“الشعر والتشوف
إلى اصطلاحات التصوف
الرباوي (1)” :
وردت مادة (عشق) في كثير من أشعار الرباوي إلا أن أهم السياقات التي احتضنت هذا المصطلح هو سياق الحنين إلى وجدة، وسياق الحب للذات الإلهية. أما السياق الأول فنجده في أشعاره الأولى الخارجة عن المتن المدروس، وتمثل تلك المرحلةَ العصيبة التي عاش فيها الشاعر فترة مخاض إنسانا وطالبَ علم وشاعر؛ وكان الفضاء والزمن اللذان يؤطران هذه التجربة يتجسدان في مدينة الرباط( ). وأما السياق الثاني فما يدخل في إطار شعره الإسلامي الذي بدأه أواخر سنوات السبعين.
في الأول طغى الحنين على الشاعر إلى مدينة وجدة فجاء “العشق” تعبيرا عن هذا الحنين من جهة، وتعبيرا عن الرغبة في الهروب من فضاء الرباط من جهة أخرى؛ يقول الرباوي عن ذلك في مقدمته لمجموعته الشعرية “أطباق جهنم”: «وهذا الديوان الذي أضعه بين يدي القارئ الكريم يضم في الحقيقة مجموعتين شعريتين: الأولى: “أطباق جهنم”، والثانية: “حديقة العطش” تجمع بينهما الذاتية؛ تصور المجموعة الأولى تجربة احترقتُ بلهيبها أيام كنت مقيما بالرباط، وظل رمادها يلاحقني وأنا بوجدة… أما “حديقة العطش” فهي مرتبطة بالأطباق أيما ارتباط، لكن ما يميزها هو حضور فضاء وجدة الذي جاء بديلا لفضاء الرباط؛ لأن وجدة وقتئذ كانت بالنسبة إلي الخلاص من حياة صبغتها شوارع الرباط»( ). فحضور الرباط كان حضورا في الذات صاحَب الشاعر إلى مدينة وجدة، ولربما كان هو الذي جعله يحس بعمق عشقه وأنسه واستمتاعه بهذه المدينة في أشعاره التي نظمها بها. وأوضح مثال على ذلك قوله من قصيدة “خرائط تحت المجهر”:
بحثوا عن وجدة في موقعها الأول
والثاني والثالث…
قالوا: من هرّبها؟
قال أنا هرّبتُ ظفائرها في قلبي
من يعشقها فليدخل من بوابة هذا القلب
حين بقرتم صدر العاشق لم تجدوا قلبه( )
فالشاعر هنا صريح في نقله العشق( ) من عالم المرأة إلى عالم آخر مغاير له على سبيل المشابهة إظهارا لجلال المحبوبة الجديدة التي أخذت منه قلبه.
أما في شعره الإسلامي فلم يمحض الشاعر عشقه لغير الذات الإلهية وهو ما نجده مثلا في النماذج (ا-ب-ج-د-هـ):
ا- أيها العاشق
محبوبك لا يقبل أن يصبح حبا
ضائعا بين ضلوعك
هو لم يمنحك يوما حق الاستبداد بالعشق
فمحبوبك معشوق مباحٌ عشقه للناس
كل الناس، فافتح باب هذا العشق فتحا
ربما توجك الفتح بريحان الشهادة
ففي خطابه لذاته على سبيل التجريد، يوجهها الشاعر إلى تحويل العشق من معناه السلبي الهروبي، الذي نجده لدى كثير من المتصوفة حين ينصرفون عن الدنيا كلها ويظنون بذلك أنهم ينفردون بالمحبوب في خَلواتهم( )، إلى المعنى الإيجابي الكامن في اقتحام الحياة ومجابهة المخاطر من أجل الوصول إلى المحبوب؛ فغايةُ الشاعر من العشق هي نفسها غاية الصوفي منه، إلا أن هذا يحققها كما يظن بالخلوة، والشاعر يرى أنه لن يحققها إلا بالاستشهاد. كما أن الصوفي يعتقد بأن العشق مقصور عليه وحده مصروف عن العامة لما فضله به الله تعالى عن كافة عباده( ). وأما الشاعر فيرى ل”كل الناس” الحق في ممارسة العشق. وأنهم كلَّهم قادرون على ذلك؛ ولذلك يدعو ذاته إلى التخلي عن استعلائها وأنانيتها “الصوفية”، والنزول إلى أرض الواقع للاشتراك مع الناس في عشق قد يؤدي إلى الاستشهاد.
ب- سبو مُمَزَّقٌ قميصهُ
ما بين فاس والقنيطره
لفاس كل هذه العيون الفاتنات القاتلات المحيياتْ
طوبى لها فسيد العشاق من قتلاها
طوبى لها فسيد الأنهار قد ذاع له سر
لكنها معشوقة تغلق بـوابة عينيها الكبيرتين
دون عاشقيها وهمو كثر
سبو متيَّم فؤاده
أعطى الهوى ما سألا
حَكَّمه لو عدلا
لكنه بعشقه
يزهو على الأنهار
والأطيار
هل يعلم
أن من بحار العشق
بحرا قتلا
من ذا الذي اخرج هذا العاشق المقتول من واحة
فاس، ورماه جسدا ممزقا بغابة القنيطرة؟
أيتها الزهور
يا عاشقة المحيط
قتال أريجك الجميل
مخيفة صلاتك المشتعلة
فزيني بنارها
شوارع القنيطرة
علَّ سبو
يسترجع الصفاء
قطرة فقطرة
يشكل العشق في هذا النموذج أساس حركية القصيدة، وليست الكلمة “عشق” واشتقاقاتها وما أسندت إليه أو أضيفت إليه، إلا مظهرا واحدا من مظاهر هذا الموضوع؛ إذ هنالك الكثير من الألفاظ التي تلحق بهذه الكلمة وتنتمي لنفس حقلها الدلالي المرتبط على الخصوص بالغزل العذري من مثل (ممزق قميصه، العيون الفاتنات، عينيها الكبيرتين، متيم فؤاده) هذا بالإضافة إلى استحضار شعر شعراء يدور في نفس الفلك ليضفي على السياق نقاء تاما يبعد به عن أي معجم غريب قد يعكر صفوه، وهذا الشعر هو:
-قول المتنبي[الكامل]:
بأبي الشموسُ الجانحات غواربا اللابسات من الحرير جلابـــــبا
الناعـــمات القاتـــــلات المحـــيــــــــــــــــيا ت المبديات من الدلال غرائبا( )
الذي يقابل قول الشاعر:
لفاس كل هذه العيون الفاتنات القاتلات المحييات…
– قول أبي فراس[الطويل]:
أراك عصي الدمع شيمتك الصـبـر أمَا للهوى نهيٌ عليك ولا أمْـــــرُ
بلى أنــــا مشـــــــــــتاق وعــــنديَ لَــــــــــــــــــــــوعــــة ولكــنّ مــــــثـــــــــــلي لا يذاع له ســــــــرُّ
فقلت كما شاءت وشاء لها الهـــــوى قتيلُكِ، قالت: أيهم؟ فهمُ كثـــرُ( )
وهو واضح في قول الشاعر:
لحبها على سبو نهي وأمر
طوبى لها فسيد الأنهار قد ذاع له سر
لكنها معشوقة تغلق بوابة عينيها الكبيرتين
دون عاشقيها وهمو كثر
-قول ابن عبد ربه[مجزوء الرجز]:
أعطيته ما سألا حَكَّمتُه لو عدلا( )
الذي ضمنه الشاعر قصيدته بتحويل طفيف في قوله:
سبو
متيم فؤاده
أعطى الهوى ما سألا
حَكَّمَهُ لو عدلا
– قول محمد إقبال[الخفيف]:
اُنظر النــــهرَ جاريا في هُيــــــامٍ بين خُـــــضر المروج مثل الْمَجَرَّهْ
…يقـــــصد البــــــــــــــــــحر طروبـــــــــــا وعـــــــــــــــــــزوفا عن كل شيء غريبا
ومئات الأنهار في الْحَزن والسهـ ـل تُنَــــــــــــاديه يــــــــــا فسيح المـــــــــــــجالِ
قد حمانا المسيرَ قِــــــلةُ مــــــــــــــــــاءٍ فارْحَمَنَّا من بَغيِ هذي الرمالِ( )
الذي يلمح إليه الشاعر في قوله عن سبو:
لكنه بعشقه
يزهو على الأنهار…
(يتبع)
/**/
______________________
هوامش:
– جدال وسجال؛ 62-63.
– أطباق جهنم؛ 5.
– الرمانة الحجرية؛ 55-56.
– ينظر استعمال الشاعر لهذه الكلمة في المصدرين السابقين نفسيهما؛ الرمانة الحجرية؛43،45.واطباق جهنم؛ 83-84.
– ينظر مثلا تجربة الإمام الغزالي رحمه الله في المنقذ من الضلال؛ 83.
– نفسه؛ 84. قال الغزالي: «علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق بل لو جُمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه؛ لم يجدوا إليه سبيلا. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يُستضاء به». وينظر كذلك: – الرسالة القشيرية؛ 36.
– شرح ديوان المتنبي؛ 250:1.
– ديوان أبي فراس؛162-163.
– ديوان ابن عبد ربه؛ 163. والعقد الفريد؛ 460:5.
– بيام مشرق (رسالة المشرق)؛ 65،66.