من الظواهر التي استنتجتها في الآونة الأخيرة وأنا أتفكر في الصراعات ذات الصبغة الدينية بل حتى السياسية المسلحة،
ظاهرة الهوية الطاردة والهوية الجاذبة؛
بمعنى أن تعبير الإنسان عن هويته واستشعارها في كيانه يأتي على نحوين زمن الحرب :
النحو الأول أن الأنا لا تتحدد ملامحها ويظهر سمتها أو لنقل تكاتفها وانضمامها إلا بطرد الآخر، أو بناء صورته القبيحة والمشوهة،
فمثلا في سياق الحديث عن الخصم المذهبي في قرانا سمعت هذه الحادثة أكثر من مرة :
أن أُمّاً عَلوِيّة قتلها ابنها السُّنّي بالسكين في رواية، حرقا في رواية، رميا بالرصاص في رواية ثالثة، هذه المرأة مرة من حمص، وأخرى من ريف دمشق ، وثالثة من حلب.
كأن أبلسة الآخر وشيطنته وتجريمه هي الصيغة المثلى لرحمنة الأنا وملائكيتها وطهارتها، في سياق الحرب يصبح أي امتداح للخصم أو تردد في عدائيته مجلبة للخطر، كأن انتماءك إلى صوابية طرفك لا تكون ولا تثبت إلا بالمشاركة في تشويه الخصم، ويتبناها الناس دون إملاء، كأنك إن لم تشارك في الطرد أصبحت ضدا وعميلا.
أما الهوية الجاذبة فأستلمحها في خطاب المتنورين أو الذين لديهم حظا من الأخلاقيات والتزام الحق؛
في قرانا أيضا وفي معرض الحرب الدائرة ومجاذرها كنت أسمع حين تناول الخصم والتأكيد على شرانيته من يقول : عرفت من تلك الجماعة أصحابا ويشهد الله أنني ما رأيت منهم ما يسيء أو يقبح، ثم يسرد قصصا تفيد خلقا عاليا ونزاهة وسيرة حميدة.
وهذا النمط أيضا تتنوع أخباره وهو أقل من النمط الأول وأخفض صوتا.
الهوية الطاردة هي السمة الغالبة على أفراد المجتمع، مما يشير إلى أن حظ المجتمع من الشيطنة والأبلسة والجريمة أكبر من حظه من الرحمانية والملائكية والنقاء. بل إنني أستنتج أن جرائم الحروب اجتماعية ومن صنع المجتمع وليس الأفراد إلا منفذين.
ومن المفيد التذكير بدور الإعلام في التأكيد على الهوية الطاردة وإذكائها، تراه في أوقات الحرب يمنع بصورة شبه كاملة أي حديث إصلاحي أوخطاب تقريبي، ثم يستجيب الناس للإعلام ويسبقونه، كأن تواطؤا من نوع ما يحصل بين المجتمع والإعلام، للاستمرار في سكب الدماء ولعبة الدمار، والإبقاء على الهوية الجاذبة خارج الحقل بل النظر إليها بارتياب وأحيانا تمرير بعض الإيذاء إليها.