سرّني تفاعل عشرات الأساتذة وعمداء الكليات ومئات من طلاب الدكتوراه والماستر ومراسلي وسائل الإعلام والمهتمين خلال ست محاضرات ألقيتها في المغرب خلال الأسبوعين الماضيين: وشملت المحاضرات أربعة محاور رئيسية:
1) “القانون الدولي بين المعيارية والبرغماتية في حماية المدنيين” في المكتبة الوطنية في الرباط بدعوة من اللجنة الوطنية للقانون الدولي.
2) “تقلّبات ميزان القوة في الشرق الأوسط والمغرب الكبير في آفاق 2020” في وزارة الخارجية في ضيافة النادي الدبلوماسي المغربي.
3) “صفقة القرن وتقلبات موازين القوة في العالم العربي في حقبة ترمب” في كلية الحقوق بسطات.
4) “لماذا يحتاج العالم العربي لصراعُلوجيا كعلم جديد؟” في كليات فاس والدار البيضاء والمحمدية.
أثار محور صراعلوجيا كمفهوم جديد Why the Arab World Needs Conflictology as a New Science اهتمام الباحثين، وتدفقت الأسئلة حول ماهيته ودلالته المعرفية ومدى الحاجة إليه في منطقة غارقة حتى أخمس قدميها في الأزمات والصراعات. كان الحافز الأولي لي هو سؤال راودني منذ مدة عن مدى علاقة عقلنا العربي بفهم الأزمات والصراعات المتنامية حول حدودنا وداخل دولنا ومجتمعاتنا، وقد أصبح العالم العربي بمثابة معرض قائم بذاته من حيث تعدد تلك الصراعات الظاهرة والخفية وطبيعة تعقيداتها وتداخلاتها. وأين يقف النسق الأكاديمي في الجامعات المغربية والعربية من تدريس نظريات الصراع واستراتجيات الوساطة والمفاوضات والتحكيم وبقية آليات الحد من العنف في مرحلة أولى، وصنع السلام في مرحلة ثانية، وبناء السلام في مرحلة ثالثة؟ ولست أوّل من يسترعي الاهتمام بوجود فجوة معرفية في العالم العربي كمنطقة تعيش نوعا من انفصام الشخصية بين غزارة الصراعات المحلية والإقليمية واستقالة العقل العربي عن صياغة مفاهيم واستراتيجيات عضوية للتعامل مع تلك الصراعات من داخل الثقافة ذاتها، فيما تظل دراسات الصراعات تتدحرج بين أقسام علم السياسة والعلاقات الدولية والحقوق في أغلب الجامعات العربية.
صراعلوجيا مزيج من “صراع” و”لوجيا”، وفي الأصل اللاتيني “لوغوس” Logos، ويعني الأرضية والرأي والنداء والكلمة والخطاب والسردية. وأصبح “Logos” مصطلحا متواتر الاستخدام في الفلسفة الغربية بدءا من الفيلسوف هيراكليتس من الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد الذي استخدم اللفظ بمعنى النظام والمعرفة. كتعريف أولي، يمكن اعتبار صراعلوجيا ذروة المعرفة التي تساعدنا على فهم الصّراعات والأزمات والعنف من جميع الأنواع وعلى مختلف المستويات الفردية والعائلية والمؤسسية والدولية. وأقدم أطروحتي كجيل ثان لمدرسة تسوية الصراعات conflict resolution التي تبلورت في السبعينات من القرن الماضي كعلم اجتماعي قائم بذاته وعابر للتخصصات بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع والانتروبوجيا وعلم السياسة والاقتصاد وغيرهم. وأصبحت جامعات جورج ميسين وجورجتاون ومينونيا وسان ديغو في أمريكا وجامعات برادفورد وكِنت وغيرها في بريطانيا تمنح شهادات الدكتوراة والماجستير والإجازة في هذا العلم.
أرمي بصراعلوجيا إلى رسم دائرة أوسع للبحث، وتنويع أدوات التحليل، وتسليط الضوء على مناطق جديدة في سلوك الإنسان ووعيه، وحتى لا وعيه، على أساس القيام بأكبر مجهود من التمحيص والتحري، وأن الظاهرة قد تبدو غير قابلة للتفسير ما لم يكن هامش المراقبة واسعا بما يكفي ليشمل السياق الذي يحدث فيه الصراع. ولا يقتصر على مجال العلوم الاجتماعية فحسب، بل يستوعب أيضا جميع المعارف البشرية العلمية والعقلانية والمعرفة الحدسية والعاطفية. وتتم دراسة جميع هذه المعارف والقدرات أيضا من منظور البيولوجيا، والطب، وعلم الأعصاب، والمذاهب الصوفية، وتوجهات المنطق وكل تلك الطرق التي تسهم في الشعور بسلامنا الداخلي: السلام العقلي والنفسي والعاطفي. وفي الوقت ذاته، يجسّد صراعلوجيا خلاصة وافية من تقنيات التحوّل والتدخّل والمعونة والموارد والإجراءات. ويهدف إلى تكوين باحثين وممارسين ميدانيين متشبّعين برؤية برغماتية من أجل الحدّ من الصراعات وحفظ السلام في شتى بؤر الصراع في العالم.
انطلقتُ في محاضرتي من سبع مفارقات وأربع اعتبارات ابستمولوجية أقتصر هنا على ذكر ما يهمّ المنحى الابستمولوجي:
1) ينسج صراعلوجيا على هدي سوسيولوجيا، وانتروبولوجيا، وجينيالوجيا، وسيكولوجيا، وبقية “ا—–جيات” التي تفرّعت تاريخيا من أمّ العلوم: الفلسفة منذ عهد الإغريق. وأستحضر هنا مفهوم الرّاحل المهدي المنجرة الذي بلوره في كتابه “عولمة العولمة” حول تطوّر العلوم وتجاوز الفصل بين حقول المعرفة المتشعبة، هو مفهوم “الشبكية” الذي لا يعترف بأي حدود معرفية بين العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية أو ما غرسته المدرسة الفرنسية جزافا في أذهان المغاربة بــ”التخصص” spécialité.
2) دعوة نيوكولاس كريستاكيس المدير المشارك لمعهد جاسكون للشؤون الدولية في جامعة ييل الأمريكية الباحثين في حقل العلوم الاجتماعية لعدم الدفاع عن تخصصاتهم القائمة فحسب، بل وأيضا أن “يسخّروا أغلب جهدهم لتأسيس مجالات معرفية جديدة مثل علم الأعصاب الاجتماعي، والاقتصاد السلوكي، وعلم النّفس التطوري، وعلم التخلّق الاجتماعي، وهي تخصّصات يوجد معظمها، وليس من قبيل الصدفة، عند تقاطع العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. على سبيل المثال، يستخدم علم الاقتصاد السلوكي علم النفس لإعادة تشكيل الاقتصاد الكلاسيكي بشكل جذري.” ومن تجليات هذا التحول المعرفي مثلا، قررت جامعة هارفارد نقل درسات التخصّص الفرعي للأنثروبولوجيا العضوية، التي تعتمد على دراسة الجينات المعاصرة، من شعبة الانتروبولوجيا إلى شعبة البيولوجيا أو علم الأحياء البشرية التطوّرية.
3) يستدعي تحليل أي صراع وتفكيك عناصره الجمعَ بين الروافد البنيوية والمجتمعية والفردية معا بالنظر إلى تشعّب أسبابه بين ماهو عوامل بنيوية ضمن التركيبة السياسية والاقتصادية والثقافية (أو ما يمكن تسميته النظريات البنيوية Structural theories) وما هو ميول أوسلوكات فردية تكرّس ذاتية الفرد وبيئته العائلية والمجتمعية (أو نظريات الفرد Theories of the person). وخلف هذا التّوازي بين نظريات البنية ونظريات الفرد، يتوخّى علم فض الصراعات توجيه الأنظار إلى العوامل الجذرية أو الدفينة التي تُديم أمد الصراع، ويسعى بالتالي لتحديد مسار مناسب لعملية خفض التصعيد وتحديد معادلة جديدة بين طرفيْ أو أطراف الصراع
4) عند تقاطع قوّة البنية الاجتماعية وتطلّعات الفرد، تنطوي نظرية التعقيد أو التداخل Complexity theory على أهمية متنامية لدى المنظّرين والممارسين خاصة من أنصار مدرسة تحوّل الصراع conflict transformation. وتكمن أهمية الانفتاح على هذه النظرية في مستويين: أولهما الحاجة للتدقيق في العلاقات والتأثيرات لمختلف الرّوافد البنيوية للنزاع عند عملية التحليل. وثانيهما، الحاجة لقياس التغيير في العلاقات بين أطراف الصراع عقب القيام بالوساطة أو أي شكل من أشكال التدخل الأخرى على مستوى الممارسة. ولهذه الغاية، تستدعي نظرية التعقيد “التكامل على المستويين النظري والعملي، وأنّ من الممكن أن تحفّز المنهجية العابرة بين شتى العلوم هذا التطور في مجال السلام والصراع.
لا أرمي صوب إعادة تركيب التاريخ النظري لفض الصراعات، ولا أن أدافع عن أي “استثناء” عربي أو إسلامي أو شرقي كما لو نحن في حلبة التباري بين “مفاهيمنا” العربية و”مفاهيمهم” الغربية، أو أحقية “أصالتنا” على “معاصرتهم”، أو يجادل بشأن أحقية “الملكية الفكرية” مع الغرب في تطوير معرفة علمية بتعقيدات الصراعات وسبل تسويتها والحد من تداعياتها السلبية. لكنه يتمسك بحتمية التراكمات التاريخية وجدلية التكامل بين ما أنتجته موجات الممارسة عبر العصور القديمة والحقبة الراهنة في التنظير والتدوين في مجال التعامل مع الصراعات.
شاء المعلّقين، وهو لم يتابع المحاضرة ولم يناقش فحواها بين الحضور، أن يضفي “قراءة” التسخيف ويُسقط نزعته التهكّمية من عل كما يفعل الأطفال بطائراتهم الورقية. كتب على صفحته يقول “يثيرني حقا لدرجة التقزز التلاعب بعبارة “العلم” هكذا… هل ما يسميه الشرقاوي “الصراعلوجيا” علم حقا؟..” لا يبدو أن صاحبنا يدرك أنّ مناقشة أي فكرة جديدة أو اجتهاد مهما كان لا تستدعي هذا الانفعال الهائل إلى حدّ الشعور بــ”التقزّز” اللهم إذا كان يعاني في الأصل إفرازات غير طبيعية في غدده المضطربة التي تحفّز على catharsis، وهو الجموح إلى مواقف عدائية غير متّزنة ومجانية من قبيل التنفيس عن صراعات دفينة مع الذات وعداوات مشحونة بلا سبب منطقي إزاء الآخرين.
كان من الأجدى بصاحبنا أن يحضر المحاضرة ويستوعب فحواها فكريا أوّلا، ثم يمكنه تقييم ما بها من “أخطاء” معرفية أو منهجية حسب قاعدة ضرب الحجة بالحجة كما يفعل الأكاديميون الجادّون، أو يقلب ما بدت له “جهالة” الطرح بما يفيض من عبقريته من “تنوير” أو “بعد نظر”. لو فعل ذلك، كنت سأرحّب به إلى المنصة ليتولّى دور المناقش discussant بمحض الصدفة، كما تعوّدت في الجامعات الرصينة ومع رجال الفكر الحقيقيين. لكنّ صاحبنا اختار المسلك القصير بالتسخيف ورمي الحجرة من وراء السور على طريقة “فهلوة” المراهقين ذهنيا، كما يقول أصدقاءنا المصريون، وإنْ ظلت المسافة غير قصيرة مع الفهلوة الفكرية، وهي أحيانا أمر مستحبّ في الفكر النقدي.
فهلوة صاحبنا تجعله بمثابة دون كيشوت يصارع طواحين الهواء، عندما يتمادى في الاستخفاف بأمور يجهلها، وهو المدجّج بمزاج التصغير والتتفيه (من ابتداع التفاهة) والعزف على وتر الشعبوية الأكاديمية. من لا يجرؤ على حمل القلم لا الأحمر ولا الأخضر لتصحيح ما اجتهده فيه غيره لا ينبغي أن يعتدّ بأنه “ناقد”، بل مجرّد “بلطجية” تثير من حولها إعجاب بضع “لايكيين” (من جوقة Like أو الليكرز الفيسبوكيينlikers ).
يقول صاحبنا “لا أدري اللهم إلا إذا اعتبرنا صراع الديكة “علما” هو الآخر، يجب أن يدرس…” سخافة أخرى في شطحات التحقير جعلتي أتذكر قولا مأثورا يردده أحد الاصدقاء في كلية السويسي: “ماذا يفعل الدجاج عندما يُرمى إليه بحبات الجوهر؟ّ!”