إن البعد السيكولوجي للقصيدة العربية الأدبية ينبع من التعبيرية الشعرية، التي تنبثق من القيود المفروضة أو تحطمها، لتسير منسابة من نفس الشاعر، ولترسم من خلالها مواقع زمانية أو مكانية في لغتنا العربية، وقد تتجاوز الواقع المعاش لتسمو في آفاق ذاتية فاعلة بين انتشاء قوة التعبير وجمالية الأحاسيس، إلى أي شكل من الأشكال الأدبية المتنوعة، وفي انبساطية الفن الشعري أو الأدبي بحيث ترتكز سيكولوجيتها على التحليل الأدبي في أشكاله الفنية، منبثقة من النفسية الشعرية العالية، وتتوزع إلى انعكاسات هذه النفس لتأتلق في الأدب وفنونه المختلفة، والتي تعتبر الوجود ذاته امتدادا لروح الأديب أو الشاعر وما يعتمل فيه.
فالحياة ربما تصنع أنسجتها التي تريد ارتداءها، فتجدها في رغبة نفس الشاعر وما يشعره فيها، فتتنوع هذه الماهية بتنوع أنفس الشعراء وميولهم، وما ينتجونه من شعر في تدفق انفعالات التعبر وكينونته.
فعندما يكتب أو يشعر الأديب أو الشاعر أو الفنان العربي فكأنما امتلك الحياة كلها فما يكتبه، ينبع من مسارات الحياة في خلده وفي شعره، وبهذا تعتبر الانعكاسات الأدبية فيما يشعر به ذاتية المعنى والمغزى، ولا تخلو من الموضوعية البحتة المتأتية في مرجعيتها، وتسجيلها للأحداث وواقعيتها، ومن هذا المقام تنطبع شاعرية الشاعر العربي بنفحة الحزن، أو الأسى، أو تنطبع بواقعيته المعاشة، يقول شاعرنا :
يا ســاكِنا لُــــبَّ الفُـــــــؤادِ تُــزيـــــــدُ هُ
غَمّــــاً وفي وَسَــط الهُمـومِ تَـصَـــــدّ را
عَصَفت رّيـــــاحُ نُفوسِها لا نـَشْــــــــتـَــهي
وَمُنى النُّفـــــوسِ العــــــا مِرا تِ فـتُـغـمَر ا
إنَّ الفُـــؤادَ تَــقــرّحَـــت أوصـــــا لُـــهُ
تَـنْـــثــا لُ فيــهِ دُموعُهـــا وَلِتُـســـجرا
فـــإذا الحَيــــا ةُ كَـلَيْــلَـــةٍ مَــحــمــومَــةٍ
بَــــحـرٌ تَـهَـيّــــجَ مـو جــــهُ وَتَــجَــــزّرا
شـــاقَـت لَـــكَ الجَنّــاتُ في ألَــــقِ الرضى
أشــــعلــتَ نـــاراً بالفــــؤاد تَمَــرمَــــرا
فكأن الوجود حوله قاتم الألوان، فيتشكل نتاجه باسلوبه الشخصي وواقعه المرير من خلال الصور الشعرية ووجوديتها، في انسياب الإبداع من بين يديه بانسيابيات تعبيرية حزينة في الشعر والأدب، سواء كان عموديا أونثريا لما يختزن في أعماق نفسه من شعور. وترتسم ما تستقيه من خلال النص الأدبي.
فالشاعر بإمكانيته وقدراته الأدائية له القابلية في استكشاف حال الإنسان، ويربط إيحاءاته بها ربطاً شموليّاً، بحيث لا يتمكن – في الأغلب – من عزل نفسه عن المكان والزمان المقال شعره فيه، وربما يكون شموليا فيبقى خالدا، وهذا سر من أسرار جمالية الشعر، فقد يرى مسيرة الإنسان ونزوعه نحو التفاؤل في النفس الإنسانية، وقد يرى فيه عذاب أو تعاسة إنسان في موقع معين هو رمز لعذاب الإنسانية. لذا فإن حالة الموت لدى الشاعر قد تغدو موتاً أو حالة إنسانية عامة وليست شخصية، بل معاناة ومعضلة تكتنف الحياة البشرية في كل مكان، لا حياة شخص بعينه.
وربما تكون شحنات عاطفية متولدة من انصهار الوجود في مخيلته، ثم إفراغه على المادة الأدبية أو الفنية، التي تشكل تؤامة روحية مع انعكاسات النفس في ذاته الدفينة في عوالم اللاشعور الدفين لا جزءاً من الواقع الموضوعي المحيط به.
وربما بقيت الشعرية العربية عصية على كشف لون ردائها الذي يخبئ جمالا وجوديا خاصا في الوجود، وكأنها ظلال قاتمة تتشكل إشراقاتها النورانية على الأبيات و السطور. ولتبقى شعورا ذاتيا تنعكس فيه شحنات متماوجة بين هدير هائج وانسياب هادئ، وبين أسوار مغلقة وآفاق حرة شاسعة تخترق الحدود في لغة الوجود اللامتناهي، تنعكس فيه ظلالات النفس وإشراقتها في أي نص شعري تراه جميلا.
أما في مجال النقد الأدبي فقد عجز النقاد العرب عن بلورة منهج نفسي لتفسير الأعمال الأدبية، واعتمدوا صيغة ما كان من انطباعات وآراء لا ترقى لمستوى المنهج بضوابطه وخطواته العلمية. من خلاله طريقة استخدام هذا المنهج في دراسة الشعر وإدراك أغوار النفس، بناء على ما يجود به كيان الشاعر الشعوري واللاشعوري، مقاربة تتيح فرصة تفسير لاوعي الشاعر والدوافع التي تثيره وتحركه. وربما يتوصل إلى مجموعة من النتائج استنادا إلى معطيات المنهج النفسي، وما ينتهي إليه الناقد بخصوص الأسطورة الشخصية التي تمثل انعكاسا لإبداع الشاعر العربي من خلال ما يجيء به من الصور الرمزية المستحدثة.
فالناقد ربما لا يستطيع إيجاد تصور متكامل من المعطيات النقدية بإخضاع النص الأدبي لعملية النقد تماما، لذا كان لزاما عليه البحث عن تصورات تتيح له إمكانية إخضاع النص الإبداعي للتحليل النفسي. وطريقة استخدام هذا المنهج النقدي من خلال دراسة قصيدة الشعر، وسبر أغوار النفس الشاعرة وفق كيان الشاعر الشعوري واللاشعوري عند كتابته للقصيدة وما يكتنفه من مشاعر وإرهاصات مقاربة لشاعريته، ومن خلال تكهن الدوافع التي قد تثيره وتحركه. وكل هذه هي معطيات سيكولوجية تسمح باسكتشاف البنية الدلالية التي تهيمن على إبداع الشاعر ورؤيته، أو مساره في حياته الأدبية.
لاحظ كتابي ( ملامح التجديد في الشعر العربي الجزء الثاني الصفحات 293 – 296 ).