الانتصارُ الهزيمةُ _ قصَّةٌ قَصِيرَةٌ _
أربعُ زوايا تَحْمِلُ بينَ طَيَّاتِها عَبَقَ التَّارِيخِ، وتُغلقُ على نَفسِها حكاياتٍ عمرُها سنواتٌ طوالٌ، أحدُ أضلاعِها يحملُ على جنبِهِ رُفُوفًا حَمَلتْ كُتُبًا عَتِيقَةً، والآخرُ لا يختلفُ كثيرًا عَنِ الأوَّلِ بما يَحْمِلُ إلا بتلكَ الكُؤوسِ التي نَدَرَ أنْ تُرَى باللونِ البرونزيِّ أو الفِضِّيِّ، لاحتلالِ اللونِ الذهبيِّ عَلَى أغْلبِها، غُرفةٌ ذَاتُ طابعٍ كلاسيكيٍّ وكأنَّها مُتأخِّرَةُ زمنيًّا عن بقيةِ غُرفِ البيتِ الذي كَانَ كلُّ رُكْنٍ فيه يَصْدَحُ بالحَدَاثَةِ والإتيكيتِ والمعاصرةِ، لم يكن الجَدُّ (مَاجدُ) ممن تَسْتهْوِيهُمْ مُغريَاتُ التكنولوجيا التي احتلتْ اهتمامَ كُلِّ مَنْ ببيتِهِ كبيرًا كَانَ أو صغيرًا، بلْ كَانَ هذا الهَوَسُ بوسائلِ التقنيةِ واقعًا يحاولُ الجَدُّ الهروبَ منه بأغلبِ تفاصيلِه، حيثُ لم يبق من زمنِه الخالي إلا تلك الغرفة التى لم تكنْ في نظر الأبناءِ والأحفادِ سوى حجرةٍ تُغَرِّد خارجَ السربِ، بعد أن عجزتْ – رغم ما تحويه هذه البقعةُ من كتبٍ وجوائز وشهاداتِ تقديرٍ تُخَلِّدُ اسمَه – أنْ تفتحَ شَهِيَّة أحدِهم، لكنَّ الحالَ كانَ مختلفًا أشدَّ الاختلافِ معَ الحَفيدِ الأصغرِ للعائلةِ (أميرٍ)، والذي كانَ يزورُ جَدَّه بين الفينةِ والأخرى، ويجالسُهُ لساعاتٍ وساعاتٍ دونَ أن يدركَه سأمٌ أو تُغَشِّيه منه نوباتُ مللٍ، وأَنَّى يدركه السأمُ وهوالذي يجدُ أجوبةً مُفصلةً لكلِّ أسئلتِهِ المطروحَةِ الحائرةِ من هذا الجَدِّ الذى لم يكنْ ليتضجرَ أبدًا من فضولِه، لكنَّ سؤالا واحدًا لم يحظ أميرٌ من جَدِّه الحاجِّ ماجدٍ بردٍ شافٍ عنه، وكان ذلك حينَ سألُهُ وهو يشير إلى أحدِ الكؤوسِ وهو مُكفنٌ بِقماشٍ أبيضَ قد تغيَّرَ لونُه إلى اللونِ الرماديِّ بفعل الأتربةِ التي تكدستْ لزمنٍ ليس بالهينِ، وبمرورِ الأيامِ، أصبحَ ذلك الكأسُ الهاجسَ الأكبرَ لدى أميرٍ، وراحَ يُلِحُّ على جدِّه بأنْ يَقصَّ عليهِ قصة هذا الكأسِ، لم يجد الجَدُّ محيصًا إلا أنْ يميطَ اللثامَ عن تلك القصة، وعندئذٍ تنهَّدَ المُصارعُ المُعتزلُ (ماجدٌ) وهو يرفعُ حاجبَهُ الأيمنَ، مصوبًا نَظرَهُ إلى أعلى الرفِّ العلويِّ حيثُ ذلك الكأس السرّ، ثم قالَ : أتُريد أن تعرفَ سِرَّ ذلك الكأسِ يا أميرُ؟ أجابَه أميرُ : نعم، نعم يا جَدِّي أرجوكَ ، قالَها وهو يقفزُ متحمسًا بحماسةِ الأطفالِ الفضوليين. . قال الجدُّ : حسنًا، هذا الكأس قد نلتُهُ بعد أن تغلبتُ على منافسي بنقطةٍ فارقةٍ حينَ أنهيتُ الجولةَ بضربةٍ قاضيةٍ، لكنني ما أن أدركتُ دوافعَ خوضِ منافسي لتلك المعركةِ الضاريةِ بكلِ ذلكَ العزمِ والاستماتة في النزالِ .. حتى ضاعت مني نشوةُ النصرِ وأحسستُ أننى قد انهزمتُ في داخلي. لم يكنْ أميرُ يستوعبُ حجمَ الكلامِ ولا عُمقَ الإحساسِ بالحُرقةِ والغُصَّةِ التي كانتْ تصاحبُ نبرةَ كلامِ جَدِّهِ، غيرَ أنه قد أخذ يهز رأسَه ببراءةٍ صاغيًا باستمرارٍ. – ثم عادَ الجَدُّ يصوِّبُ نظره إلى أميرٍ قائلاً : يا أميرُ، جَدُّكَ قد هَزمَ أبًا كان يُريد أَن يُهديَ ابنَه المُصابَ بالسرطانِ كأسَ الفوزِ، والأدهى أنه لم يطلبْ مني أن أتنحى عن الفوزِ لهُ، بلْ كان صادقاً إلى درجة جعلتْ من انتصاري هزيمةً.