ثقب صغير يطل على الكون:
من مدينة وجدة، شرق المغرب أطل وجه صغير.. دبت خطوات تدبج، بالكاد، رسومات طائشة على أرصفة مهترئة.. تحاول -بشغف طفولي- السير في كل الاتجاهات. تحسس الطفل، بأنفه، رائحة التراب التي ستبقى عالقة بحاسة شمه على مدى حياة مليئة بالتأملات والإنجازات التي لم تطوعها الغربة في مهجر العطر والروائح.
طفولة الشيخ كانت، بالمعنى الهايديجيري، شقية وواعية لذاتها وللذوات الأخرى والكون والوجود، لذلك ظل الطفل يحيى تواقا للانعتاق والهرب من منفى الى آخر..
كانت الجغرافيا بريئة وآثمة في نفس الآن.. بريئة بابتسامة الأطفال، وشدا الطيور وزقزقاتها، وغناء الطبيعة وعزفها ألحان الفرح.. وآثمة حينما تبدل الوطن وأصبح غيره و(قد ازداد شحوبا عندما تحطمت صواري مراكب آمالنا فانكفأت وهي تمخر بنا عباب المجهول لتغرقنا فرادى وجماعات في غياهب المستحيل!). هكذا التقطت عين الشيخ (بالمعنى الصوفي)، وعين الصقر (بالمعنى الإبداعي) هذه النقلة من وطن ضال إلى وطن المنفى المجهول.
في حديثه الشجي عن مرحلة الطفولة تحس بيحيى الشيخ روائيا يسرد كل التفاصيل الدقيقة بعين بصيرة، وذاكرة متبصرة. يقف طويلا عند المنعطف الخطير/ مرحلة الدراسة الابتدائية التي كانت المحدد الأساس لحياة الشيخ بأكملها. إلى جانب القسوة هناك المتعة.. التحصيل المزدوج (تقليدي/ عصري). هو الزمن الذهبي الذي صنع شخصية عصية ومقاومة وعارفة إلى حد التخمة الفكرية والإبداعية، حتى أن متلقى الشيخ كمنتج إبداعي أو نقدي يتوق إلى نفس المعاناة، وجبروت التجربة الموشومة، التي بقيت منحوتة في الذاكرة الواعية بأدق الجزئيات، يقول الشيخ: “وشاء القدر مرة أخرى حينما ودعت منفاي الأول في وطني لأعانق منفاي الثاني خلف هذا البحر العاصي، أن أرجع بذاكرتي إلى أرض المنطلق فأصنع لي جسرا أعبر منه إلي”. غالبا ما يكون العبور من مكان إلى آخر.. من ضفة إلى ضفة، أو من ذات إلى ذات، أو من مرحلة إلى أخرى، ولكن الشيخ بنى لنفسه جسرا فريدا سريا يمكنه من العبور الداخلي.. من الذات إلى نفس الذات. إنه أصعب أنواع العبور، وأشده وأقساه، لأنه في أحسن الأحوال لن تخرج بسهولة من منطقة الظل إلى عالم الأضواء، ولن تكتشف، بيسر، الفردوس المبحوث عنه، بل ولن تعثر على نهاية النفق والكوة التي تدلك على بعض شعاع أو ضوء منفلت من قبضة ظلمة جبارة.
طفولة يحيى الشيخ مكتظة بالسمعيات والمرويات المستخلصة من حكايات الجدات والقصص الشعبي والروايات القادمة من الشرق، ومشحونة بآثار الأفعال ذات الإيقاعات المختلفة والمتنوعة، إنها احتفال كرنفالي صاخب.
يحكي الشيخ في “سفر الهجرة” عن طفولته.. عن ذاك الطفل الذي كانه، انطلاقا من سن السابعة: “يتيما في قرية من قرى شرق المغرب، لا أعرف شيئا عن العالم الكبير إلا كونه ما يزال كبيرا فسيحا عريضا ومغلفا بحجب داكنة من أسرار السماء”. لنتأمل هذه المقولة.. فيها الصورة الشعرية الأدبية، وفيها السرد الروائي، وفيها البعد الاجتماعي والصوفي والفلسفي معا.
طفل صغير، وعالم لا حد له. تلك هي المعادلة الصعبة. ليس مقياس الحجم هو الذي يحدد حجم المعاناة، بل مقاييس أخرى: قلة التجربة.. اليتم.. الحرمان.. ذاكرة متقدة.. حاسة قوية.. طفل ليس كباقي الأطفال. يلاحظ ويسجل كل شيء، بعين لاقطة كما عدسة مصور محترف، ليس في مفكرة ورقية، بل على جدران الذاكرة التي شحذها حفظ القرآن والمتون.
في هذه السن المبكرة انتهى إلى مسمع الطفل يحيى اسم باريس ضمن سياق حديث جانبي ودي عائلي، لم يكن ساعتها يحلم أو يتخيل أن هذه المدينة التي لا يعلم إلى أي كوكب تنتمي ستسبح في يوم ما حبيبته التي فيها سيتنفس هواء الحرية والحب.. والتي ستشفي بعضا من جراحه التي ترك الاعتقال وشما غائرا على روحه. جاءته باريس كمتخيل متحدث عنها رفقة صويحباتها: لندن، روما، بروكسل، أمستردام، بون، ستوكهولم. ولكن الطفل الذي سيصبح شاعرا سيميل قلبه وكيانه ووجدانه إلى واحدة بذاتها، تلك هي باريس الأجمل والأبهى، والحميمية التي سيختارها كرسيا لاعترافاته، وستختاره هي عاشقا لها، وستكتبه في سجلاتها وأحيائها ومعالمها التاريخية والأثرية، وفي ذاكرتها الأدبية والفنية والفلسفية كأحد الفاعلين والمتفاعلين مع زخمها وثرائها الإنساني.
سجين برتبة شاعر:
في كل أنواع الآداب متعة، إلا أدب السجون الذي تقترن فيه المتعة بالألم. في أدب السجون نعيش رحلة الحكي مع السارد بطعم العذابات، خصوصا إذا كان الحاكي ضليعا في اللغة، ويعرف كيف يقتنص التفاصيل بكل صورها وآلامها. يحيى الشيخ واحد من هؤلاء الذين اكتووا بنارين: نار الإبداع في مراتبه الراقية، ونار الاعتقال في أبشع تجلياته.
من أين تبتدئ حكاية يحيى الشيخ السجين؟ وإلى أين تمتد؟ ما هي الآثار التي خلفتها، وبصمت بها حياته؟ وكيف استثمر الأديب هذه التجربة أدبيا وشعريا؟
باريس.. ما أحوجني إليك يا ملهمتي.
لما اشتد عود الفتى يحيى وفتحت في وجهه أبواب السجن سهوا، أو نسيانا، أو لغاية ما، لم يجد أمامه غير الهروب إلى أحضان حبيبته باريس التي ارتبط وإياها بعشق سري منذ ذلك الحديث الودي العائلي عنها، وعن مفاتنها وأضوائها ومكانتها المعتبرة. في باريس وجد فردوسه المفقود.. فردوسه الذي عاش في عمقه وقلبه وكيانه. في باريس وجد ما كان يبحث عنه في الحلم والخيال والأطياف القادمة من الماضي ومن الجغرافيا النائية. في باريس عادت له حاسة شم الطفولة فاستنشق نسائم الحرية، وعبق العطر البارسي، وروائح كتب المعرفة المفتوحة على مصراعيها. في باريس بدأ من البداية.. والبداية لم تكن سوى ذاته نفسها. وبما أن الحب والثقافة أخذ وعطاء.. انفعال وتفاعل.. فقد فتح نوافذ وأبواب الحوار بين عاشق هارب من شرق محمل بثقل الطفولة المغتصبة، والشباب المحبوس وراء القضبان، وأحلام مقيدة ومكبوحة الجماح،.. ومدينة هي عنوان الغرب كله. يقول الشيخ: “كل شيء يشدني إليك وإلي، فيحكي لي عن هذا الغرب الذي ضاع مني، وأحكي لك عن الشرق الذي ضاع منك. ما أنا أنت سوى هذا الجسر الذي ما زلنا نبحث عنه في خبايا الأشياء لنعبده، ومتى وجدناه نذكره بأنا ما كنا لنكون لو لم يكن هذا الحلم لنا..”. يذكرني هذا القول بأحلام الكبار من المفكرين والفلاسفة والقادة.
يكتشف يحيى الشيخ أنه يعرف معشوقته منذ أعوام وأعوام، وأنها ساكنة مسامه، وأنه كان يحبها من غير أن تلتفت إلى ذلك قبائل العرب فيصادروا حبا على أجنحة الخيال نما وترعرع في غفلة من الجميع.. حدث كل ذلك من غير أي لقاء مباشر بين المعشوقين. كلما وطئت قدماه رواقا أو متحفا أو معلمة من معالمها الأثرية والفنية والثقافية حكاية إلا وتذكر أن له بها صلة حميمية، وتواصل سري. ويبقى الحي اللاتيني العلامة الفارقة في حياة المريد الذي أصبح شيخا، وأصبح واحدا من رموز الدرس الأدبي الجامعي في السوربون. وهو يخطو بين أجنحتها وممراتها، أو يقف شامخا -كما نخلة العراق- في ساحة من ساحاتها، أو وهو يلقي درسا يتذكر الذين من هنا مروا وبصموا الفكر الإنساني والعالقين بمخيلته: روسو، موباسان، جنيه، جيد، كامي، وسارتر،.. إلخ.
حكاية يحيى الشيخ مع باريس العالمة انطلقت من حديث عنها في مدينة مغربية.. من جغرافيا، وبيئة، ومجتمع معرفة، متشبع بالثقافة المشرقية، والتعليم الأصيل. إلا أن الطفل الذي التقط تفاصيل الحديث بنى عليه حلمه وحبه وحياته، وقرر أن يجعل الشرق والغرب في سلة واحدة، وأن يجعل من المعادلة المستحيلة جد ممكنة. تلك كانت طفولته التي تنبأت بمستقبل علمي عليم.
أما الآن وقد شيد لنفسه اسمه ومقامه، وارتوى من مياه نهر السين، وخبر الثقافة الغربية، وتشبع بالجمال المتدفق شلالات في أوردة المدينة فما عاد يكبر: “وما عدا سيد وقتي.. أخاف أن أشك يوما في هذا الجسر الذي هو أنا بين شرقي وغربي أنا، فيفلت مني ويفلت مني الغرب!”.
الشرق
عواصف العمر:
” عواصف العمر”..
الديوان كما حياة الشاعر لا يحرق المراحل بل يسير خطوة خطوة في تساوق. بدأ بقصيدة: “معاد..!” ليجعلها بداية سفر.. إنها إبحار في اتجاه الضفة الأخرى:
لا تسألي البحار
هل وطأ المهاجر أرض طارق..
في المهجر تتقد الذاكرة وتقلب كل المواجع فتمتزج الحبيبة، في مخيلة الشاعر، بالوطن في قصيدة” لذاكرتي الحلم”:
لحضنك دفء البلاد البعيدة..
هذا المساء
يعبد جسر الأماني القديمة،
بالسر -في محنة- الفجر يفضي
وتختلط الأمور وتتوحد الأضداد فيحضن الحبيبة الدفء والبرد والاغتراب معا، وتكبر المسافات في قصيدة: ” مسافات” ويكبر معها الإحساس بظلم الوطن: “كأننا الطاعون” وكأن هذه القصيدة حد فاصل بين ضفة وضفة لا يربطها غير هذا الحنين الممزوج بالانكسارات والحيرة التي دفعت الشاعر إلى الهرب الدائم من الذات إلى الذكريات في اتجاه غير محدد.. “في رحلة لا تنتهي”:
ها أنت تهجر أرضك الأولى
ستبحث عن بلاد لا تموت..
عن جنة سفلية لا لغو فيها،
عن أناس طيبين وعن قوانين جديدة!
عن وجه أنثى
كي تداعب فيك،
في دمك المقاتل بعض آلام القصيدة..
بعض أتعاب العقيدة
بعض ما في القلب من عشق..
وكأنني بيحيى الشيخ، في هذه القصيدة، أراد أن يقول كل شيء دفعة واحدة.. أراد أن يرسم خارطة مستقبل محددة المعالم. في الديوان كما في الحياة تبدأ رحلة الشاعر الجديدة من باريس ولكن انطلاقا من وجدة الساكنة العقل والقلب والوجدان.. الحبيبة الأولى التي يجول العالم كله ويجرب المعشوقات من المدن والأمكنة ويعود إليها، كما لو كانت محطة استراحة محارب، أو محطة إعادة ترتيب الكون. في قصيدة “وجدة!” يحنش خارطة أخرى يتحكم فيها الاسترجاع الاضطراري كحنين وكتقنية كتابية. من سجن وجدة.. إلى سجن ليالي باريس الملتهبة.. إنها الحرائق المزدوجة.
في قصائد: ما بعد الربيع -تهويد القدس- شتات النفي-آفاق التبعية- توسل-… يتحول الشاعر من شاعر المرأة حيث الحنين والعشق والأوصاف والعواصف والحرائق والليالي السامرة.. إلى السياسي الراصد للانهزامات والانكسارات والخيبات العربية:
ويح الربيع الذي جاء منبطحا
لما تشابه في معمورنا البقر
بل قل “خريف” له في مصر مبدؤه
أما الشآم وليبيا فالأسى قدر!
إنها قراءة شاعر لحلم وطن وئد في المهد.
حرائق العشق الباريسي:
“حرائق العشق الباريسي” قصيدة من أجمل ما كتب يحيى الشيخ شعرا، حسب ما اطلعت عليه من متن شعري، والمتضمنة في ديوانه “عواصف العمر..!” . بل هي من أجمل ما كتب من القصائد الغزلية في تقديري. تبدأ بصورة جميلة كسرت نمطية الصور الشعرية التقليدية:
العشق داء، وأنت الداء مولاتي
فمن يخفف عني اليوم آهاتي؟
لقد اجتمع العشق والحبيبة معا في ضميمة واحدة ليشكلا حلفا عدائيا (بالمعنى الرمزي الشعري).. إنه الداء المضاعف. من الأول يعلن الشاعر أنه ضحية حب، ليس من طرف معشوقة واحدة، بل من طرف كل النسوان.