لعل من القضايا التي أُشبعتْ بحثا وحديثا -طيلة السنين الماضية- قضية التكفير. غير أن الاهتمام بها انصب على جانب واحد هو تكفير الفرد العاجز لحكومة متجبرة. أو تكفير فردٍ مسلوبِ الإرادة لآخرَ مثله. وهو تكفير ساذجٌ لا ينبني عليه كبيرُ خطرٍ خاصةً في الفلسفة الإسلامية المتكئة على قوله صلى الله عليه وسلم: “أيّمَا رجلٍ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدُهما”. (متفق عليه). فالتكفير هنا تهمة معلقةٌ في الفضاء لا يُدري على أي الطرفين المتنازعين ستقع. ولذا تبقى رأيا شخصيا باردا فحسب.
أما التكفير الأخطر الذي لم يولَ اهتماما فهو التكفير الحكومي-العلماني. فالدول –والحكومات المستبدة- في عالم اليوم تكفيرية في بِنيتها، لا تقبل الإشراكَ بها في الولاء، ولا الانتقاص من مكانها وجبروتها. فمخالفها كافر، ومطرود من رحماتها ملعون.
فاللعنة – في المصطلح الإسلامي- هي الطرد من رحمة الله. والطرد من رحمة الله أمر لا يملكه إلا الخالق جل جلاله. أما اللعنة الحكومية فهي الطرد من رحمة الدولة، والإخراجُ من الجتمع، والحرمان من المؤسسات والأسرة. فهي لعنة حقةٌ مُعجّلة شرسة. فالدولة إذا كفرتكَ ولعنتكَ (أي عاقبتك على رأيك المعارض) حرمتك من الوجود الاجتماعي، وصادرت أموالك. بل قد تلعن أطفالك الذين لم يولدوا بعدُ بحرمانهم من التعليم والأرزاق والأوراق.
وبهذا يتضح الفرق بين تكفير وتكفير. بين تكفير ساذج لا يتجاوز لسان صاحبه غالبا، وبين تكفير معجل النتائج حاضرِ التفنيذ بقوة السلاح واحتكار العنف.
ولا جَرَمَ أن التكفير الحكومي –في العالم العربي خاصة- أسوأُ أنواع التكفير لاشتماله على البعدين الدنيوي والغيبي. فالدولة إذا كفرتكَ –كما فعلتْ مصرُ مع كل أبنائها المعارضين للسيسي مثلا- لا تقتصر على تكفيريك دنيويا، بل تأتي بعلمائها وفقهائها وتكفرك أخرويا بصيغة رسمية، وبواسطة شيخ يملك صفة المفتي مثلا. فتعجل لك النار في الدنيا وتجزم نظريا بأنك ستصلاها في الآخرة كذلك.
تقوم الدولة التكفيرية –ومعظم الدول العربية اليوم تكفيريةٌ- بممارسة التكفير الكنسي (excommunication ). فهي تفرق بين المرء وزوجه بالقوة. فنحن نذكر إجبارها زوجة جمال خاشقجي على طلاقه. وأنا أعرف شبابا ملعونين حكوميا محرومين من لقاء زوجاتهم وأبنائهم بسبب مصادرة الدولة لجوازات العائلة حتى لا يسافروا ويلتقوا بأبيهم الطريد.
والتكفير العلماني لا يقع من الدولة وحدها بل من الأفراد والمنظمات كذلك.
– فالعلمانيون العرب من عتاة التكفيريين. فهم يطردونك من المحكية الكونية التي يرونها مطلقة ويقينية كأي إيمان ديني آخر. ولذا يرون الخارج عنها بائسا ومسكينا أعمى البصيرة متخبطا في الظلمات.
– والعلماني التكفيري يمارس أشرس أنواع التكفير التي لم يشهدها التاريخ الإسلامي. فهو ممارس محترف للعزلة الشعورية والاجتماعية. فهو لا يجالس مخالفيه ولا يؤاكلهم ولا يصادقهم، ويحاربهم في الأكادميا والحقول الأدبية. ولذلك فالعلماني عموما – والعربي خصوصا- من أكثر الناس ممارسة لعقيدة الولاء والبراء التي ينتقدها على بعض التيارات. فهو إذا رأى خصمه قطب وجهَه وأسرع الخطى وتجنب طريقه. وهذا السلوك أغلظ أنماط التكفير.
– من خصائص التكفيري العلماني محاكمة النيات. فهو دائم الاتهام لخصومه بالنفاق. فهو يتهم منافسيه بأنهم غير مؤمنين حقا بالديمقراطية والحريات؛ ثم يقوم بعد ذلك باحتكارها لنفسه بصيغة غيبية. مع أن سلوكه يفضحه في ساحات الممارسة؛ والأمثلة صارخة من شرق بلاد العرب إلى غربها.
ثم إن التكفير العلماني غير خاضع فلسفيا لسقوف. فالتكفير في الشريعة مزمومٌ بنصوص، ومحكوم بقوانين يرجع لها الفرد مهما تطرف. قد يسرف في تأويلها لكنه لا يستطيع الإفلات منها. أما التكفير العلماني فتكفير دون سدود أو قيود. فلا تحده إلا نية صاحبه، ولا مرجعية له إلا الإديولوجيا السوداء. فلا تستطيع محاججة صاحبه بأي نص، ولا تخويفه من عقوبة أخروية، ولا الاحتجاج عليه بموقف من مواقف السلف يرق له قلبه. فمرجعيته مزاجه وعقده فحسب.
ولذا لم تشهد البشرية في كل تاريخها نتائج كارثية للتكفير كالتكفير الذي مارسه العلمانيون مثل سالتين (قتل 20 مليون) وماوْ (ما بين 20 و40)، وهتلر ولينين، وحافظ الأسد، والسيسي، والقائمة تطول.
وعليه فبنية الدولة قائمة على التكفير بدءا. والبنية الذهنية للعلماني بنية طاردة للآخرة شاكة فيه مكفرة إياه. هي مثل بنية أخيه المتطرف من الجانب المقابل.
فاستعذ بالله من تكفير الحكومات، فهو التكفير المعجل في الدنيا.