تيسير سبول شاعراً ــ ذ. هاني علي الهندي

0
1019

تيسير سبول شاعراً *

أنا يا صديقي
أسير مع الوهم
أدري أيمِّم نحو تخوم النهاية
نبياً غريب الملامح أمضي إلى غير غاية
سأسقط لا بدّ يملأ جوفي الظلام
نبياً قتيلاً
وما وافاه بعد بآية (ص180)

  تيسير سبول شاعر أردنيٌّ ولد في الطفيلة جنوب الأردن عام 1939، شغلته قضايا الأمة العربيّة، و ظلت نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 جرحا دامياً في قلبه. انتظر يوم النصر وعودة الحق لأصحابه، فكبّر مع المكبرين للوحدة المصرية السورية، التي رأى فيها الأمل و تحقيق الحلم، إلا أن هذا الحلم سرعان ما تلاشى.
وكانت هزيمة حزيران لطمة في وجه الأمة العربية، صرخ في روايته (أنت منذ اليوم) يستنهض الشعب العربيّ ويبدأ من جديد، ولاحت بشائر الأمل في حرب تشرين 1973 ، إلا أن وقف إطلاق النار ومفاوضات الكيلو 101 فجرت في داخله هزة عنيفة حطمت الأحلام الوردية التي كان يحلم بها ، ودوت طلقة احتجاج في منزله استقرت في رأسه واضعة حداً لحياته القلقة المتوترة، في اليوم الخامس عشر من تشرين الثاني لعام ألف وتسع مائة وثلاثة وسبعين ، بينما استمر مسلسل الهزائم والنكوص.
رحل تيسير ولم يترك وراءه إرثاً شعرياً كثيراً يمكن أن يتناوله الدارس بكثير من التوسّع والتأمّل، فقد حوى ديوانه الوحيد ” أحزان صحراوية ” أربعاً وعشرين قصيدة تشكل في مجملها كامل التجربة الشعريّة لسبول، وقد ارتأيت أن أقدم مقاربات عامة ، علنا نتلمّس من خلالها حميميّة الوشائج التي استطاعت بجنونها وصخبها أن تشدَّ تيسيراً إلى الموت، كما تشد أي إنسان آخر إلى الحياة:

وأعلم أني أحب الربيع
وأصبوا أليه صبوَ اشتهاء
ولكن قلبي يعاني شتاء
يلوح بلا موسم منتظر
أرى للغيوم
وأنصت في خاطري للخواء
وأعرف أني ما زلت ذاك القديم
وعريَ شتاء ً (ص116)

في أحزان صحراويّة، يحاول تيسير أن يختزل العالم في وعي الإنسان الفنان متجاوزاّ المأزق الوجودي الذي يتغلغل في ثنايا ذلك الوعي، ويؤرقه ويسعى إلى تدجينه لصالح الواقع المادي وتناقضاته، غير أن تيسير رغم هذه الشهوة التي تدفعه للكينونة والحقيقة، كان يدرك أن ثمة تفجيراً لا بدّ منه لكي يفهم الإنسان ذاته، ولكي يستطيع الجنس البشري أن يتناسل.
وهذا ما انشغل به تيسير في تلاطم العواطف، والتجارب التي عاشها في مرحلة خطيرة وحاسمة بعد منتصف القرن العشرين، يقول في قصيدته”حلولية” :

أنا الحزين أم هي الأشياء
خطوت خطوتين
أسفتُ إن وطئتُ فوق مهجة السكينة
ظننت أنني
أعود والزمان للوراء. (ص155)

إذن فالذين يبلغون قمة الحقيقة بعد كلال الصعود، يكتشفون أن الأشياء هي الأشياء ممعنة في عاديتها ومكروريتها، لا يمكن أن تفرز غير الرجوعيّة و الفجيعة والتلاشي، وليس من ماء خلف ما يلوح على أنه ماء، فالهزيمة أكبر من الادعاء والشعارات، والزيف يرين على السطوح، والزبد أقرب إلى الموج من اليابسة فقال في قصيدته ” غجريّة ” :

أمطريني من سديم الغيب زخاتٍ سخيّة
ألصقيني بالتراب
أنا من خلف ليل المدينة
ظامئاً لم يسقني إلا السراب. (ص138)

من هنا يطرح سبول الأساطير ” المثيولوجيا” بصورة تقابلية ـ كما يقول “كلود ليفي شتراوس” ـ موظفاً الأساطير التراثية العربية كشهرزاد في قصيدته ما لم يقل شهرزاد:

أين منها شهر زاد
شهر زادي ..
خدعة ضللت الآذان عمرا
ورست في خاطر التاريخ دهرا
أن عفا من بعد ألف شهريار
وسنبقى
في بلادي حيث عين الطفل والشيخ سواء
دعوة تحيا على وعد انتصار ( ص158)

هكذا يريد تيسير الأسطورة، يريدها موروثة عربيّة تعكس الهمَّ العربي عبر التاريخ، باستثناء توظيفه ” يزيس” من المثيولوجيا اليونانية القديمة في قصيدته ” قطعة لقلب البراءة “، من هنا جاء توظيف الموقف التاريخي لإيصال فكرته، فشخصية المهلهل بن أبي ربيعة وأخوه كلبي تنفجر في دواخلنا ودون أن ندري تنفجر شخصيّة جساس لتكتمل صورة الصراع والتناقضات، تمتد بنا إلى عصرنا الحديث:

يا لهاث الرمل .. يا إنسانيَ الضائع
في أصداء موال حزين
الحكايا التي تروين
في خلجات أعصابي عادت تتململ
عن كليب وجراحات المهلهل
فأعيدي كل ما كان
ولا تقسي على جساس من أجل خيانة
كلنا .. كان يخون ( ص 141)

ويحرص سبول على أن لا تتحول البنية الشعرية إلى بناء رمزي مغلق يصعب معالجته ، ولا يُفهم منه إلا الطلاسم الرمزيّة التي لا تفيد البناء الشعري، لذا نراه يتعامل مع الرمز على عدة مستويات، وهذا بالتأكيد يعود إلى سيطرته على لغته الشاعريّة، ولأن الكلمة عنده لا تنفصل عن الحركة الداخليّة في نفس الوقت الذي تتساوق مع الحركة الخارجيّة، فهو بالتالي يستخدم رمز الصورة :

صديقتي
كل العيون ها هنا حزينة
فالحزن قد غزا المدينة
جنوده الأقزام قد تسلّقوا البيوت
وحطّ في آفاقنا سكوت (ص 120)

هذه اللوحة الفنيّة الرمزيّة، تعكس قدرة الشاعر على عكس الظلال في الحركة الداخليّة للنص، والحركة الخارجيّة للواقع.
والقضية المحوريّة في حياة سبول، هي استكشاف الذات الإنسانيّة، ويظهر إصراره على كشف السر العميق في الإنسان في أغلب قصائده، فهو الملاح الوحيد الذي يبحر في الأعماق الإنسانيّة لكشفها وبسطها :

لكنني وحدي ولا ملاح غيري
من رمى في بحر عينيك لم يخش ضياعه
وليكن أني بددتُ بتطوافيَ عمري
بينما الشطآن تدعوني وتغري أن أعود (ص124)

المرأة هنا ليست ذات المخلوق التجريدي، وإنما هي الذات الإنسانيّة التي تيسير كشفها، فيجد نفسه الوحيد الذي يتلوى في عذابات السنين واللحظات، يعود حزيناً يخاطب نفسه في قصيدة مغترب:

صديقتي كل العيون ها هنا حزينة
حزنه هو امتداد لأحزان المدينة التي تصارع.
من أجل عار لقمة
وسترة عن العيون
شعارنا ما زال في قرون
(مع الجدار سر
تكفُّ قيلة عليك)
ونحن إّذ نجوع نصمت
لكي تكفُ شرها العيون. (ص148)

هذه اللوحة الاجتماعيّة الإنسانيّة يطرحها بأسلوب ساخر لاذع.

شعارنا ما زال في قرون
مع الجدار سر

فهو لم يجد أسلوباً يعالج فيه قضية الجوع، غير هذا الأسلوب الذي أعطى القضية بعداً إنسانيّاً أكثر منه اجتماعيّاً.
إذن فالبنية ـ في الأصل ـ يأكلها العث والسوس، وما تخلّق من هذه البنية المهزوزة التي أوجدتها الظروف التاريخيّة الموضوعيّة، أيضاً يأخذ بالتداعي والانهيار، هذا هو الواقع المعجون بالفزع، علمٌ مفزع، وإنسانيّة مفزعة ظلت تهجس داخل تيسير طيلة حياته التي انتهت برصاصة.
إذا كان تيسير سبول قد صور في روايته ” أنت منذ اليوم” مشروع الإنسان العربي المنكسر المهزوم، الذي ظل يحلم قروناً طويلة حتى أفاق على كابوس الفزع فإنه في “أحزان صحراويّة” ماضٍ في الكشف عن سوداويّة هذا الكابوس ومرارته بتلك الروح الشعريّة المتأملة، والرؤية الوجوديّة الناضجة، وإذا اتفقنا بأن وعي الشاعر الفنان لا يتصالح أبداً مع واقعه، فإنا نظن بأن تيسير سبول كان واحداً من أولئك الذين عاشوا الحياة كما لو كانت هي الموت أو الموت هي، كما عاشها كافكا، وشبنغر، وسارتر.
ونستطيع أن نتأمل ذلك بصورة جزئية في غالبيّة عناوين القصائد التي ضمها ديوانه ” أحزان صحراويّة”؛ من مغترب، وشتاء لا يرحل، وملاّح، وقطعة قلب للبراءة، و ثلاث أغنيات للضياع، و أحزان صحراويّة، و شهوة التراب، ورعب، وعودة الشيخ.

من هنا يبرز
أولاً: اغتراب تيسير ـ الشاعرـ النابع من عجز الواقع على استيعاب إحساسه بالأشياء، وشعوره بالتضاد
معه
ثانياً: مرحلة التيه والضبابيّة التي عاشها تيسير وحاول أن يقبلها بصورة سافرة وفاضحة إلى وضوح وسعة، لكن إجهاض أدوات الواقع لهذه المحاولة كان أكبر من إمكانية المحاولة نفسها.
ثالثاً : الاحتجاج الصارخ بحساسيّة الفنان الذي يقابله القمع السياسي والإرهاب الثقافي، حيث يرى الأشياء فقاعات بلونيّة لا بدَّ لها من الانفجار .

إنني أقفز الآن على جنح التفاته
فأرى الطوفان يجتاح الجزيرة
إنني أركض، الغي الربع الخالي
عسيراً وتهامه.

علينا أن نعترف أن تيسير سبول الشاعر العربي الغريب، كما قال عنه المرحوم وصديق عمره فايز محمود يستحق غير دراسة، وأكثر من عجالة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تيسير سبول، الأعمال الكاملة، دار ابن رشد، الطبعة الأولى، 1980

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here