خاض أدونيس تجربة رائدة بإصداره عملا إبداعيا فريدا بعنوان “الكتاب”(1). فإذا كان ملارمي MALLARME (ت 1898) قد سبق إلى كتابة “الكتاب” (2) فاتحا بذلك آفاقا جديدة أمام الشعراء انطلاقا من طريقة الكتاب المقدس، وتبعه من العرب، دون أن يسمي ما كتبه “كتابا” ، “جُبران خليل جبران” في كتابته على طريقة الكتاب المقدس بإحيائه الجملة التوراتية كما تنبه لذلك كثيرون، وبالأخص منهم “ميخائيل نعيمة” في تقديمه مجموعة جبران الكاملة(3)، فإن أدونيس، ولا شك ، يحاول “تأصيل” مفهوم الكتابة، بمحاكاته طريقة الكتاب/القرآن في تعدد الأصوات، فيما هو يفتح أمامها، في الآن نفسه، آفاقا واسعة للإبداع وتعدد الرؤى. فها هنا، إذن، وفي كل الحالات (مالارمي، جبران، أدونيس…)، رغبة للشاعر المعاصر في أن يكون نبيا، وفي أن تكون كتابته “كتابا” مقدسا من قبل الجميع، وفي أن يروي عطش الفن من نبع الدين، بالمفهوم العام للدين.
“الكتاب” لأدونيس شعر على وزن (المتدارك/الخبب) مصحوب بهوامش نثرية على الجانب الأيسر من الصفحات(4). بالإضافة إلى إيقاع المكان، إن صح التعبير، والذي له أهمية خاصة في هذا العمل، وذلك في طريقة توزيع المكتوب وإبراز بعضه بخط غليظ وإخفاء آخر بتدقيق الخط، وتأطير هذا وإهمال التأطير للآخر، وكتابة هذا على اليمين وذلك في اليسار وذاك في الوسط، وهذا في الأعلى والآخر في الأسفل…وما لذلك كله من دلالة مقصودة من شاعر كأدونيس. غير أن اللافت للانتباه في الكتاب هو غوصه في التراث –الذي يختاره– وانغماسه فيه من أول صفحة للغلاف إلى آخر صفحة. طبعا هو لا يبقى هناك في الأعماق، وإنما يخرج منه خروجا شبيها بخروج “إنكي”(5) …، فنسمع كيف تتصادى فيه حشود من الأصوات الشعرية والمسرحية والسردية ولغة التحقيق والشرح… ويختلط فيه الشعراء بالأنبياء والرواة والسلاطين والخلفاء والقادة والثائرين والمقتولين والمؤرخين…الخ في نسج عجيب يمتع في إفادته ويفيد في إمتاعه، وهذا بغض النظر عن التصور الخاص الذي يشكل أساسا لهذا العمل مما يتطلب دراسة متأنية.
………………………………………….
التناص.المفهوم وخصوصية التوظيف في الشعر المعاصر/دار التنوير/الجزائر/2013…ص: 80ـ 81.
………………………………….
هوامش
1 – الكتاب: أمس المكان الآن- دار الساقي ط 1، 1995.
2 – نشر سنة 1951 – ينظر المعجم الفرنسي الموسوعيHachette عند رسم: Mallarmé.
3– المجموعة الكاملة (العربية)، جبران خليل جبران؛ 19حيث يقول عنه ميخائيل نعيمة :«يحاول في الكثير من نبراته محاكاة مزامير داود ونشيد سليمان وسفر أيوب ومراثي أرميا وتخيلات أشعيا، وعظات الناصري، ولا عجب فقد كان للتوراة… أبعد الأثر على الأسلوب الذي اختاره».
4 – يمكن الرجوع إلى مجلة إبداع، العددان 6 و 7 يونيو/يوليوز 1996 لأخذ نظرة عن “الكتاب”
5ـ إنكي: إله الماء والحكمة عند السومريين..قال: …”أنكي”، الرَّبُّ الذي يُقَرِّر الْمَصَائِرْ
بَنَى بَيْتَهُ مِنْ فِضَّةٍ وَلاَزَوَرْدْ
فِضّةٍ ولازَوَرْدٍ كَأَنّهَا النّور الخاطف
حيثُ اسْتَقَرَّ هُناك في الأعْمَاقْ
عندما ارْتَفَعَ “أَنْكِي”، ارْتَفَعَتْ مَعَهُ كُلُّ الأَسْمَاكْ
واضْطَرَبَ الْغَمْرُ واصْطَخَبْ
زَالَ عنِ البَحْرِ وَجْهُ الْمَرَحْ
وَسَادَ الرُّعْبُ في الأعمَاقْ
وَاسْتَبَدَّ الْهَلَعُ بِالأنْهَارِ العَالِيَهْ
وَرَفَعَتْ رِيحُ الجَنوبِ الفُراتَ عَلَى مَدٍّ مِنَ الأَمْوَاجْ