقية (لأنه جاسوس كما يدعي)؟ ولم يذكر بالمناسبة أن الرئيس البكر أعاد له الجنسية العراقية فيما بعد.
أما الاتهام بالماسونية فلم تقم عليها أي حجة، وما أسهل الاتهام دون دليل.
(3) ذكر الدكتور “الشعر الحر” (أو العر كما يسميه) ويبدو أنه يدخل “قصيدة التفعيلة” ضمن الشعر الحر وهذا خلط واضح، فلا يمكن وضع “قصيدة التفعيلة” التي تلتزم بالوزن وإلى ما بالقافية ضمن ما يسمى “الشعر الحر” الذي يتحرر تماما من الوزن والقافية (مثل ما يسمى “قصيدة النثر”) في سلة واحدة.
تتوفر في قصيدة التفعيلة (الجيدة) جميع عناصر العمل الأدبي التي ذكرها الدكتور (وأتفق معه تماما في قوله هذا) وهي: استحقاق الفكرة، وصحة اللغة، وصدق الإحساس، ودقة التصوير بما يحقق الدهشة، وغزارة التكثيف بما يحقق الدهشة (بل إن التكثيف في قصيدة التفعيلة أكبر، ودرجة من الرمز).
تتوفر في قصيدة التفعيلة (وهذا ما يميزها عما تسمى “قصيدة النثر”) الخصيصة السابعة: “نغم الخليل” كما سماها الدكتور، فقصيدة التفعيلة مبنية على تفعيلات الخليل وهي أساس “النغم”.
ما هو العنصر المفقود في قصيدة التفعيلة؟! إنه عنصر لم يذكره الدكتور صراحة: “الشكل” ويبدو أنه يدرجه تحت بند “نغم الخليل”.
أما قصيدة النثر فلا يتوفر فيها هذا العنصر على الإطلاق، وهذه هي معضلة هذا النوع من الكتابة. كيف يعاملان إذن نفس المعاملة ويوضعان في سلة واحدة؟! هذا خلط أنزه مختصا بالأدب العربي عن الوقوع فيه.
من نافلة القول أن هناك كتابات تتجنى على الشعر تفتقد لبعض العناصر الستة (وربما كلها) ولكن هذا ليس خاصا بشعر التفعيلة كما يحاول المتعصبون ضدها القول، ولا في الشعر العمودي كما يحاول المتعصبون ضده القول، بل هو آفة كافة الأشكال الأدبية في هذا العصر.
(4) يذكر الدكتور في النقطة السابعة ما نصه: “تبجح أولئك بأنهم(يتحررون) من (قيود) النغم، و(ينطلقون) إلى (اتساعات) الكلام من دون (تقيد)، والحقيقة من خلال النظر في نتاجهم تعلن أنهم قد (حصروا) أنفسهم في غالبية نتاجهم في (نغم المتدارك) الذي أهمله الخليل، وفي (نغم الرجز) الذي يسميه نقادنا (حمار الشعر)، وتركوا سائر (أنغام الشعر العربي)؛ لقد (ضيقوا) على أنفسهم، لقد (قيدوا) أنفسهم، لم (ينطلقوا) في براحات سائر (الأنغام)؛ لن تجد على الإطلاق أيا من هؤلاء يقول على أنغام (المجتث، المضارع، المقتضب، المنسرح، الخفيف، السريع، المديد، البسيط، الطويل …)، ما أشد حماقة الطفل الذي يصر على ترك حرية الحركة مقيدا قدميه بخيوط اللعبة إلى أن تدمي قدميه (الضعيفتين)، وتنكسر (ذراعاه) الهزيلتان من دون أي سبب سوى (اللعب)، ومن دون تحقيق أي هدف عملي.”
ولي هنا أربع ملاحظات:
• أتفق مع الدكتور أن في كون غالبية شعر التفعيلة على البحور الصافية إشكالية ومعه في أن “معظم” شعراء التفعيلة وسعوا على أنفسهم من جوانب وضيقوا على أنفسهم من جوانب أخرى.
• القول بأنه لا يوجد شعر تفعيلة على “على الإطلاق” على البحور المختلطة غير دقيق بالمرة، وهنا أحيل الدكتور إلى كتاب (العروض الجديد … أوزان الشعر الحُر وقوافيه: محمود علي السمان، دار المعارف – مصر؛ 1983) وقد أورد فيه أمثلة من شعر التفعيلة على كافة البحور بما فيها البحور المختلطة)، وهذه الطبعة صدرت قبل من 35 سنة كتب بعدها مئات الشعراء (ولن أقول الآلاف فلا أؤمن بوجود آلاف الشعراء) على كافة البحور.
• ليس صحيحا أن غالبية شعر التفعيلة على المتدارك والرجز. نسبة لا يستهان بها من شعر التفعيلة على الكامل والمتقارب والوافر.
• من المعلوم أنه حتى في العمودي فإن الشعر على (المجتث، والمضارع، والمقتضب، والمنسرح، والمديد) أقل بكثير من باقي البحور، بل إن البحور الثلاثة الأولى كانت شبه مهملة قبل الخليل.
(5) يتطرق الدكتور لموضوع الموشحات، وهنا لي عدة ملاحظات:
– قول الدكتور: “حتى الخروج من خلال (الموشح) كان كبار شعرائنا في الأندلس موضع نشأته يأنفون من القرض عليه؛ لن تعثر على أي قرض عليه لللكبار: ابن زيدون، أو ابن عباد، أو ابن حمديس، … ،إنما اقترف هذا مرتكبا جناياته أنصاف (الأدباء) آنذاك، ولا وجه على الإطلاق للموازنة بين كبار شعرائنا في الأندلس والموشحين من أمثال: …”
كلام تنقصه الدقة. فقد وجدت لابن زيدون موشحين (وربما كان له أكثر): موشح “سلام على تلك الميادين”، وموشح “قرطبة الغراء” يقول فيه:
سَقى الغَيثُ أَطلالَ الأَحِبَّةِ بِالحِمـى *** وَحاكَ عَلَيها ثَوبَ وَشـيٍ مُنَمنَمـا
وَأَطلَـعَ فيهـا لِلأَزاهيـرِ أَنجُمـا ** فَكَم رَفَلَت فيها الخَرائِـدُ كَالدُمـى
إِذِ العَيشُ غَـضٌّ وَالزَمـانُ غُـلامُ
###
أَهيـمُ بِجَبّـارٍ يَعِـزُّ وَأَخـضَـعُ *** شَذا المِسكِ مِن أَردانِـهِ يَتَضَـوَّعُ
إِذا جِئتُ أَشكوهُ الجَوى لَيسَ يَسمَعُ *** فَما أَنا في شَيءٍ مِنَ الوَصلِ أَطمَعُ
وَلا أَن يَـزورَ المُقلَتَيـنِ مَـنـامُ
– يذكر الدكتور عددا ممن يقول إنهم (أنصاف الأدباء) وهم: “ابن القزاز، وابن الموصلي، وابن حميضة الحرمي، وابن ريان الحلبي، وابن القبرى الضرير، وابن هارون الرمادي، وابن معافى القيرى، وأبي جمعة التلاليسي، والأعمى التطيلي، وابن زمرك، وابن سهل”، ويهمل (عامدا) ذكر أهم شعراء الموشحات المشهود لهم، ومنهم: أبو عبد الله ابن الخطيب (صاحب الموشح الأشهر: جادك الغيث)، وأبو بكر بن زهر، وابن حزمون المرسى، وأبو الحسن بن فضل الاشبيلي، وعبادة القزاز، ويحيى بن بقي، وأبو بكر بن باجة، ومحمد بن أبي الفضل بن شرف، وابن مؤهل، وأبو إسحاق الزويلي.
– ثم يقول الدكتور: “ولعل إعادة النظر كرتين في أسماء كبار الموشحين أولئك له دلالته فيما نحن فيه، ومعظمهم يهود.”
لم يذكر لنا الدكتور من هم هؤلاء اليهود لنتأكد من أن معظم شعراء الموشحات يهود. وقد بحثت في الأسماء التي ذكرها فلم أجد ما يؤيد ما تفضل به، بل وجدت فيهم فقهاء!
– يقول الدكتور: ” من أهم أسس التوشيح احتواؤها على: (لحن في اللغة)”.
هذا قول لا دليل عليه. لا أنفي أن تكون هناك أخطاء لغوية في الشعر الأندلسي، ولكن أن يكون اللحن “من أهم أسس التوشيح” فهذه مبالغة كبيرة، إذ أنه يقتضي عدم خلو معظم الموشحات من الأخطاء اللغوية!
======
الخلاصة: أتفق مع الدكتور في معظم ما طرحه (مع التحفظ على بعض العبارات الحادة). أتفق معه في ما لا يقل عن سبع نقاط من أصل اثنتا عشرة طرحها، وقد ذكرت بعضها في مقالات سابقة لي عما يسمى “قصيدة النثر” ولكني أختلف معه بشدة في النقاط التي وضحتها.
وقع الدكتور حسن مغازي في عدد من الأخطاء غير المنطقية التي ما كان لمختص أن يقع فيها، وورد فيها عدد من المعلومات غير الدقيقة.
أحترم كثيرا د. حسن مغازي وأقدر له غيرته على اللغة العربية، وعلى الشعر العمودي، ووقوفه في وجه المتشاعرين والمتطفلين على الأدب الذين يغتصبون المنصات الأدبية.
ولكن …
لست مع خلط الحابل بالنابل، والتهجم على شعراء كبار أثروا الشعر العربي، فالدكتور الكريم يحتقر شعر التفعيلة ويسميه “الشعر العر”، ولا يعترف بشعراء كبار كنزار ودرويش وأحمد مطر وأمل دنقل وغيرهم.
يظل الشعر العمودي الأساس، ولكن التعامل مع كل تجديد باحتقار ونظرة دونية لن يخدم الشعر في شيء.
لنقف جميعا في وجه من يهدمون الشعر من أساسه، ولا نضع معهم في سلة واحدة المخلصين الذين يحاولون التجديد.