ويظل التراث الشعبي المرآة الصادقة للشعوب والحافظ الأمين لتاريخها، ولذلك اهتم علماء الاجتماع (الأنثروبولوجيا) لأهميته في دراسة المجتمعات الإنسانية على حقيقتها. كما نال اهتمام الأدباء والكتاب فوظفوه في شتى فنون الأدب، خاصة الرواية منها لما يحمله من رموز ودلالات عميقة ذات معنى، ولأننا نتحدث عن رواية ذات مضمون فلسطيني تسجل تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني بالتعاون مع الانتداب البريطاني، فإن توظيف التراث الشعبي يشكل “رافدا من روافد تثبيت الهوية الثقافية والاجتماعية ونظم عناصرها ومكوناتها أمام العناصر الطارئة، والتحولات التاريخية، وقد يكون أخيرا سؤالا للبحث عن الهوية والكيان المهدد”.
فقد قدمت الروائية بديعة النعيمي بنت مدينة المفرق شرقي الأردن روايتها “عندما تزهر البنادق” تؤرخ فيها لقرية دير ياسين / وهي ترمز لكل قرى فلسطين، وما تعرضت لها أرض فلسطين من ظلم وقهر بدءا من وعد بلفور عام 1917، حتى عام النكبة 1948، تدور أحداث الرواية، بين مجموعة من الشخصيات (عائلة الحاج أسعد)، من بينهم زينب بطلة هذه الرواية، استحضرتها بديعة النعيمي ووظفتها للتعبير عن الهم الوطني والإنساني، كما وظفت صورا من التراث الشعبي بدلالاته وأبعاده الفنية منها :
الأسرة الممتدة :
تتكون الأسرة الممتدة من الأجداد والآباء والأبناء في (حوش) واحد، وهذه سمة الأسرة في القرى والأرياف، ” اجتمعت عائلة أبو سالم (ربحي) حول سفرة الغداء يتوسطها الجد الحاج أسعد وأولاده بكر وأيوب وأبو سالم وزوجته وأولاده” ص13
و ” أكيد فأهل دير ياسين كانوا كالعائلة الواحدة فينطبق عليهم المثل القائل، المرء بالإخوان واليد بالبنيان”ص31،
المعتقدات الشعبية :
تشكل المعتقدات الشعبية جزءا من عادات الشعوب وأحد رموز ثقافاتها، ودخلت في عداد المأثورات الشعبية، فاحتلت عقول الناس خاصة في القرى والأرياف، منها:
الأولياء الصالحين: يحظى الولي بالاحترام والتقدير في الوجدان الشعبي الفلسطيني؛ فهو الرجل الصالح القوي الذي لا يقبل الظلم والعدوان، يقف إلى جانب الضعفاء، ويظهر للناس بعد وفاته بأشكال مختلفة، كما يتحدث القرويون عن كراماتهم وقدراتهم الخارقة، ولذلك عندما سمع أهل القرية بقرارات مؤتمر الصلح في سان ريمو إسناد مهمة الانتداب على فلسطين لبريطانيا وعمت البلاد حالة من الغضب ممزوجة بالذعر، حمل بكر عصا وهرول “نحو مسجد الشيخ ياسين، … ووقف أمامه وبعد أن وضع العصا أرضا رفع يديه وتمتم ببعض كلمات لم تتمكن زينب من سماعها، ثم دخل وجلس بجانب الضريح”26، والشيخ ياسين من الصالحين كان قائما بالمسجد ودفن فيه.
ولذلك أقسم أبو سالم بالأولياء الصالحين عندما قال بعض أهل القرية أن أيوب خائن
” قالوا لي بأنك خائن يا أيوب! بس أنا حلفتلهم بكل الصالحين إن ولاد الحاج أسعد ما بيخونوا.”،157
الدراويش :
تمتاز الطريقة المولوية بالرقص الدائري مصحوبا بالغناء أثناء الذكر، فأطلق عليهم الدراويش الراقصون، تصور الحالة التي تنتاب زينب كلما تذكرت مشهدا من الصور الوحشية التي تعرضت لها دير ياسين، بتلك الحالة التي تنتاب الدراويش في حلقات الذكر الصوفية ” كأنها تؤدي رقصة مولوية في إحدى الحلقات الصوفية، فتدور وتدور على نفسها حتى تبدأ بإطلاق صرخات قوية كأحد المجاذيب قد أخذه الحال، فتهتز جدران المصح. ص12،
وفي صورة أخرى لزينب داخل المصح تقوم بممارسة رقصتها الصوفية عندما يتراءى لها النيرات تلتهم بيتهم وتصيب والدها وأمها “ص17،
الأشباح :
عندما تجتمع مخيلة زينب المضطربة بأبيها فتسأله عن أمها وأعمامها وإخوانها وعن أخبار الدار والديوانية وكرم العنب والتين، فأخبرها بأن أشباحهم دائمة الزيارة للدار. وعنما سألته، كيف يزورونها وقد استوطنها الغرباء؟
أجابها بأن الأشباح لا ترى لكنها قد تُحس” ص32،
السحر :
بدأ الحكواتي صاحب صندوق العجب يروي قصة الأخوات الأربعة لأطفال القرية، ولما تكرر الحلم أمرت الكبرى بإحضار التمائم التي حصلن عليها من ساحرة الغابة” 47
الغول :
والغول شكل من أشكال الجن محفوظ في الذاكرة الشعبية الفلسطينية، إنه يتعرض للإنسان في الطرقات، فوظفته الرواية على لسان الحكواتي، رمزا للعصابات الصهيونية “وادعى حينها بأنه رأى غول الجبل يتسلل إلى كوخها، وعندما حاول إنقاذها تلقى ضربة من الغول على رأسه فأغمي عليه” 46،
” فقد زارها خاطر قبيح بأن يعقوب قد قتل عمها ويختطفها ويودعها ذلك الحانوت الموحش الذي يسكنه أحد الغيلان، والذي سيخرج عندما يحل الليل”51،
العادات والتقاليد الشعبية :
الميلاد: كانت عملية الولادة تتم داخل البيوت بسبب العادات والتقاليد التي كانت سائدة في القرى والأرياف، ولذلك تجمعت نسوة العائلة مع الداية عند نجوى التي زارتها آلام الولادة أبكر من المتوقع‘ فهي لم تكمل شهرها التاسع بعد”ص64، فقد قدمت الراوية صورة دقيقة مكتملة لطقوس الولادة وما يرافقها من تسخين الماء وتشجيع الداية لنجوي والعلى الدفع للأسفل ” ما ظل إلا بطلع الراس، شدي يا بنتي” ص65، ونتيجة للتخلف وعدم الخبرة الكافية للداية، تفقد نجوى وجنينها الحياة.
الزواج: للزواج في القرى قانون تحكمه العادات والتقاليد لا يجوز اختراقه أو الاعتداء عليه باعتبار أن الزواج شان أسري، وهم الأقدر على اختيار المناسب، ” ومن ضمنها أن ابن العم يتزوج من ابنة عمه، حتى لو لم تكن تعجب الولد” ولذلك قررت العائلة زواج سالم من ابنة عمه نجوى. ص57.
استعرضت الرواية بشكل موجز طقوس الزواج في القرية منها: الطلبة والإعلان وليالي السهر وتقديم الغداء على شرف المدعوين.
وبنفس الطريقة التي تزوج فيها سالم، فُرضت زوجة على أيوب “لم يكن ليحبها”، “فتعامل معها كحاضنة لأولاده” ص91 ولذلك لم يفرح في حياته وعاش حياته الخاصة في الشراب.
عادة الوفاة: من طقوس الوفاة ” قامت النساء بغسل نجوى وابنها وتكفينهما وتعطيرهما، وبعد الصلاة عليهما في مسجد القرية توجّه رجال عائلة الحاج أسعد ورجال بقية الحمائل للمشاركة في واجب الدفن والعزاء.ص67، وكما جرت العادة في القرى إذا كانت المتوفية متزوجة ولها أخت عزباء يقف ولي أمرها (والدها أو أخوها) ينطق بها لزوج شقيقتها الأرمل، فوقف أبو خالد ونطق” لسالم بأختها جميلة زوجة له عوضا عن نجوى”. ص67
الأعياد الدينية: يحرص أهل القرى القريبة من القدس على صلاة العيدين في المسجد الأقصى، ولذلك كانت فرحة زينب كبيرة عندما رافقت عمها أيوب بالذهاب إلى القدس “فلم تكن تزورها سوى مع أهلها لصلاة العيدين في المسجد الأقصى، وبعد الانتهاء كانت العائلة تعود مباشرة إلى البيت لاستقبال المهنئين بالعيد” ص36.
كما بينت الروائية تجرؤ اليهود على عمل أول تظاهرة سياسية عند حائط البراق ” نتجت عنها اضطرابات في عدة مدن من فلسطين.ص57.
المواسيم الزراعية: تلعب المرأة الريفية دورا بارزا ومهما في بناء المجتمع المحلي وتطوره، وتساهم بفاعلية في العملية الانتاجية سواء في الحقل أو في الأعمال المنزلية مما أكسبها نوعا من الثقة بالنفس، ومكانة مرموقة في المجتمع القروي، فالمرأة صنو الرجل تشاركه في معظم أعماله في الحقل بالإضافة إلى الأعمال التي اختصت بها وحدها في البيت والإشراف على تربية الأبناء ورعايتهم. أبرزت الروائية بديعة هذا الدور من خلال أم سالم التي تطلب من زينب أن تحمل ما تبقى من شوال القمح وتلحق بها عند المطحنة فقد “تخلفت عن الذهاب فجر هذا اليوم إلى المخبز لخبز صينية العجين بسبب الزكام الذي أصابها يوم أمس جراء عملها في الحقل وسط برودة شهر شباط”. ص13.
وفي موسم الزيتون يخرج جميع أفراد الأسرة إلى الكرم لقطف الزيتون وسط فرحة الكبار والصغار، فيقول أبو سالم : “(هالزيتونات ولادات مثل نسوان فلسطين)
فتومئ أم سالم برأسها موافقة على ما يقول والعرق يتفصد من جبينها ويتسرب من أسفل ملاءتها البيذاء، فتمسحه بطرف كمها وتواصل قطف الزيتون” ص34.
كما تصور لنا رأس زينب بالصخرة التي كان يتم هرس بها الزيتون في إشارة إلى الطرق البدائية التي كانت سائدة أنذاك” رأسي الذي تحول إلى تلك الصخرة التي كنا ندق بها حبات الزيتون، إنها تقتلني حد الموت”120
التهاني : كما وظفت الروائية عادة التهاني في القرية فهم “يعيشون فيها كعائلة واحدة، وغالبا ما كانت التهاني تتم في الديوانيات، “فكانت الديوانية تلك الليلة عامرة بأبناء الحاج أسعد والجيران الذين جاؤوا للاطمئنان على أكرم والتهنئة بسلامتة، وقد كانوا دائمي السؤال عنه أثناء غيابه” 31
” اجتمع رجال القرية من كافة الحمائل بعد صلاة الجمعة في ديوانية أبو محمود، … لتقديم التبريكات بحصول ابنه محمود على دبلوم اللغة العربية من كلية القدس”ص63
الأدب الشعبي :
المثل الشعبي: الأمثال الشعبية مرآة الشعوب ومتنفسهم للتعبير عن أحاسيسهم وهمومهم, تصور عاداتهم وتقاليدهم ومعظم مظاهر حياتهم، فلا غرو إن احتلت مكانة خاصة عند الدارسين والباحثين والأدباء وظفوها في شتى فنون الأدب، خاصة الرواية منها، ولهذا نالت الأمثال حضورا مميزا في رواية “عندما تزهر البنادق”، محملة بدلالات إيحائية تعبر فيها الروائية عن وجهة نظرها في بعض القضايا المطروحة كقولها:” يقال (برد آذار بقص المسمار) لكن ديوانية الحاج أسعد لا تعترف بالبرد فقد كانت دافئة بمحبة الأولاد والتفافهم حول أبيهم…” ص18،
ومن الأمثلة ما يطول شرحها وتحليلها سنكتفي بذكرها تاركين للقارئ تفسيرها كما يريد، منها: (ابن العم بنزل بنت العم من ظهر الفرس)58 (على عيني واسمعي يا جارة) 85، (اقرع لا تناقر واعور لا تداقر) 118، (ابعد عن الشر وغنيله) 119.
الألفاظ والعبارات شعبية: تدور على ألسنة الناس في المجتمعات بعض الألفاظ والعبارات الشعبية المتوارثة بشكل تلقائي، تعبر عما يريدونه في موقف ما، وظفتها الرواية في مكانها الصحيح مثل: ” حبك برص”،15. “شو آخر الأخبار”19، اللهم جيبك يا دولة البال37، يييييع قرف 45، الله يستر64، اللي بعد العصي مش زي اللي بوكلها 65 ، فطس، الله لا يرحمه 93، الله لا يعطيك العافية 27، 96، عايب 108، الله يسهل عليكم 118، ابعد عن الشر وغنياه، 119 بلا ما يعملنا مصيبه 122، أهل مكة أعلم بشعابها 132، الله محي أصلك 132
الأغنية الشعبية: نني يا عين بنتي يا الحمام
بنتي بدها تنام عاريش الحمام …. ص22،
الثقافة المادية :
البيوت والمساكن: الديوانية المضافة: “غالبا ما تجتمع عائلة الحاج أسعد بعد صلاة المغرب في الديوانية الكبيرة، ولا يسمح لأحد بالتخلف عنها، فالرجال يجتمعون فيها أما نساء العائلة فيجلس في غرفة مخصصة للنساء.”ص15، “كان الحديث السياسي داخل الديوانية قد انتهى، وانتقل الجد وأولاده إلى مناقشة أمور الكروم وغيرها” 20، “اجتمعت رجال القرية من كافة الحمايل بعد صلاة الجمعة في ديوانية أبو محمود ..” 63. المغارة: “..وها هي على مشارف مغارة عمها” ص101، مخزن التبن: “أبو سالم يعود ومعه سالم ويتجها مباشرة نحو مخزن التبن، يزيحا خياش التبن بشكل عشوائي” 154، الطابون وروائح خبز الطابون ص107. الفرن: دخلت أم سالم “الفرن وإذا بها ليست الوحيدة هنا فقد تجمع في الداخل عدد من نساء القرية، جلست أم سالم وكن يقرقرن ويخبرن بأن أجواء هذه الليلة غريبة ولا تطمئن…” 144
الملابس: “رأته يجلس بقمبازه الرصاصي المخطط وكوفيته البيضاء” 32، سرقوه من الخزانة عندما سرقوا قمبازك المخبأ وكوفية أبي البيضاء، وثوب أمي المطرز، سرقوا كل عائلتي” 112. الأثاث: ” أصوات طقطقة ضلوع الحطب داخل الكانون في زاوية الديوانية.89. قن الدجاج: شملت المجزرة كل ما ينبض بالحياة في دير ياسين، حتى أقنة الدجاج.ص151
الفنون الشعبية :
من الفنون الشعبية التي كانت آنذاك صندوق الفرجة ـ صندوق العجب ـ وهو بمثابة السينما المتنقلة للأطفال، يتزاحمون حوله ليروا ما يقدمه لهم الحكواتي، فوصل إلى قرية دير ياسين في أواخر نيسان وهو يردد:
“قرب قرب قرب
قرب شوف واتفرج
وصل صندوق العجب” ص43.
لكنه في هذه المرة لم يعرض لهم حكايات أبي زيد الهلالي وعنترة كما عودهم، فحكى لهم قصة أربع أخوات جميلات، يرمز بها إلى الأوضاع السياسية التي كانت سائدة.
وفي الختام أرى أن الروائية لم توظف التراث الشعبي الفلسطيني في روايتها لإبرازه فحسب، وإنما للمحافظة على هذا التراث المستهدف من الصهيونية ولتعريف القارئ العربي بما يجهله من هذا التراث.