الخوارزميات أم الثقافة التراكمية.. كيف تتفاعل أدمغتنا مع المعلومات المزيفة؟

0
156

تظهر دراسة جديدة أن هناك صراعات تحدث في الدماغ وتُحلّ غالبا عن طريق الرغبة في استسلام قصير الأجل نابع من وعد النفس بحل المشكلة على المدى البعيد (غيتي)

نشرت صحيفة “لوبوان” (Le Point) الفرنسية مقتطفا من مقال لعالم الاجتماع المعرفي، الفرنسي جيرالد برونر، يتناول فيه الطريقة التي يتفاعل بها الدماغ مع الإغراق المعلوماتي.

أدمغتنا منطقة قتال:

يوفر إنتاج هرمون الدوبامين ميزة حاسمة على المدى القريب للأجزاء الخلفية من الدماغ، مثل اللوزة أو الحصين أكثر من قشرة الفص الجبهي المسؤولة عن التحكم في التفضيلات طويلة الأجل وبعض الانفعالات، بما في ذلك نظام المكافآت لدى الإنسان وجميع أشكال الإدمان.

وفي حال ارتفاع مستوى الدوبامين بصورة دائمة بسبب التحفيز المتكرر للظواهر الممتعة، فإن ذلك قد يسبب حلقة مفرغة تسبب الإدمان.

وتتصدر دائرة المكافآت عند البشر مجموعة واسعة من مصادر المتعة، مثل استهلاك المخدرات أو الطعام أو الاستماع إلى الموسيقى أو تصفح مواقع التواصل الاجتماعي. وبوجه عام، لا تتفاعل هذه الدوائر مع المكافآت الفعلية فحسب بل تكون حساسة أيضا تجاه الاحتمالات أو وعود المكافآت، وكلما اقتربت هذه المكافآت أو بدت ممكنة، زاد نشاط شبكات الدوبامين. ولعل هذا ما توصلت إليه دراسة في علم الأدوية العصبية، تشير إلى أن أدمغة مدمني الكوكايين تنتج الدوبامين عند عرض صور أو مقاطع فيديو للمنطقة التي يُحقنون فيها بالمخدرات.

مقاومة المعارك:

من شأن الغضب السريع أن يعرّض المرء لبعض أنواع التلاعب، مثل التلاعب التجاري. ففي عام 2014 قبيل كأس العالم دفعت شركة المراهنات “بادي باور” (Paddy Power) البعض، عن طريق خدعة بصرية، للاعتقاد أن عددا من الأشجار في غابات الأمازون قطعت حتى تكون رسالة التشجيع إلى فريق إنجلترا مرئية من السماء.

وأثارت هذه الخطوة غضب الجماهير التي رأت في الإعلانات شيئا من الصبيانية، وأن الغابة هي رئة الكوكب في زمن الاحتباس الحراري. في المقابل، منح هذا الغضب الجماعي المتحكم فيه موقع المراهنة على الإنترنت رؤية غير متوقعة قبل وقت قصير من تنظيم أكبر حدث رياضي على هذا الكوكب.

وشوهد الفيديو الذي يوثّق تعرض السياسي الفرنسي مانويل فالس للصفع في حملة الانتخابات الأولية لليسار عام 2017 ملايين المرات على منصات الفيديو عبر الإنترنت، وينطبق الأمر نفسه على آلاف الحوادث الصغيرة الأخرى المرتبطة بوجه مباشر أو غير مباشر بتعبيرات الصراع. وعلى الرغم من إنكار الإنسان ذلك، فإن هذه الحوادث تجذب انتباهه.

كذبة خاصة.. حقيقة عامة:

يختار الأفراد غالبا أن يكونوا جهات فاعلة استراتيجيا تحاول التوفيق بين مصالحها المادية والرمزية، بدل أن يكونوا كائنات غير متجانسة تتقاذفها النوايا الخبيثة لنظام هيمنة غامض. هناك صراعات تحدث في الدماغ وتُحلّ غالبا عن طريق الرغبة في استسلام قصير الأجل نابع من وعد النفس بحل المشكلة على المدى البعيد.

وفي الوقت الذي يشغل فيه العالم الرقمي حيّزا كبيرا في حياة الإنسان، فإن تجميع هذه البيانات المتعلقة بخياراتنا الشخصية، ولئن سمحت بنهاية العالم المعرفية، فإنها تطرح مشكلة رئيسة جديدة تتمثل في أن المعلومات والخيارات التي تعرض علينا عبر الشبكات الاجتماعية ومنصات شراء الكتب وغيرها تقوم أساسا على الاهتمامات التي خلّفناها في هذا العالم الافتراضي، وبهذه الطريقة هناك خطر من تضخيم الخوارزميات لرداءة خياراتنا بدلا من مساعدتنا على تحرير أنفسنا منها وتطوير أدمغتنا.

الثقافة التراكمية:

وليس بعيداً عن المؤثرات الخارجية على الدماغ، تطرق أستاذ علم النفس والفلسفة ستيف ستيوارت ويليامز -في مقالة سابقة بمجلة “سايكولوجي توداي” الأميركية- إلى دور الذكاء في تحديد ماهيتنا، مشيرا إلى أن الثقافة التراكمية تمنحنا المعرفة والأدوات اللازمة لتنمية ذكائنا بشكل يتجاوز قدراتنا الذاتية.

ويرى ستيوارت ويليامز أن تركيبنا الجيني لا يمنحنا حق التفرد في عالمنا، نظرا لتشابهه الكبير مع التركيب الجيني للعديد من الثديات التي تعيش على اليابسة. وفي حال تعرض كوكبنا للغزو من قبل “كائنات فضائية”، فإن أول ما سيدور في أذهانهم حول بني البشر هو اختلافهم الجذري عن بقية الكائنات في معارفهم وتقنياتهم وأدواتهم.

وعلى الرغم من امتلاك الثديات الأخرى درجة معينة من الثقافة، فإنها لا تتمتع بالقدرة على التطور التي تميز بها الإنسان.

ولا شك في أن الذكاء يشكل جزءا مهما من تميزنا عن باقي الكائنات، ويمثل أحد أسرار تفردنا في هذا العالم، لكن إنجازاتنا الثقافية لا ترقى للمستوى المطلوب بعدُ في حال نظرنا إلى ذكائنا المتقد وما هو قادر على فعله.

ويرى العلماء والفلاسفة أن سبب تفوقنا على سائر الكائنات هو ما يعرف بالثقافة التراكمية، وليس الذكاء، أي قدرتنا على تخزين المعرفة ونقلها إلى الأجيال القادمة. وانطلاقا من هذه “القدرة الخارقة”، يمكن للأجيال التي تلينا أن تعمل على النظر في هذا الموروث العلمي وتحسنه وتعدله مع مرور الوقت.

وأشار الكاتب إلى أن السبب الذي يجعل البشر قادرين على القيام بهذه الإنجازات الثقافية التراكمية دون غيرهم من الثديات لا يزال لغزا محيرا، لكن البعض يرجع ذلك إلى امتلاكنا لغات متشعبة وقدرتنا على ممارسة نشاط ما وتدريسه، فضلا عن تميزنا بالتجارة والإفراط في التركيز على أمر ما وامتلاكنا خاصية الاهتمام المشترك.

في واقع الأمر، تنطوي الثقافة التراكمية على فوائد متعددة، فهي تغنينا عن محاولة اختراع العجلة في كل جيل والبناء على الاكتشافات والاختراعات السابقة. كما أننا لسنا بحاجة إلى انتظار سقوط تفاحة على رؤوسنا حتى نفهم قانون الجاذبية، بل كل ما نحتاجه هو الذهاب إلى المدرسة أو الاتصال بالإنترنت لتصبح جلستنا المعرفية بمثابة نقطة انطلاق للجولة القادمة من الابتكار.

الثقافة تجعلنا أكثر ذكاء:

وأوضح الكاتب أن فائدة الثقافة التراكمية تتجاوز حدود الأجهزة التقنية التي يتسنى لنا استخدامها دون ابتكارها. فهي تجعلنا أكثر ذكاء بصفة حرفية، ناهيك عن أنها تشمل المعارف المكتسبة والأفكار والقواعد والعادات التي نعمل على تضمينها داخل المادة الرمادية للدماغ، لتتعزز قدراتنا المعرفية بشكل جذري.

إن أدوات العقل لدينا تتضمن العبارات اللغوية التي نستخدمها ونظرية الاحتمالات واستراتيجيات إدارة الوقت والتخطيط المالي. وفي الواقع، إن تراكم المعارف في أدمغتنا شبيه بتراكم التطبيقات داخل هواتفنا الذكية، وكلما زادت قدرة الدماغ أو الهاتف على تخزين التطبيقات والأدوات، زادت قدرته على تأدية العديد من المهام.

إلى جانب ذلك، يمكن للثقافة التراكمية أن تجعلنا أذكى بطريقة أخرى، فهي تسمح لنا بتجاوز القيود التي نفرضها على أدمغتنا من خلال اضطلاعنا بتقديم الإضافة إلى موروث معرفي موجود سلفا. وفي حال أردنا عزل أنفسنا عن الجميع، فسيستغرقنا امتلاك فهمنا الحالي للكون مئات آلاف السنين، وهو ما يجعلنا متفوقين عن الأجيال السابقة، خاصة في حال تحصلنا على تعليم جيد.

إن ثقافتنا التراكمية هي نتاج المعرفة التي انبثقت عن آلاف السنوات من التفكير، حيث يمكن لأي واحد منا أن يفهم الكون إلى درجة لا مثيل لها، مما يجعلنا نمتلك معلومات مذهلة ذات حجم هائل في أدمغتنا ومعرفة وتكنولوجيا تطلب إنشاؤها آلاف السنين.

 

المرجع: الجزيرة نيت

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here