ثرثرتك كم أحبها!
– ألم تلاحظ شيئا؟!
– بخصوص..؟
– الإنسان كإنسان.
– ما به؟!
– أنه دوما يعيش أدواره أكثر بكثير مما يعيش ذاته هو..
– ماذا تقصدين؟
– مثلا: أنا زوجة وأم وجدة وعمة وخالة، أقصد كل أنواع علاقات القرابة والصداقة وكل ما يمكن أن يربطنا مع المكان والزمان وما فيهما ومن فيهما، الناس والكائنات جميعها. وأنت مثلا شاعر وأديب وباحث متمرس في كثير من مجالات الإبداع، بعد كل هذه الأدوار التي نعيشها ونمارسها ترى هل يتبقى للواحد منا شيئا نقيا خالصا من ذاته لذاته؟
– نعم بل كل ما قلته هو الإنسان ذاته ولكن يتمظهر في كل دور جانب من جوانب هذه الذات. فأنت زوجة بطريقتك الخاصة وكذلك كونك أما أو كاتبة أو رفيقة أو صديقة أو موظفة، وكذلك أنا.
– نعم أفهم ذلك وأستوعبه، لكنني أسأل متى يكون الإنسان هو ذاته ولذاته ودون كل تلك الأدوار، متى يعيش حقيقته دون أن يشعر بأنه جزء من علاقة؟ أريد أن أكون أنا هي أنا ولي أنا ولو للحظة، فهل هذا طلب يستحيل تحقيقه. ولا تقل لي تكوني ذاتك عندما تنفردي بنفسك، فقد جربت ذلك ولم أفلح فأنا دوما أستشعر نفسي في علاقة ما حتى في اللحظات التي تسبق استسلامي لهدهدات النوم.
– ما تقولينه حقيقة، يصعب أن يتفلت الإنسان من كل تلك العلاقات التي هي كما قلت مرة “بمثابة قيود تشدك للغير”، فحتى ونحن نستسلم للنوم نفكر بالغير، والغير هنا ليس البشر وحدهم، بل كل ما يمكن أن تربطنا بهم علاقة كانت مباشرة أم غير مباشرة.
– أتدري؟
– ماذا؟
وأنا أحاورك -وحواري معك يفتح مغاليق وعيي على عوالمي العميقة ولا أدري لم أو كيف؟ لكن هذا يحدث في كل لقاء بيننا- وفي هذه اللحظة بالذات طرأت لي فكرة أجدها في نفسي دوما، أتحرر بها من كل شيء إلا أنا، إلا ذاتي على حقيقتها وكأنما تقف هذه الذات عارية أمامي أو بالأحرى أقف أمامها، لأراها دون أي حجاب أو ساتر أو غلالة، لكنني في الحقيقة لم أدرك هذا الأمر بكل الوضوح إلا الآن، وكأنما أزال حوارنا آخر طبقة شفافة بيني وبين ذاتي. أنا الآن أراني دون أية علاقات أو روابط، أراني كاملة غير منقوصة، أراني وحدي وأكتفي بما هي أنا، فأحلق بي في فضاءاتي وحدي حرة، روحا تهيم في ذاتها، تحيا في عوالمها تلتقط نجماتها واحدة تلو أخرى لتتقلدها وساما تزهو به. عالمي الذي في كل مرة أتجاوز فيه واقعي إليه، وأتمنى أن أقيم فيه، لكن أحبائي دوما يعيدونني إليهم ويصرون على بقائي بينهم.
– تركتك تسترسلين في الحديث ولم أحاول أن أقاطعك كي تعيشي لحظات سعادتك كما ينبغي وتشائين. والآن بعد أن توقفت عن الكلام هلا أخبرتني متى يمكن أن تكون تلك اللحظات؟
– آه لو تركتني يا عزيزي بعد قليلا فقد كنت أعيشها بكل الزخم. وكنت سأمسك بالقلم لأكتب عن تجربتي هذه. هذه اللحظات هي ذاتها عندما يبدع المبدعون.