المسألة الإعلامية متشعبة التناول لتوغلها في الحياة و اكتساحها لكل أبعاد الوجود البشري، و لذلك فقضية الإعلام تضع العديد من الأسئلة المثيرة التي تعكس قلقا ما، ذلك بأنها تبث إشكالات تتعلق بقيم الإنسان وحريته وقيم المؤسسة الإعلامية وأهدافها، خاصة إذا نظرنا إلى الأمر من جهة استحالة الفصل بين الإعلام والحضارة الغالبة التي صنعته، والتي جعلت منه أداة تبلغُ بها مقاصدها وأهدافها لأنها حضارة لا تسعى إلى شيء سعيها إلى تعميم نموذجها في العالم بغية السيطرة عليه وممارسة فعل التسلط استنزافا واشتطاطا، والحقيقة أن هذه الحضارة المتغلبة قد توسلت من قبل أن تدرك أهمية الإعلام في بسط هيمنتها بمجموعة من الإستراتيجيات لإعادة صناعة العالم وفق خلفيتها الثقافية ، فم رت بمراحل يمكن اختزالها في الآتي:
1 ـ مرحلة التسلط العسكري:
هي مرحلة استخدم فيها الغرب القوة المادية لفرض نموذجه على الثقافات الأخرى عنوة، لكن ظهور المقاومة الرادعة والمنافحة عن حقها في الوجود الثقافي والحضاري جعلته يبحث عن آليات جديدة لممارسة هيمنته، دون أن يتخلى كلية عن أسلوب هذه المرحلة التي دخل بها إلى الكواليس.
2 ـ مرحلة التسلط العقلي :
هي مرحلة استخدم فيها الغرب القوة الفكرية للإقناع بنموذجه الحضاري، ولا سبيل له إلى ذلك إلا سبيل السيطرة على عقل المغلوب حضاريا ليفكر على طريقة الغالب، فيعمل المغلوب على إعادة إنتاج قيم غالبه الحضارية والثقافية حتى يستمر في فرض هيمنته عليه، لكن ظهور مقاومات فكرية منافحة عن منظومة قيمها الأصيلة جعلتها تخلق وعيا فكريا قادرا على الدفاع عن نموذجه الثقافي والحضاري، مما جعل الغرب يعود بهذه المرحلة إلى الكواليس ليبحث عن وسائل جديدة تضمن تحقيق مقاصده وغاياته.
لقد شكلت المقاومتان السالفتان صدمة قوية للغرب ، إذ إنه بالرغم من كل أنواع التسلط التي مارسها لم يستطع تحقيق الهيمنة التي كان يرجوها ، الأمر الذي دفعه إلى النظر في الأدوات التي تستطيع بها الثقافات الأخرى لملمة ذاتها و إعادة بناء ذاتها لمقاومة القوة المادية و القوة الفكرية الغالبة ، فلم يجد غير منظومة القيم الضاربة بجذورها في عمق المجتمع، ولذلك سعى إلى إيجاد وسائل لتفكيك تلكم المنظومة وضمان استتباع الآخر.
3 ـ مرحلة التسلط الرمزي :
هي مرحلة استخدم فيها الغرب القوة الإعلامية لتسريب نموذجه بشكل ناعم مستعينا في ذلك بقوة الصورة أو الإشارة التي لا تحتاج إلى حدود جمركية تقف عندها، حتى إذا سُمح لها بالمرور مرت، وإلا عادت من حيث أتت، و لذلك فالصورة أصبحت سلطة مطلقة، آمرة غير مأمورة، تخترق كل الحواجز مهما كانت، دينية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو غيرها، لأنها لا تؤمن أصلا بهذه الحواجز، هي لا تستأذن عقيدتك وقيمك و ثقافتك وحضارتك من أجل أن تصل إليك، لقد أضحت لغة كونية استطاعت بنظامها الخاص أن تفكك المخيال الفردي والجماعي للمجتمعات لتعيد تشكيله وفق نموذج الغالب، لكن دون مقاومات، لأنها استطاعت أن تخرب نظام القيم الذي كان يعيد بناء المجتمع وفق ثقافته الأصيلة، لقد استطاعت أن تخاطب اللاوعي الذي تلقى صورا لم يدركها الوعي ليقاومها، تلكم الصور التي مرّت تحت عتبته لذلك لم يرفضها، لأنه أصلا لم يعِها بعد، لقد شُغل بالصورة الجلية عن الصورة الخفية، و هنا مقدرة الإعلام الرهيبة على الاختراق وعلى التلاعب بالمتلقي حتى يغير سلوكه دون أن ينتفض.
المعبر الثاني : بين الإبداع و البدعة:
لقد استطاع الفعل الإعلامي باعتباره مؤسسة عا لمية أن يمارس أقسى أنواع التشنيع على كل من يريد حمل هذا الفعل على احترام السياق الثقافي لكل مجتمع، فيتهمه بأنه ضد الإبداع والحرية والفن وغيرها من المفاهيم التي يبث بها وفيها سفسطائيته وأغاليطه التي يلقيها بعد أن يزخرفها حتى يتلقاها الوجدان والمخيال بالقبول، والحقيقة أن للإبداع مفهوما وحدودا وشروطا إذا توافرت كان الإبداع، وإذا تراجعت كانت البدعة، ولا يحتج علينا بعضهم بكون لغتنا تعتبر الإبداع ابتكارا أو اتيانا للشيء على غير مثال سابق ، ذلك بأن اللغة لا تنظر إلى المعنى المعجمي المجرد، وإنما تراعي في تأسيس المفهوم السياقات المقامية والتخاطبية والتداولية، هذا إن سلمنا بأن مدعي الإبداع من أبناء جلدتنا هم أصحاب اتيان للشيء على غير مثال سابق، لأن ما أ ثبته الواقع أنهم لا يأتون بشيء إلا على مثال سابق، وهذا المثال هو الغرب، ومن ثم فهم مقلدون لهذا الغرب غير مبدعين، وهم ضمانته في إعادة إنتاج نموذجه، وإذاثبت أنهم مُقلدون لزم التسليم بأنهم غير مبدعين .
وبالعودة إلى السياق التداولي الذي تعتبره اللغة في تأسيس المفاهيم، فإننا نجد أن اللغة العربية مثلا يرتبط الإبداع عندها لغويا بالبديع، والبديع هو أحد أسماء الله عز وجل، كما أن البديع هو الجميل، ومن ثم فالإبداع في سياقنا الثقافي لا بد أن يتصل بواضع القيم فضلا عن ارتباطه بأصول القيم، ولا بد أن يتصل بالجمال أيضا، أي إن الإبداع بمقتضى ما سبق لا بد أن يعبر عن القيمة المتصلة بالله تعالى ولا بد أن يعبر عن الجمال .
وفي ضوء المعايير السابقة للإبداع (تحصيل القيمة المرتبطة بالله عز وجل، تحصيل الجمال، الابتعاد عن التقليد)، يمكن تجاوز مغالطات دعاوى الإبداع، ومثاله أن اللص يمكن أن يبتكر طرقا غير مسبوقة في اللصوصية ، ومع ذلك لا يضحى عمله مقبولا لمجرد تلبسه بمفهوم الإبداع، ذلك بأنه إبداع لا جمال فيه، فضلا عن سعيه نحو القيمة المضادة، ومن ثم ينتكس إبداعه ليتحول إلى بدعة.
وقد يعترض علينا بعضهم مدعِّيا أنه لا أخلاق في الإبداع، ولا حدود فيه، وما دمتم قد ربطتموه بالقيمة المتصلة بالله عز وجل فقد قيدتموه بالأخلاق، ولم يعد لديكم مجال للإبداع، حتى إذا أتم صياغة دعواه ذكّرته بالآتي:
أولا: إن ربط الإبداع بالله عز وجل البديع الجميل هو وصل له باللامتناهي، بينما دعوى الإبداع عندكم وصل بالمخلوق المتناهي، ومعلوم أن الإبداع الموصول باللامتناهي هو أحق إبداع و أوسعه، بل هو أبدع إبداع وأحسنه، وهو أكثر ح رية من دعوى الإبداع الموصولة بالمتناهي.
ثانيا: إن الإبداع فعل، و منه الفن مثلا الذي يظهر فيه الإبداع بشكل أوضح، وإذا ثبت أنه فعل، فإن الفعل إما أن يكون خيرا أو شرا، والخير خُلُق، كما أن الشر خُلُق، وإذا كان الإبداع فعلا، فإما أن يكون فعل خيرٍ أو فعل شرٍّ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون الإبداع فعلا خُلُقِيا إما خيرا وإما شرا، فالخُلُقية ثابتة إذاً، وما تغيِّر الآن هو نوع هذه الخلقية، هل هي صفة خير أم هل هي صفة شر، و حاصل ما سبق أن المعترض هو نفسه يقيد دعوى إبداعه بالأخلاق باعتبارها ثابتا من جهة يظن أنه يثور عليها، ولا حرية له أخيرا إلا في اختيار وصف هذه الأخلاق خيرا أو شرا، وبالتالي فإن الإبداع الفني لا ينفك عن الأخلاق، وأن الذين يرفضونها في الفن لا يرفضون حضورها فيه من حيث كونها أخلاقا، وإنما يرفضون حسنها و يدافعون عن سيِّئِها، وعليه فدعواهم إلى فصل الفن عن الأخلاق لا تستقيم لثبوت اعترافهم بالاتصال بينهما، فهم في الحقيقة يفصلون نوعا مخصوصا من الأخلاق هو الإحسان، و يصِلُون نوعا مخصوصا منها هو الإساءة.
وإذا تهاوى ادعاؤهم السالف، تهاوى معه ادعاؤهم تحرير الإبداع، ومنه تحرير الفن، لثبوت ارتباط الحرية عندهم بسيئ الأخلاق.
ثالثا: لا يمكن نفي أي قيمة مؤطرة للإبداع الفني، لأننا حتى لو افترضنا إمكان نفي القيمة الخلقية، فإن القيمة الاقتصادية مثلا تبقى حاضرة ولذلك تشيََّّأ الفن.
وإذا ثبت أن الإبداع انفلت من شروطه عقلا وبيانا، لزم المصير إلى أنه صار بدعة، ذلك بأنها منهج يضاهي الإبداع لكنه لا يحقق مقاصده وقيمه فضلا عن سعيه إلى تحصيل خلاف هذه المقاصد وتلكم القيم، وإذا ثبت أن هناك إبداعا وبدعة، لزم التسليم بوجود حدود بينهما، وإذا سُلمّ بهذا، كان لا بد من وجود حدود لكل إبداع حتى لا يقول من شاء ما شاء، دون ضوابط تسعى نحو التحرير أصلا، وإن كان ظاهرها التقييد شكلا.
رابعا: إن الضحالة في الإنتاج أو دعوى الإبداع هي التي تدفع الضعيف إلى رفع حرية الإبداع أو على الأصح حرية ممارسة الأخلاق في بعدها السلبي، وهذا شكل من أشكال صرف النظر عن واقع تلكم الضحالة التي ما هي في الحقيقة إلا بدعة.
خامسا: الفن يخاطب الحاسة الجمالية في الإنسان، وأي جمال في الفن إذا كان يهبط بالناس من مستوى الإنسان إلى مستوى الحيوان؟ ولا نُغالط بتحقق شرط الجمال، ذلك بأن الشروط السالفة تتكامل ولا تتجزّأ، وتتصل ولا تنفصل، ثم إن الجمال جمالان، الجمال الفاضل وهو الإبداع، والجمال السّافل وهو البدعة.
سادسا: إن الإبداع الفني (الصورة نموذجا) يعتبر أرقى أنواع الإشارة عند كل مجتمع، ومعلوم أن الإشارة مرتبطة بالسياق الثقافي لدى كل أمة من الأمم، وإدخال أيّّة إشارة غريبة عليها وإقحامها في سياقها، هو إخلال بالإشارة الأصل، فضلا عن أن إزاحة الإشارة الأصيلة بالإشارة الدخيلة هو احتقار لإشارة هذه الأمة، ولا يوجد فعل أسوأ في مجال الممارسات من احتقار الناس بعضهم، ومن ثمة فالممارسة الإبداعية الفنية التي تنحو هذا النحو ممارسة مبتدِعة لا مُبدِعة، لكونها تتعمّد فعل الإساءة باعتباره فعلا خلقيا بمعناه السلبي، وحاصل هذا الفعل أن دعاة الحدا ثة يثبتون لأنفسهم ما ينكرونه على غيرهم، ويمارسون الاحتقار للآخر من جهة يدعون
احترامه، وفي هذا السلوك قمة الإجحاف و منتهى الأنانية، لأنه لا يمكن بناء نسق إنساني غايته التعايش والتواصل على أصل الإجحاف والأنانية، وإلا نكون قد عدنا إلى لازم سلوك الطبقية والنّسبِية، وفي هذا الاتيان ارتداد إلى الوراء أو رجعية تستحضر تصرفا تاريخيا تدعي الحدا ثة أنها تجاوزته إلى إقرار سلوك تقدمي حديث، لكنها على الحق تمارس سلوكا ت لا خلّفِيا رِجعيا.
سابعا: يعتبر الوحي أرقى أشكال الإشارة في الحياة عامة، و لدى المسلم خاصة، والعجيب أن الإنسان يأخذ خُلُقه )بضم الخاء( من غير الطريق الذي يأخذ منه خلْقه )بفتح الخاء(، إذ الأصل يقتضي أن الإنسان كما سلمّ بالجهة التي جاءته منها صورته وخِلْقتهُ ينبغي أن يُسلِم بالجهة التي جاءه منها خُلُقه.
صار معلوما عندنا أن الإعلام باعتباره آلية طيعة في يد الحضارة الغالبة يمارس أشنع أنواع الابتداع باكتساحه نظام القيم وتفكيكه للإنسان بتجريده من كل أدوات المواجهة التي كانت تمنحه حصانة ثقافية يناجز بها ذلكم السيل العارم من الرسائل الرمزية ا لتي تحملها ملايين الصور في الساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة، فيجد نفسه أمام قوة خارقة تهيج غرائزه بشكل عنيف ينبهر أمامه وله انبهارا عظيما يظن معه أنه اكتشف ذاته واختار حريته من جهة أنه أنكر ذاته وكرّس عبوديته، وليس ذلك إلا لأن الإعلام يمارس بدعاً يُوهِم أنها الإبداع، فيسعى إلى أسطرة (جعل الشيء أسطورة) نموذج الحضارة الغالبة مفاهِيمِها وقيمِها حتى تترسخ في النفوس والمخيال، فتأخذ قداسة اجتماعية خاصة يصعب زحزحتها، وحينها يتشرّبها اللاوعي، فيضحى أيّ خطاب مباشر عدوانا على العُرف أو على الحق العام المصنوع، لا العرف العام الخُلقي المبثوث في أعماق الإنسان وفطرته.
وإذا كان الإعلام يستعين بالتقنية في غياب أي توجيه من أرقى أشكال الإشارة، فستتسرب إليه قوانين الآلة حتما، إذ يصبح كل شيء مباحا وممكنا، وما دام كل شيء كذلك فلا مكان للأخلاق ولا وجود للحدود، و إذا اتصف الإعلام بذينك الوصفين فسيمسي إعلاما متهتكا وإعلاما متسلطا.
المعبر الثالث: بدع الإعلام أو أدواته التضليلية:
يحتاج هذا المعبر في الحقيقة إلى بحث مستقل لأهميته ولوقوفه عند الآليات التي يمارس بها الإعلام بدعه
التي ألبسها لباس الإبداع حتى يصنع قطيعا لا ينفك عنه ويستديم حمايته ودفاعه عنه، إلى درجة العبث والتلاعب بمشاعر المتلقي واختياراته، و من هذه البدع :
أولا : اختزال الإنسان :
يختزل الإعلام الإنسان في بعده المادي فقط، يحرك لذته حتى يصيره كائنا اشتهائيا عدوانيا.
ثانيا: تطبيع ما ليس طبعيا:
يعمل الإعلام على تزييف الواقع وتنكيره، فيخُرِج الشاذ إخراجا طبيعِيا ويصوره كأنه هو و على ما تقتضيه طبيعة الأشياء وأصلها.
ثالثا: التوهيم بتعدد الإعلام:
تتعدد تشكيلات الإعلام لكن صيغته واحدة، و تتعدد أوجهه لكن هدفه واحد، فالقنوات كثيرة ومضمونها واحد، وهنا تضحى مسألة الحرية الشخصية مجرد وهم، ذلك بأن حرية الاختيار تقتضي تنوعا حقيقيا وتعددا واقعا حتى يكون لهذا الاختيار معنى، أما أن يكون المضمون واحدا والأقنعة متعددة، فالاختيار يصبح بلا معنى، ومن ثمة يقع المتلقي في وهم الحرية ووهم الاختيا ر.
رابعا: التكرار:
مثاله تكرار صورة نمطية معينة حول الأنثى و الذكر، حول العنف والجريمة وغيرها من الصور التي يسعى الإعلام إلى ترسيخها في الوعي واللاوعي، حتى تصبح صورة متقبلة تعمل على تأسيس خلفية ثقافية
جديدة للمجتمع، يقتنع بها ويرى بها أن صورته الثقافية هي ما يراه في الإعلام شكلا وعمقا، وأي خروج عن هذه الصورة يكون شذوذا ومستغربا يستحق الإنكار ولو كان ثقافته الحقيقية التي أخفيت عنه، وهنا يولد الإعلام في المتلقي استهجانا لكل أنواع النقد الموجه للصورة الثقافية التي صنعها (الإعلام)، إلى درجة أن له من القوة ما يمنح بها هذا المتلقي حصانة يرفض بها أية صورة مغايرة للصورة الثقافية المصنوعة، وهكذا يصنع الإعلام المبتدع (إنسانا) مُحصَّنا ورافضا، محصنا ضد الوصل بشخصيته الأصيلة، لهول ما مورس عليه من الفصل عنها، ورافضا للنقد الذي تعتبره الحدا ثة منهجا لها، لكن للأسف لا تمارسه إلا على ثقافتنا، وتشنع على من يمارسه في مجالات أخر وعيا ولا وعيا، وهذه بدعة البدع، إذ إنها تطُالب غيرها بما لا تأتيه، وفي هذا إخلال واضح بشرط المنهجيات والمقاربات.
خامسا: التشتيت:
تسعى هذه البدعة إلى التأسيس لعقلية القطيع بمختلف تجلياتها السابقة، ومثال ذلك تشتيت القارئ حين يُفصل بينه وبين مقروئه بمجموعة من الصفحات المكتظة بالإعلانات قبل أن يصل إلى الصفحة المقصودة، وكذلك تشتيت المشاهد حين يُقطع المشهد لبث مجموعة من الإشهارات التي لا تطلب شيئا طلبها غرس قيم السوق و ثقافته، وهي قيم لا تؤمن بالأخلاق إيمانها بالربح والمال، و لذلك تسحق الصدق لتبرز الكذب، و تمحق الوضوح لتربي التمويهات، حتى يضحى الاستهلاك ثقافة مقصودة لِذاتِها، لا مجال معها للتفكير ولا بالأولى للإبداع.
سادسا: تقزيم النشاط العقلي:
يتجلى ذلك في تسارع إيراد الأحداث وتحليلها وفق منظور صانع الإعلام، ولا قيمة للحدث إلا باليوم الجديد الذي يعيشه الناس، أما حدث أمس فنافد الصلاحية، وفي هذا تفويت الوقت الكافي للنظر والفرصة الكاملة للتحليل، وكأن الإعلام في طلبه للجديد لا يتحرى قيمته مثل تحريه ظرفه، ولا يفسر ما حدث إلا في ضوء يومه، لا من خلال سياقه الزماني والمكاني والحد ثي، مثله مثل الذي لا ينظر إلى العقد في تكامله وإنما إلى حباته منفصلة عن بعضها، وفي هذا إخلالٌ بشرط التكاملية الذي يستحث العقل على اكتشاف العلاقات، وإقرارٌ بمنهج التجزيئية الذي يصدّ العقل عن إدراك المقاصد والغايات.
تلكم بعض البدع الإعلامية الموجودة على محك الإبداع وفق شرائطه القائمة على مقتضى البيان والبرهان، على أمل التوضيح لاحقا لآليات تأسيس إعلام مبدع يراعي سياقنا الثقافي، بقدر ما يتواصل مع السياقات الثقافية الأخرى من أجل المساهمة في إبداع عالم جديد وإعلام حديث يبني القيم ويقدر الإنسان.