الشاعر مثقفا ليدرك مفهوم الشعر قبل أن يصبح ناظما، ومفهموم الشعر عبر عنه الكثير تعبيرا جانب الصواب حين عبروا عنه بالعلم متكئين على قوله تعالى: (وما علمناه الشعر). والشعر هنا لا يقصد به القرآن الصنعة، لأن علم الشعر عند العرب يعني الرواية (رواية الأشعار) والقدرة على تمييز المصنوع والمطبوع من المنتحل والمسروق، وهذا ما يفهم من كلام الخالق. فالنبي (ص) لم يتعلم رواية الشعر ولا عرف عنه ذلك، ولو كان كذلك لكان هناك شبه انتحال للنص المقدس عندما نزل.
هذه الثقافة للشاعر تجعل منه متخطيا للرواية والحفظ والنقل والصنعة، فيصبح بثقافته متخطيا لحاجز الحدود التي صنعتها الدول، فالوقوف على الصنعة وحدها لا يكفي.
فلا بد للشاعر أن يسافر بثقافته عبر اللامحدود والمسكوت عنه، ويحدث لدى المستمع صدمة ويقوده إلى الاندهاش، ولا يتأتي ذلك إلا من ثقافة واسعة وقراءة متأنية لتجارب الحياة.
وإذا كان الجيل الجديد منفتحا على ثقافة الغرب وأدب الغرب، فقد كان من الأولى أن ينفتح على ثقافته هو قبل كل شيء، إذا كان يؤمن أن لديه ثقافة وأنه ابن ليس منزوع الأصول، فكما يقرأ شكسبير يقرأ البحتري، وكما يقرأ لجوته يقرأ للفرزدق، وكما يقرأ بودلير يقرأ المتنبي، وكما يقرأ لتشيلي يقرأ لشوقي وحافظ والبارودي.
الشاعر مثقفا لأن الشعر في الأصل عمل جماعي شأن اللغة، فالأدب عموما عمل جماعي تراكمي، فالشاعر لا يولد شاعرا، دون بيئة وسماع وتلقٍّ ورواية وثقافة ومحيط يؤهل للتجربة أن تنضج، ولعل من أسباب ضعف الشعر الآن أن الحالة الجماعية غير محبة للشعر، بل مزاجها يميل إلى الصورة والسينما والوسائط الكثيرة التي أبعدت المجتمعات عن الشعر. والعمل الجماعي يرتجي منه الشاعر في الأساس ثقل التجربة، واستبطان الحالة الاجتماعية والإنسانية. فالشاعر هنا كالمؤرخ يستفيد منها بخبرته وقراءته، فتتفتح أمام عينيه أمور كثيرة، وكما أن المؤرخ ليس بالضرورة أن يعيش حياة من قبله، أو ينغمس فيها لحظة بلحظة، إنما بالقراءة يتصور الواقع ويركبه في ذهنه لتظهر للناس الحقيقة، وهكذا الشاعر، وإن كان المؤرخ يعتمد على الوثائق والحقائق فالشاعر يعتمد على المجاز والخيال، وهذا هو الأدب، والمجاز والخيال هما عدة الشاعر وبيت القصيد، حتى لا يقابل بالملل أو السأم .
يستطيع أي دارس للعروض أن يحول النثر إلى شعر، لكنه في الحقيقة ليس بشعر، ولم يكن العرب يريدون ذلك أبدا.
وحين قسم العرب الأدب إلى شعر ونثر لم يكونوا يريدون ذلك لأنهم يعرفون أن الشاعر عالم يسع الحياة بأسرها وجمالها وما تحويه من تجارب.
يقول د. مندور منتقدا العرب لأنهم قسموا الأدب إلى شعر ونثر وأن الغرب تفوق عليهم لأنه جعل الأدب أشمل، فالادب عند الغرب كما يقول: يشتمل على كافة الآثار اللغوية التي تصاغ منها الانفعالات النفسية والعاطفية، والإحساسات الجمالية، وهو خطأ وقع فيه الدكتور مندور لأنه لا يدرك أن الشعر يحوي كل هذا، لأنه في الأصل إحساس وانفعال وتجربة عاطفية وجمال صيغ بدلال وحرفية، إنه حالة تحركت فعبرت وجاشت فأنارت، وتجربة نضجت ففارت وثارت وخرجت تمشي على قدمين وتحلق فوق حدود اللا محدود. والمجاز ليس معناه التشبية والصور فحسب، وإنما نقل المعاني التي ليس لها ربما وجود في الحياة. ومن هنا كان الشعر وحيا عبقريا وخيالا سرمديا، ولا يمتلك ذلك إلا من رزق الثقافة الواسعة.
يقول العقاد: إن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغلفية إلى الكتابة بالحروف الأبجدية، وهذا كلام غير صحيح، ثم يقول: إن المجاز العربي يصور لنا المعاني مجردة مباشرة، وهذا أيضا غير صحيح.
ثم يضرب مثالا عن أن الكاتب المصري قديما في عهد الكتابة الأول قبل اختراع الأبجدية، يريد أن يكتب أنه يمشي فيرسم شخطا يمشي إلخ، وكلها أخطاء وقع فيها العقاد ووهم لا دليل عليه. فلغة المصريين القدماء لا علاقة لها باللغة العربية وأي محاولة للتقريب بينهما محاولة فاشلة، فالعرب حين دخلوا مصر، كانت لغتهم قبطية، وهي في الأصل مزيج من اليونانية واللاتنية، والمسيح عبراني، ولغة الصلوات مزيج من اليونانية واللاتينية، والعامية المصرية خليط. ثم إن المصري كان يرسم حتى يعبر عما بنفسه كلام خطأ، ومعروف أن اللغة القديمة للمصريين تنقسم إلى قسمين: لغة العامة، ولغة الخاصة الحكام والكهنة، والتعبير عنها برسوم للقراءة على حسب ما اتفقوا عليه، لأن اللغة عمل جماعي وتعارف. أما قضية الرسم والكتابة أولا فغير صحيحة لأن الله خلق الإنسان وأعطاه القدرة على الإفصاح والبيان والنطق (علمه البيان) أي الإفصاح والإبانة، ثم تأتي مرحلة الكتابة وهي ضرورة لحفظ التاريخ الإنساني ونقل الخبرات للأجيال، سواء كانت هذه الحروف عربية أو غيرها. ولا ننسى هنا أيضا أنها عمل جماعي يتفق عليه ومن هنا جاء الإملاء.
فالإملاء رسم لشكل الحرف والكلمة التي تكون جملة تعارف عليها، ومعروف أن العين (كاميرا) تلتقط ما تراه، ومن هنا كانت أهمية تعلم اللغة في الصغر، والقلم أحد الأدوات للتصور الذهني، والفهم لمعطيات اللغة علم (بالقلم). فالقلم يساعد في رسم صورة في الذهن لما تعارف عليه من اللغة، وإن كان لا يضير أن أكتب في التعليم لأن اللغة أصوات في الأصل منغمة ومكونه من المخارج التي خلقت في الإنسان للتعبير عما يجيش في نفسه، والكتابة توثيق.
أما المجاز عند العرب فهو بعيد كل البعد عن تعريف العقاد، لأن لكل لفظ معنى، لكن مجاز الشاعر يحتوي على ما يكمن خلف المعاني واستنطاقها لمعاني أخرى، وخلف المعاني ألف معنى ومعنى.
استمع إلى صالح الزهراني:
الشعر أنك لا تدرى
سواك درى
ولا ترى كل ما يجري
وأنت ترى
وأن تحلق عصفورا
وأغنية
من عزفها كل قلب
ينتشي وترا
وأن تكون عناقيدا
ومائدة
للعاشقين
تعبي ليلهم قمرا
الشعر أن تستر النجوى
وتعلنها
وأجمل الشعر
ما ابدى الذي
استترا..
هذا المجاز وهذه اللغة وهذا الشعر يجعل المستمع والمتلقي مندهشا ومستمتعا، وهذه غاية الغايات. فالفنون وأولها الشعر غايته الإمتاع إن تحقق الشعر.