أصابته فجأة وعكة صحية ..تمدد على الأريكة الموجودة في مدخل الجناح الإداري ممسكا بيده على صدره وقلبه وقد بدا عليه الشحوب وعكس احمرارُ عينيه الدامعتين كل المآسي والذكريات الحزينة التي مرت عليه في حياته.
هو خريج مدينة الأيتام والأرامل ،المدينة التي لولا وجود الفحم الحجري بها لما حددت معالمها على أية خريطة. .هي تلك المدينة التي تصدر الدفء والفرحة وتُبطن برودة المفاصل واختناقات الصدور لدى عمالها. السي محمد هو حارس مؤسستنا الستيني الذي رغم المرض وداء السيليكوز الذي لا يمكن أن ينجو منه كل من عمل بمناجم مدينة الرغيف الأسود، لا يزال اليوم مضطرا للعمل ..تقاعد هزيل لا يتجاوز الألف درهم و ولدان وزوجة بحاجة للمصاريف وللعيش الكريم..
طلبت منه أن يحدثني عن ماضيه وعن ظروف العمل في مناجم مدينة الأشباح كما يحلو للبعض أن يسميها فلخص لي الحكاية بداية في الجملة التالية:
” رغيف خبز مقابل حياة شخص ” ألححت عليه ليحدثني أكثر وأنا أعرف درجة وعيه وقدرته على سرد الأحداث بكل حياد وموضوعية ..وهكذا سرد لي جزء من الحكاية:
في ظل غياب مدونة الشغل التي لم تر النور إلا في التسعينات ،لم يكن يتوفر العمال قبل ذلك ولو على أدنى ما يسمى بحقوق الإنسان ..معاناة يومية في ورشات عمل حفرت تحت الأرض بسواعد وأعصاب ودماء العمال ،ثمان ساعات في الأنفاق داخل غبار أسود كثيف ومع حرارة تفوق 45 درجة حيث الرؤية منعدمة والحياة غائبة إلى حين.. وجوه مسودة ،حفر وأعمال شاقة مع حمل معدات ثقيلة كثقل الأوكسجين الملوث بالغبار في الرئتين مع ضجيج الآلات وانهيار التربة في كل حين وكأنه جحيم تحت الأنقاض.ولعل ما يزيد الطين بلة و يضاعف معاناة العمال هو ذلك الاستهتار من طرف المسؤولين الذين لا يسعون إلا للربح بأقل تكلفة ممكنة ضاربين عرض الحائط كل اتفاقيات حقوق الإنسان .
ومع غياب المراقبة والمساءلة ،كان انعدام وسائل الوقاية والسلامة أمرا طبيعيا.. كمامات غير متقنة الصنع لا تفي بالغرض ، لا توجد وسائل التقليص من كثافة الغبار إضافة إلى
التسيير اللاإنساني و السب والإهانة والضغط المستمر على العمال والتهديد باقتطاع ساعات العمل .. كان العمال أيضا محرومين من السكن اللائق أو أية وسيلة للترفيه خلافا للمهندسين الذين كانوا مميزين هم وأبناؤهم.
جراء الانهيارات الأرضية الناتجة عن الحفر،كانت الوفيات بنسبة ثلاثة أشخاص في كل شهر،وكان العمال يصابون يوميا تقريبا بجروح متفاوتة وغالبا ما كانت الإصابات خطيرة ..ناهيك عن مرض السيليكوز الذي يؤدي إلى وفاة العمال في سن مبكرة وإلى معاناتهم مع المرض قبل الموت. لا عزاء بعد ذلك لأولادهم وزوجاتهم اللاتي يصبحن أرملات في سن الشباب غالبا ..فلا يوجد تعويض حقيقي عن المرض وعن حوادث الشغل . التعويض جد هزيل ولا تتم الاستجابة لمطالب العمال فيه إلا نادرا. عند الوفاة لا يتبقى من الراتب الهزيل إلا نصفه الشيء الذي يدفع بالأرامل وأبنائهن إلى التسول والتشرد..
كان قضاء أحد الأيام مدة أربعة عشر ساعة داخل ورشة استغلال لاستخراج الفحم الحجري من المآسي التي نقشت في ذاكرة السي محمد نقشا. رُدم هو ومن كان يشتغل معه وحبسوا في الورشة تحت الأرض حيث حتى الأوكسجين الأسود أصبح يقل شيئا فشيئا..رغم ارتفاع درجة الحرارة داخل النفق الذي تحول إلى كهف مغلق ،لم يعد يشعر السي محمد إلا ببرودة مفاصل حادة ورعشة وخوف من الموت لدرجة الإيشاك على الدخول في غيبوبة …
قبل إنقاذهم وإخراجهم من تحت الأنقاض، تذكر السي محمد وزملاؤه قصة ذلك العامل الذي مات تحت الأرض وبقي هناك ستة عشر يوما ..لم يدلهم على جثته إلا ذلك الفأر الذي خرج مضمخا بدمائه بعدما أكل من لحمه الميت.