في عصر السموات المفتوحة، والوسائط الحديثة، صارت الشهادات هي المقياس ولم تعد للثقافة أهمية تذكر.
وأصبح من يحصل على الدكتواره هو الشاعر والناقد والمتحدث في كل شيء.
والعجيب أنه ملغي الشخصية ملغي الهوية منزوع الصلة، يتحدث ناقلا فيقول: قال فلان وفلان، وليس للشخصية وجود، فلا أسس لنقد، ولا أبدع نظرية خاصة به.
يستشهد بنظريات الغرب وشعر الغرب، ولا ينطق بيتا واحدا من الشعر العربي، لأنه تعلم في أطروحته كيف ينقل، ولا يفكر ولا وجود له إلا بالإسم.
الداليون لا يصنعون نقدا وإن صنعوه صار ثقيلا، هناك من أبدع نقدا في وطننا العربي، لكنهم قليل.
الجامعات لا تعطي نقدا ولا علما ولا ثقافة، تعطي فقط المفاتيح، وشهادة ميلاد، فمن أراد أن يصمد ويكمل الطريق، فعليه بالبحث والمثابرة.
هذا المقدمة ضرورية لأن غياب النقد الحقيقي أثر على ضعف الشعر والحركة الإبداعية، فالنقد هو وقود الشعر وسر شهرته وذيوع أمر صاحبه، إنه حياة موازية لحركة الإبداع تسري مع الشعر وتحفز الناس على حبه والاستمتا ع به، لكن مع صعود النفط وكثرة الدولارات، صار النقد لمن يدفع، ولمن لديه القدرة على الوصول للإعلام، فتحكم الدولار في الناقد والشاعر.
حكى لي دكتور ناقد مصري.. أنه في إحدى أمسيات دول الخليج، طلب منه متشاعر خليجي أن يقول عنه كلمة في الاحتفال بديوانه الجديد، وأعطاه بعد أن تحدث عن هذا المخلوق المبتور والمشوه لغة ونصا، عشرة آلاف دولار، عاد واشترى بها سيارة، وبعدها تحول من ناقد لمرتزق، وتعالى على شعراء بلده، أتحدى أن يكتب عنهم كلمة أو كتابا، بل حول البوصلة إلى هناك، لمن يدفع ويجزل العطاء.
كنت أستمع إليه وأتذكر الفنان عادل إمام في فيلم مرجان أحمد مرجان وكيف أصبح شاعرا، وحصل على جائزة الدولة بالحلزونة.
حكى لي الشاعر السوري.. أن سعادة السفير اليمني حجز له من دمشق إلى القاهرة، وأسكنه بفيلا في الدقي من أجل أن يجعل من تخاريفه شعرا يتباهى به أمام الإعلام والحسناوات في( السرايا).
إن كتب النقد الآن بالدولار ودواوين الشعر بالدينار، حتى الدكتواره صار لها سعر وثمن.
حكى لنا الدكتور المسير أنه في دول الخليج وهو معار من الجامعة طلب منه من بعض الطلبة أن يعد لهم الرسالة مقابل.. دولار فرفض، بل وصل الأمر إلى أن أصبح للشعر دكاكين مكتوب عليها: (نشتري الشعر ونبيعه ونصححه)، طبعا التعميم خطأ لكنها ظاهرة تستحق الدراسة والتوقف.
إنها الثقافة التي ماتت عند العرب، وبعدما كان الشاعر مثقفا والناقد مساعدا ومقدما وكاشفا وفاتحا الطريق أمام الشعر والشاعر ليصل إلى الجماهير، تحول الشعر والنقد لمن يدفع ومن يعرف كيف الوصول إلى سعاد ودونها قمم الجبال واللعب على الحبال، وقف الشاعر المصري الذي حصل على لقب أفضل شاعر الأسمر ابن أسيوط، وقف بالأوبرا ليرفع بشعره الكويت إلى عنان السماء ويحط من قدر مصر التي تربى فيها وتعلم وأصبح شاعرا يستمع إليه الناس، وليس عيبا أن يتحدث عن الكويت والبابطين، لكن لا يعرض بمصر وحضارتها وتاريخها، لكنه الدولار وفعله في النفوس.
صار الشعر عند العرب للوجاهه والشياكة كالمسكن والسيارة.
يحكي صاحب كتاب شخصيات ورجال فتحي رضوان، عن فترة كانت مصر فيها رائدة للأدب والنقد والفن والثقافة، وهو يتحدث عن حافظ إبراهيم شاعر النيل، وكيف كانت الأخت وهي في الخامسة عشر من عمرها ولم تحصل حتى على الإعدادية، كانت في المطبخ تتغنى بشعر حافظ إبراهيم وتحفظ العمرية كاملة:
يا رافعا راية الشورى وحارسها
جزاك ربك خيرا عن محبيها
لم يلهك النزع عن تأييد دولتها
وللمنية آلام تعانيها
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به
رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
وما استبد برأي في حكومته
إن الحكومة تغري مستبديها
إلى آخر القصيدة التي تربو على 400 بيت.
الآن زوجتي وزوجتك وابنتي وابنتك حاصلة على الدكتواره في الأدب والنقد والتاريخ ولا تحفظ بيتا واحدا من شعر شوقي ولا حافظ ولا البارودي.
ولهذا تجد الجيل متعلما وحاصلا على أعلى الشهادات ولا يعرف أي شيء عن الشعر والتاريخ، ولا يعرف قيمة مصر الحضارة والثقافة والتاريخ.
في إحدى الندوات سألت مجموعة من الشباب عن أحمد شوقي، وهل يعرفونه؟ فأجاب أحدهم.. أحمد شوقي رئيس مباحث الجيزة؟
أي ورب الكعبة هكذا أجاب.
وسألت ذات أمسية عن الصحفي أحمد حلمي صاحب جريدة اللواء؟ فأجاب أحد الشباب أحمد حلمي زوج منى زكي الممثل.
تخيل هذا الجيل ومدى الهذيان الذي وصل إليه.
تأتي الآن من باريس صديقتي أميلي وتتحدث عن السهروردي وعبد الرحمن بدوي وتاج الدين السبكي وتحمل في حقيبتها ديوان ابن الفارض، وشبابنا يعرف السبكي المنتج ويحمل في حقيبته صور محمد رمضان ويسمع مافيا مافيا، إنه الضياع في كل شيء وغياب الثقافة الحقيقة.
الغرب وشباب الغرب يحتفون بشعراء أوطانهم ويقيمون لهم المتاحف، ما زال شكسبير حاضرا بإنجلترا وجوتة بألمانيا هكذا يقدرون وهكذا يفكرون .