حَوْلَه اجتمعنا كالعادة .. هذا الذي كنا نموت في جلدنا لمجرد سماع نحنحته، لكن – لا نكران – فبالنهاية أفرز أسلوبه ثلاثة رجال بمعنى الكلمة .. وماتزال رمشة عينه أمرا مطاعا بالنسبة لنا.
كان إذا اختلف اثنان منا، وتفاقم حد الخلاف إلى الشجار والعراك يهمّ، فيُنزل الضرب بالاثنين، دون السؤال عن سبب الخلاف، أو مَن البادئ، أو مَن صاحب الحق، أو من الظالم، أو من المظلوم ،وكضربه المتشاحنَين يضرب كذلك الثالث إن حضر العراك.
لطالما قال وردد بكل حزم: “من يأتني يشتكي من أخيه ضربت الشاكي والمشكو منه دون مراجعة الأمر أتفهمون؟” .. توجهنا له بالسؤال عن سبب ضربه الجميع مع أن الخلاف غالبا ما كان ينشب بين اثنين، فأشار قابضا كف يده إشارةً مرتعشة .. كان تفسيري الوحيد لهذه الإشارة أنه لم يرض جلوس الأخ متفرجا على أخويه وهما يتعاركان دون أن يحرك ساكنا؛ لذلك فقد اعتدنا أن لا يشتكي أحدنا الآخر أو يتظلم، بل نتفاهم ونتراضى ويخفض أحدنا جناحه للآخر حتى لا تصل المشكلة إليه فيتأذّى الجميع.
لكن، وللحقيقة لقد تمخّض الحال عن نتيجة غير مرضية مع الأخ الأكبر، فبلغ حد التنمر لأنه يعلم عدم استطاعة أي أحد عندئذ الشكوى. صحيح أن تنمره لم يتعد بعض الأمور البسيطة التي لا تستحق الشكوى، حيث كان أقصاها تعديه على نصيب أحدنا من اللحم على مائدة الطعام، فيأخذ القضمة، والقضمتين إلا أن أبي عندما علم الأمر حرمه من أكل اللحم لمدة شهر. كان يجلس معنا على المائدة وينظر إلينا ونحن نتناول اللحم، يعض على شفتيه غيظا وكمدا .. عرفنا فيما بعد من أمي أنها كانت تعطيه قطعة اللحم ليأكلها في المطبخ، فيتوارى مثل الفأر تحت منضدة المطبخ خوفا من رؤيتنا له، فنُبلغ أبانا، ويُضاعَف العقاب، أو يُستبدَل بعقاب آخر أشد.
ذكر الأخ الأكبر هذا الموقف أمام أبي فضحك ضحكته الجميلة وكشفت عن أسنانه البيضاء التي لم يسقط منها سوى ضرسين فقط مشيرا إلى صدره غير قادر على الكلام، ثم من ناحية المطبخ تقدمت أمي نحونا تحمل صينية العصائر وهي تقول: “أبوكم كان يعلم، وهو من أمرني بفعل ذلك” .. ضحكنا جميعا ونحن ننظر إلى أخينا الأكبر وقد صُبغ وجهه بلون الخجل. وكذلك يحدث كلما ذكرنا هذه القصة.
وهو على كرسيه ذي الإطارين التفت أبي نحو أخي الأصغر التفاتا متثاقلا محاولا ضبط شفتين ملتويتين ونصف وجه ساقط نحو الأسفل، أدرك أخي رغبته في الحديث، فقال: عندما كانت سنتي الأولى بالمدرسة ظللت أنعزل في زاوية الفناء أثناء ( الفسحة ) بسبب تربص ومناكفة أحد طلاب الصف الرابع باستمرار، وأنا لا أشتكي كما عودني أبي، حتى كرهت المدرسة والتعليم، لكن عندما بلغ أبي هذا الأمر، وعرف السبب حضر للمدرسة وكان نادرا ما يحضر للمدرسة، فسمعت صوته الجهوري مثل الرعد ينطلق من مكتب المدير في الدور الأرضي يهدد ويتوعد قائلا: والله إن تكرر هذا الأمر مرة أخرى فلن تمر على خير أبدا.
تذكرنا منظر طالب الصف الرابع وضحكنا جميعا، فلقد أوقفه مدير المدرسة في اليوم التالي أثناء طابور الصباح وسط الفناء وذكر تنمره على الطلاب، ثم هدده بالفصل أمام الجميع. ظل واقفا حتى انتهاء الطابور، وأثناء صعود الصفوف لحجرات الدرس كانت كل الأنظار تتجه نحوه بكل سخرية، وتشفّٕ، وهو يقف ذليلا مطأطئ الرأس متمنيا أن تنشق الأرض وتبتلعه.
وفور انتهاء أخي الأصغر من حديثه بادرتُ الجميع قائلا: أما أنا فقد كانت لي قصة مع أبي. لقد كان لي زميل في الفصل كنت لا أقبله ولا أقبل الجلوس جواره وعندما أخبرت أبي الأمر حينها ذكر لي موقفا مهمًّا حدثَ معه. قال لي: لقد كانت العتمة تسيطر على الشارع بينما كنتُ أقف على جانب الطريق حائرا وفي يدي ( مُصَلّيّة ) عندما ترجل أحدهم من سيارته وفتح حقيبتها ليُنزل منها أغراضه وأمتعته. كان خمسينيّا بشوشا ذا شعر ناعم أبيض مائل للون السكر. استفسرت منه عن اتجاه القبلة. كانت الأغراض والأمتعة كثيرة وثقيلة فاضطر الرجل إلى وضعها على مؤخرة السيارة. أخذ يتلفت يمينا ويسارا ويردد بصوت منخفض:” نَعَمْ اتجاه القبلة.. اتجاه القبلة .. الشمس تشرق من هذه الجهة وتغرب هناك” .. ثم وبكل ثقة قال: ” إذن القبلة هكذا”. وقف بزاوية معينة ولوّح بكلتا يديه للأمام. قرأت في عيني الرجل تقديرا واحتراما لي وعلى شفتيه ابتسامة مريحةً مصحوبة بهزة رأسه بالقبول والترحيب. شكرتُ الرجل وعرضت عليه المساعدة في حمل ما معه من متاع. رفض بشدة قائلا: ” لا يهمك. صَلّ فرضك ربنا يتقبل منك”. بسطتُ ( المُصَلّيّة) على الرصيف ناحية القبلة ثقةً في كلام الرجل. وعندما سجدتُ بكيتُ والدموع مصحوبة بخشوع لم أشعر مثله قبل؛ لقد شاهدت على يد الرجل – وهو يلوّح – الصليب.