دراسة في الشعر المعاصر.. “القسم الرابع” __ د. فالح الكيـلاني

0
131

 

دراســـــــة في الـــشــــــعــرالـمـعــــــــــــاصــــر
“القسم الرابع” :

إن المتعة الجمالية هي الوسيلة الشعرية في الوصول إلى الغاية، فالجمال وسيلة الشعر إلى غاية الجمال (فهو إحدى وسائل غرس الجمال في الوجود ويعد من وسائل غرس الجمال الكبرى الصورة الشعرية).
ان الوزن سمة قاهرة من سمات الشعر، ولئن لم يركز الرومانسيون والرمزيون على البعد الإيقاعي الصوتي بصورة خاصة، فإن المتأثرين بالمدارس اللسانية الحديثة يتفقون ان العنصر الإيقاعي الدال الأكبر والعنصر الأظهر من مكونات الشعر، فالنص الشعري حقيقة هو نوع من الأوزان، تتولد من قاعدة اتحاد وانسجام بين مختلف مستوياته، وخاصة بين حروف اللغة وإبراز ذات الصوت المتشكل من الحرف اللغوي واتصاله بآخر، وفقا لإمكانية الشاعر ومقدرته على الإتيان بالأفضل، ويشكل العروض الجانب الأبرز في الشعرية، إلا أن القصيدة المعاصرة وأقصد قصيدة الشعر الحر التزمت عن بعد بحور الشعر الصافية، مع إيغالها المفرط في الزحافات عند أغلب شعرائها، أو قصيدة النثر الرافضة لكل المفاهيم الشعرية القديمة، والثائرة على كل الأوضاع الموروثة سائرة في خط الحاضر أو المستقبل .

والشعر على العموم بجماليته وقوته وطموحه وأحلامه، يبقى بماهيته شكلا ومضمونا ومنابعه الصافية محيراً للعقول، ويظل جمال ماهيته شيئاً مثيراً جاذباً للنفوس وعواطفها، معبرا عن خوالجها، يكتسب جماليته من وظيفته الإيحائية الغامضة فنياً . صائغا ماهيته من انبثاق عالم مكبوت في داخل هذا الشاعر الثائر، وعلى هذا انبثقت جمالية هذا الفن من روحية عالية، ونفسية شاعرة ملهمة.
ولعل وقائع الأحداث التي رافقت هذا العصر ربما أسهمت في كثير من الأحيان في اختلال بعض القيم والمعايير الإنسانية، و كانت السبب المباشرالذي دفع بالشاعر المعاصر الاهتمام بالمعطيات الموضوعية والفنية لهذه الأسطورة، ليهرب من واقعه المرير إلى عوالم أخرى قد تسودها المثالية ويحلق فيه الخيال الجانح نحو الارتقاء والتمكن، فيبني الشاعر عالمه الخاص به، والذي يملأ عليه فراغات من ذاته المكبوتة. وقد طفق الشاعر المعاصر ، نتيجة لهذه المتغيرات السياسية والأحداث المأساوية التي شهدها العصر الحديث، يتلمس أو يتفهم المقومات القادرة على الإفصاح عن رؤيته الإنسانية الشاملة إلى أبناء وطنه أو إنسانيته، وقد تكون هذه الأسطورة أو تلك خير وسيلة للتعبير عن النوازع النفسية أو الحوافز الداخلية عنده، أو تعبر عن نفسية الآخرين . ربما جاءت لتعبر عن تجسيد للتوق الإنساني الشديد وشكله الخيالي المناسب لهذا التعبير..

لذلك أصبحت الفكرة أو الأسطورة من أهم أحداث القصيدة الحديثة التي عبأ الشاعر فيها هواجسه ورؤاه وأفكاره وتجربته الشعرية، بدءا من مستواها الذاتي إلى المستوى الأرقى لتمثل بوا سطتها الواقع الإنساني في هذا العصر بصورة عامة.
ومن خلال دواوين الشعراء وخاصة المعاصرين منهم لتجد فيها أو ترصد فيها أنماطا متعددة من الرموز والأساطير التاريخية على مر العصور ، فقد أولى عدد منهم اهتماما واضحا بالأساطير البابلية والآشورية والسومرية أو الفرعونية أو الأمازيغية، التي قد ترتبط بأحداث تميزت بالقدرة على إظهار إحداث العجائب والخوارق، وأوجدت شكلية جديدة للشعر المعاصر وعاملا مهما من عوامل التحفيز والإثارة، وتجسدت بشكل حيوي في أنشطة هذا الإنسان منذ القدم في الوقت الحاضر، أو بمعنى آخر غيرت أسطوريته إلى واقع حاضر ليستلهم منها كل جديد.

فالأسطورة هي الوعاء الذي وضع فيه الشاعر المعاصر خلاصة فكره وجديد عواطفه ونزعاته، وأن هذه الأساطير تمثل ما تبلور في أذهان الإنسان القديم في العراق أو مصر أو اليونان والرومان أو الفرس وغيرهم من الأقوام القديمة، ذات التاريخ العتيد والثقافة الرفيعة من قصص وحكايات أسطورية،فعبر الشاعر في تصويره الشعري لخلق العالم من جديد، ولوجود هذا الإنسان على الأرض، ومصيره المجهول، وما يحيط به من مظاهر الكون والطبيعة وتساؤلات واسعة، أو ربما تكون في بعض الأحيان غامضة يتكهن الإجابة عليها، وربما تفلت منه فتبقى سرا سرمديا قديما وحديثا .

يراجع كتابي (دراسات في الشعر المعاصر وقصيدة النثر)
والأساليب الشعرية المعاصرة والحديثة والتي تتمثل في الشعر الحر أو قصيدة النثر مهما كثرت زواياها، واختلفت طرقها فإنها تتمثل في مجموعتين أسلوبيتين هما الأساليب التعبيرية والأساليب التجريدية.
يتمثل الأسلوب التعبيريّ بالنمط الذي تنتجه أشكال اللغة الأدبية أسلوبا ملونا بلون من المعايشة غير المباشرة أو المعهودة، حيث تقدم نوعاً من الحقائق المبتكرة بتحريف يسير للغة المعبرة، وتفعيل معقول لآليات التوازي والاستعارة والترميز بشكل يؤدي إلى الكشف عن التجربة في مستوياتها العديدة، التي قد تصل إلى أبعاد محددة، لكنها تظل تعبيرية الحقيقة المكنونة .

أما الأساليب التجريدية فتعتمد على زيادة معدلات الانحراف وتغليب الإيحاء والرمز على التصريح، فتعطي القصيدة إشارات مركزة يتعيّن على المتلقي إكمالُها وتنميتها من الداخل، مع فارق جوهري بين التعبيرية والتجريدية يتمثل في إشارة الأولى إلى التجربة السابقة على عملية الكتابة نفسها سواء أكانت حقيقية أم تخيلية، واختفاء هذه الإشارة في الثانية بناء على غيبة هذه التجربة.
ويندرج تحت التعبيرية أربعة أساليب، هي:
1-الأسلوب الحسي الذي تزيد فيه الإيقاعية والنحويّة؛ في حين تقل درجة الكثافة والتشتت والتجريد،
2-الأسلوب الحيوي الذي ينمي الإيقاع الداخلي ويعمد إلى كسر يسير في درجة النحوية ويتوافر فيه مستوى جيد والتنويع من دون أن يقع بالتشتت.
3- الأسلوب الدرامي الذي يعتمد على تعدد الأصوات والمستويات اللغويّة، ويحقق درجة من الكثافة والتشتت من دون أن يخرج عن الإطار التعبيري.
4- الأسلوب الرؤيوي الذي تتوارى فيه التجربة الحسيّة مما يؤدي إلى امتداد الرموز في تجليات عديدة ويفتر الإيقاع الخارجي، ولا تنهض فيه أصوات مضادة، ويحقق مزيداً من الكثافة مع التناقص البين لدرجة النحويّة.
وفي الأساليب الشعرية المختلفة، نلاحظ الأسلوب الحسي يتمثل في شعر (نزار قباني) أفضل نموذج للشعر الحسي، وفي شعر ( بدر شاكر السياب) نموذجاً للشعر الحيوي، أما الشعر الدرامي فيتمثل في شعر (صلاح عبد الصبور) الشاعر المصري من خلال نتاج صلاح ؛ في حين يكون الأسلوب الرؤيوي ممثلا بشعر (عبد الوهاب البياتي).

أما إذا أردنا أن تكون كل هذه الأساليب مجتمعة بواحد فخير مثال شعر (محمود درويش ) كنموذج للتحولات التي تتسع لكل هذه الأساليب التعبيريّة، فقد بدأ من الأسلوب الحسي الذي خرج فيه من تاثير نزار قباني فيه لأنه معلمه الأول ، ومثّل على ذلك قصيدة (بطاقة هوية)، وانتقل إلى الأسلوب الذي اجتمعت فيه الحيوية والدرامية، كما هو الحال في قصيدة ( كتابة على ضوء بندقية )، وانتهى إلى أسلوب الرؤيا الشعرية الذي تمثله قصيدة ( أرى ما أريد ).

وربما تكون التجريدية تقتصر على أسلوبين فقط يتداخلان فيما بينهما هما: التجريد الكوني الذي تتضاءل فيه درجات الإيقاع والنحويَّة إلى حدٍّ كبير، مع التزايد المدهش لدرجتي الكثافة والضياع، ومحاولة استيعاب التجربة الوجودية الكونيّة باستخدام بعض التقنيات السيريالية والصوفيّة الدنيويّة . والتجريد الإشراقي الذي ربما يقع على خط الاتجاه السابق معترضا إياه في سلم الدرجات الشعرية، مع التباس أوضح بالنظرة الشعرية والنزوع الصوفي الميتافيزيقي، والامتزاج بمعالم ورؤى وجودية تختلط فيها الأصوات المشتركة والرؤى الحالمة المبهمة، مع نزوع روحي بارز يعمد على التراث الفلسفي بدلا من الضياع في التراث العالمي ..

ولعل الإسراف في الحداثة والمعاصرة بشكلها الشعوري الحالي هذا الشعور الذي تحمل موادّه دلالات عميقة موروثة، قد يميل الشاعر إلى تشكيلها من جديد فإن وجودها الظاهر في هذا التشكيل الجديد يحيل إلى موروثها بوصفه غائباً يحضر لدى المتلقي لمجرد وجوده في النص، فيشعر أو يحس بعداً إيديولوجياً ، وأن أهم الملامح الأسلوبيّة في شعر هذا الأسلوب كضياع القناع، والأسلوب الصوفي في شعر الصوفيين،
وعلى الرغم من إيراد هذا التعريف للأسلوب التجريدي لم يرد تمثيل صريح له وهذا ما يجعل تصنيف الأساليب الشعريّة التجريديّة معلقاً في الهواء، فالناقد يطرح فرضيّة جديدة لم تأخذ حقها من التطبيق فيما يتعلق بالشعر التجريدي الإشراقي. هذا ما لاحظناه في شعر قصيدة النثر أو الشعر الحر، بعد أن حل عقاله وهب قائما يتخطى كيف يشاء ويتلمس الأمور كيفما أحب الشاعر وأراد.
يرجى مراجعة كتابي (شعراء المعاصرة ) المجلد العاشر من موسوعتي (موسوعة شعراء العربية).
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع..

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here