وسط تركيز أنثوني بلينكن وفريقه في وزارة الخارجية في واشنطن حاليا على تقييم ما وعد به الرئيس ترمب الإمارات والبحرين والسودان والمغرب وفق اتفاقات أبراهام التي ضمنت لحكومة نتنياهو التطبيع مع أربع دول عربية، يوجّه 27 من الأعضاء الجمهوريين والديمقراطيين في مجلس الشيوخ رسالة إلى الرئيس بايدن لحثّه على العدول عن اعتراف حكومة ترمب بسيادة المغرب على الصحراء. فيحتدم السجال مجدّدا بين سائر الأطراف في المغرب الكبير بقراءات متلاطمة، ويرتفع مستوى الحماسة العاطفية في أغلب الحالات إما بالتفخيم في قيمة الرسالة، أو بالاستخفاف بها، كما هو حال التأويل لأي تطور في موقف القوى العظمى بشأن النزاعات الإقليمية خاصة في المنطقة العربية.
يتحول المشهد في المجال العام ووسائل التواصل المغاربية إلى معركة حامية الوطيس متنامية التصعيد. وعند نص الرسالة تُنحر قربانٌ سياسيةٌ أخرى على غرار ما حدث يوم صدور الإعلان الرئاسي الشهير لدونالد ترمب في العاشر من ديسمبر الماضي. لكن المهم الآن ليس تأجيج المشاعر بين الأنصار والمعارضين في متاهات التأويلات، أو توجيه الشتائم، أو شيطنة من يخرج عن ملّة التفكير الواحد، والخطاب الواحد، والرؤية بعدسة واحدة، بل الأهم هو الحاجة لفهم واشنطن السياسية على واقعيتها وبرغماتيتها، ومدى استعداد المرء لفتح عصبونات ذهنه أمام التحليل الهادئ للمعطيات الجديدة، والتدقيق في ما تنطوي عليه بلورة الموقف النهائي المرتقب لحكومة بايدن. لهذه الاعتبارات، تدعو الحاجة للتفكير مليّا في الأسئلة الخمسة التالية:
١. إذا كانت رسالة الأعضاء السبعة والعشرين في مجلس الشيوخ نتاجَ علاقات عامة قامت بها بعض جماعات الضغط من قبيل Foley Hoag التي سخّرتها الدبلوماسية الجزائرية، فما هو وضع جماعات الضغط التي تموّلها الدبلوماسية المغربية؟ ما هو مقياس فعاليتها أو ضعف أدائها خاصة منذ الإعلان الرئاسي لدونالد ترمب قبل شهرين وأسبوع؟ هل هناك استراتيجية موازية لدى الرباط في هندسة اللوبي المناسب، وهل من التقدير الواقعي أن يترقب المرء تشكيل جبهة موازية بسبعة وعشرين من الأعضاء الديمقراطيين والجمهوريين، ومن نفس المثقال السياسي، ممن يدعون الرئيس بايدن لتزكية واستدامة ما أعلنه سلفه ترمب؟
٢. عندما كانت الدبلوماسية المغربية تتفاوض مع البيت الأبيض ومكتب نتنياهو منذ 2018 على مقايضة الاعتراف مقابل التطبيع، هل امتدت الحسابات الاستباقية إلى توزيع بيض الرباط بين سلّة الرئيس وقتها دونالد ترمب وسلّة من سيخلفه إذا خسر الانتخابات؟ وهل تم الاستثمار في أعضاء ديمقراطيين وجمهوريين في مجلس الشيوخ لضمان تأييد الكونغرس وبقية المؤسسة السياسية، وليس مجرد البيت الأبيض؟ فهل هناك مشرّعون متمرسون في صف المغرب من عيار السناتور إينهوف، والسناتور هيلي، والسناتور دوربن، والسناتور كولنز، والسناتور ميركوسكي..؟
٣. عندما يصبح اعتراف الرئيس السابق ترمب بسيادة المغرب على الصحراء، وتحويلها سيميائيا من “غربية” إلى “مغربية” بخارطة السفير السابق فيشر، محط سجالات سياسية في واشنطن وورقة ضغوط بين الكونغرس وحكومة بايدن، تكثر الأسئلة بين المغاربة بشأن المرحلة الجديدة ومستقبل توقعاتهم، وتحتاج المرحلة إحاطة للرأي العام بما فيه المجتمع المدني والأحزاب والنخبة المثقفة. فهل يظهر وزير الخارجية السيد ناصر بوريطة أمام الكاميرات للتعليق على مستجدات الأمور، وما إذا كانت لديه استراتيجية بديلة من التعويل على كوشنير وترمب إلى استقراء موقف حكومة بايدن، وما تنبؤ به الاتصالات الرسمية بين وزارته ووزارة بليكن؟
٤. انبنت الرسالة على مجموعة من الطروحات السياسية ومن بينها “انعدام مسار حال للتسوية” بالنسبة لصراع يوصف بأنه “صراع جامد”، وأيضا التذكير بموقف الأمم المتحدة عام 1966. ويطرح تركيب هذا الخطاب بهذا المنطق سؤالا عن حاجة الدبلوماسية المغربية لتركيب خطاب مواز يجسد الجدوى من التصور المغربي للحل بصيغة برغماتية تتفوق على الصيغة المنافسة. فهل حانت اللحظة لألمعية فكرية ونبوغ سياسي جديدين في تقديم رؤية جديدة للتسوية تنفتح عليها الأوساط الديمقراطية والجمهورية في واشنطن؟ وهل هناك رأسمال سياسي مغربي يعرف كيف يستميل من يمسك مفاتيح صنع القرار بين مبنى الكابتول ووزارة الخارجية في واشنطن؟
٥. لا خلاف على أن إدارة أي أزمة أو صراع تستدعي المراجعة وتعديل بعض الإجراءات التكتيكية كلما تغيرت الديناميات والمواقف. ويستدعي التعامل مع الأزمات والصراعات وخوض غمار المفاوضات الدولية مرونة مطواعة وقراءات واقعية متأنية عند كل منعرج. فهل تقبل بعض الأمزجة المشبعة بالأنفة والاعتداد بالتصورات الذاتية في الرباط بفكرة التقريض والتقريض وتغيير المنطلقات غير المجدية. وهل يقبل قيدوم الدبلوماسيين المغاربة بأنّه قرأ في موقف دونالد ترمب أكثر من حقيقته، وربّما لم يفكر في أن تقلب الأوضاع السياسية في واشنطن يستدعي التحفيظ السياسي، على طريقة التحفيظ العقاري، بالمناداة بتحويل الاعلان الرئاسي إلى معاهدة جديدة قائمة بين الولايات المتحدة والمغرب بعض النظر عمن يخرج أو يدخل إلى البيت الأبيض.
تنطوي الرسالة على حقيقة أن وزارة بوريطة لم تنجح في صرف شيك ترمب عندما جاء كوشنير وبن شابات إلى الرباط لضمان تعهدات المغرب إزاء شروط نتنياهو. والآن يصبح رصيد ترمب للمغرب مهددا بالانقراض السياسي تحت ضغوط الأعضاء السبعة والعشرين في مجلس الشيوخ، مما يعكس توافقا بين عدد من قياديي الحزبين الديمقراطي والجمهوري. أما الحقيقة الأخرى فهي أن السيد بوريطة وبقية المبشرين بالاعتراف الأمريكي والقنصلية في الداخلة حاولوا احتكار الخطاب بشأن قضية الصحراء، أهم قضية وطنية لدى سائر المغاربة في الداخل والخارج.
واليوم، يحين الوقت لأن يتحمل كل من يلوح باحتكار الروح الوطنية أو من ينفخ في “نصر” الدبلوماسية المغربية المسؤولية عن مستجدات قضية الصحراء. هل لحظة تتطلب الشهامة والجرأة للإقرار بوجود عثرات على الطريق، كما كانوا يحتفون بالانجازات قبل شهرين. هي لحظة مفصلية تتطلب التقييم والتصحيح، وتستدعي أيضا أن ينتهي تعسف الاحتكار في توجيه مسار قضية ضحى من أجلها المغاربة منذ ستة وأربعين عاما.
تحين لحظةُ الروح الوطنية المترفّعة عن مغانم التطبيع المقبلة، ولحظةُ حاملي الهم الوطني الحقيقيين ليقولوا كلمتهم ويساهموا في تركيب استراتيجية المرحلة الجديدة. وتصبح الحاجة ماسة أكثر من أي وقت سابق لأن يقدم المجتمع المدني المغربي وشتى النخب المثقفة والأحزاب ومراكز التفكير وسائر الهيئات الوطنية في الداخل وبين الشتات في سائر الدول رؤى بديلة تقوّم العثرات وتعزز منحى التعددية والاجتهاد من أجل تركيب استراتيجيات المرحلة الجديدة.