“البلاغة كما يراها الجرجاني” :
بعد التأمّلٍ، والوعي الدّقيقٍ، وإعمالِ الحسّ الحيّ النّابِه، والتّدبّر فيما ذكره “الإمامُ الجُرجَانيّ” من أمورٍ ترجِعُ إلى البلاغة والفصاحةِ والبراعة والبيان، حيث عقد لها فصلًا خاصًّا موسُومًا: بتحقيقِ القَولِ في البلاغةِ والفصاحةِ على نهجٍ علميٍّ وترتيبٍ منطقيّ = يتّضِح لنا اتّضاحًا لا يَدَعُ للشّكّ مَجَالًا أنّ البلاغَةَ هي: *”حسنُ الدّلالة”* بأوجزِ تعرِيفِها ومعناها.
ومعلومٌ أنّ الدّالَّ هو اللّفظُ، والمدلُولَ هو المعنى، وأمّا “حسنُ الدّلالة” وتوضيحُها؛ فهو تركيبُ الكلامِ، وتأليفُه على سَبكٍ خاصٍ ونمطٍ رائعٍ؛ بأن تنادي كلُّ لفظةٍ أختَها، وكلُّ كلمةٍ جارتَها مع وَضعِها في موضِعِها اللّائق بها، والمُناسِبِ لها.
وما دام ذلك كذلك فالبَلاغَةُ لن تتأتّى في الألفاظ من حيث إنّها ألفاظٌ مسمُوعةٌ، أو كلماتٌ مجرّدةٌ؛ إذ لو كانت اللّفظةُ الواحِدةُ، والكلمة المُفردَةُ حَسَنَةً ومتمكّنةً في ذَاتِها لكانت حَسَنةً أبدًا أو مستكرهةً وقَلِقَةً أبدًا، بل التّفاضُلُ إنّما يتحقّق في كونِها على تأليفةٍ خاصّةٍ، ونسقٍ جَيّدٍ عالٍ مع سخاءِ معانِيها وشرافتِها وجَزالتِها وسُموّها. -كما سَبقَ بيانُه-
على يقينٍ من المُتكلّم أنَّ كلَّ ما يَستحسِنُه هو من عِبارةٍ ونحوِها لا بدّ أن تكون لها علّةٌ أو داعٍ يَستَدعِي التّفاضُلَ والتفوّقَ والتميّزَ بين كلامٍ وكلامٍ، وعبارةٍ وأخرى، وكلِّ ما شاكل ذلك؛ فإنّك إذا استحسَنتَ شعرَ “عبدِ اللهِ بنِ الطُّفيل بنِ الحارِث” مثلًا:
*تلفّتُّ نحو الحيِّ حتّى وجدتُّنِي*
*وَجِعتُ من الإصْغاءِ لِيتًا وأخْدعَا*
أو فضّلتَ شِعرا على شِعرٍ وقائلًا على قائلٍ= يجب أن يكُونَ استحسانُك له، وتفضِيلُك إيّاه راجعًا إلى تذوّقك البيانِيّ العالي المُتميّز، وناشِئًا من القُوّة التي أودعها الله فِيك، والفطرةَ التي فطَركَ عليها من تَبيُّن الكلامِ الأجود من جيّده، وتخيّرِ الأحسنِ من حسنِه، وانتِقاءِ الأفضل من فضله، (وهكذا دواليك).
وعلى عكس ما ذكرناه أنَّ كلَّ من لم يتنبّه لِلأسرارِ المُودعَةِ في أيّ نظمٍ وشِعرٍ ولم يقفْ عليها أو عِندهَا فقد قتل الفِطرةَ، وأبطل المَعرفَةَ؛ فإنّه من العيبِ القادِحِ أن ترى، وتسمَع ما تُدهِش ولا تَندهش، ولا يكون حينئذٍ مثلك إلا كمثلِ من قيل فيه:
*يقولون أقوالًا بظنٍّ وشُبهةٍ*
*فإن قيل: هاتُو حقّقُوا لم يحقّقُوا*
يتّبع ..