كلُّ خَلْقِ الله تلغو “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)” {الإسراء}. فقد خَلَقَ الله خَلْقَه وجعل لكلٍّ لغة يُفْهَمُ بها ويَفهم مُشيرا أو مُصَوِّتًا. “حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)” {النمل}.. و لكنَّ هذا الإنسان هو المخلوق الذي منحه الله الطاقة والقدرة على التلوين والتشكيل الصوتي والتنغيم ليكون ذا لغة مُمَكِّنَةٍ من تحقيق غاية الله في خلقه؛ السيادة على تلك المخلوقات، وإننا إن بحثنا في قيمة لغة الإنسان علمنا أن كل ما أنتجه من علم إنما هو فكر “صورة” مرَّ من خلال مادة “كلمة”، كانت وسيلة انتقال صورة الفكر إلى مادته كما يقول المناطقة.
ولغة الإنسان صوتية في أساسها، يجعل منها أداة أو ممرا آمنا يُمَرِّرُ من خلاله دراما تعتمل في نفسه، فتصبح الدراما المعنى والصوت المبنى الذي يحتمل هذا المعنى بغية توصيله لغيره من بني جنسه كوسيلة للتفاهم.
وللكائن البشري قدرة لم تُؤتَ غيره من سائر المخلوقات على التلوين الصوتي -كما أسلفتُ- بما يناسب الدفقات الدرامية المتدفقة من جُبِّه النفسي خارجة لمجتمعه راغبا في إيصالها المحيطين به من أجل التواصل.
والشاعر أعلى المخلوقات البشرية إمساكا بتلك الأدوات و قدرةً على انتخاب المباني الحاملة لدفقات المعاني ليكون الأشد تأثيرا في بني جنسه المحيطين.
وحين أراد الله أن ينزل علمه على البشر اختار لغة العرب كمادة للفكر يحملها ما أنزله من صورة فكر فكانت واسطة نقل العلم الذي هو في الكتاب، وإننا إذا عكفنا على ذلك الكتاب وحده لتقدمنا صفوف العالمين بعلوم غير مطروقة وخُطَىً غير مسبوقة؛ فإن أول دعوة لارتياد الفضاء -مثلاً- أنزلها القرآن فدعا المخلوقَينِ العاقلَينِ إلى ابتكار الأجنحة التي يجوبان بها الفضاء: “يَا مَعْشَرَ الجنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)”. {الرحمٰن}. ووضع القيضَ لبلوغ ذلك ممتثلا في سلطان العلم، ولكنا هجرنا علم القرآن والتفتنا له كتميمة نضعها تحت وسادتنا تقينا هلاوس الأحلام وما وُقِينا لأنا لما نعرف قيمة ما فيه من علم بعدُ، رُبَّما أدركها الأوَّلونَ فسادوا ورادوا وفق ما استنبطوه منه وفقا لمعطيات أعصارهم الخالية.
غاية الأمر كانت تلك نفثة صدرٍ ابتدأتُ بها ما أنا مُتَعَرِّضٌ له من توظيف لبعض أداة “علم اللسانيات” من أجل إجراء تقابُلةٍ بين نصين لشاعرين كبيرين قد أجريا الفصاحة على لسانيهما، وامتطيا صهوة التبيان وجابا سماء الإبداع بما أطلقا من تنسيج شعري مبدع، محاولا تطبيق بعض ما أنظر له على ما أنتجتْ قريحتاهما وأبدعت صنعتهما الشعرية مستخدماً المنهج التقابلي كأحد مناهج علم اللسانيات الحديث.
لقد اخترت أربعة أبيات من كل قصيدة من قصيدتين؛ إحداهما لواحدهما والأخرى للآخر. وقد ينعتني ناعت بأني لن أستوفي ما أنا ذاهب إليه بمجرد أربعة أبيات لكل من الشاعرين، فأقول: فقط إنني أقدم أنموذجا لإحدى طرائق التحليل التقابلي وإن التحليل الكامل للنصين إنما أضعه في علبته لحين انتسابه بنشره بإحدى وسائل النشر الشرعية، متسنِدا على مبدأ: “نقطة من الدم تكفي لمعرفة الفصيلة”.
القصيدتان اللتان حققت عليهما ذلك المنهج التحليلي واحدتهما للشاعر اليمني المبدع (معين الكَلَدِي)، وأخراهما للشاعر المصري المبدع (أسامة الخولي).
يقول (مُعِينُ الكَلَدِيُّ) في قصيدة له بعنوان “شاعر نفسه”:
لم يَكتَرِثْ إنْ جَفاهُ مَن جَهِلَهْ
لم يَلتَفِتْ.. والزَمانُ أرَّخَ لهْ
لم تَعبأ الشَمسُ في سِواهُ وإنْ
عَبَّدَ دَربَ البُزوغِ مَن أفلَهْ
لم تُذبِل الآهُ عَزمَ أحرُفهِ
بل فُتَّقتْ في الجَمالِ بالعَجَلهْ
لأنّهُ الفَردُ لا شَريكَ لهُ
بالشِعرِ..
يَشقى بِنارهِ السَفَلهْ
لأنّهُ التُبّعُ الذي انتهجتْ
بلادهُ القَتلَ..
قَبلَ من قَتَلهْ
يَنالهٌ الصَمتُ..
غيّبوهُ وما
جُبُّ القلوبِ الذي يُرى أمَلَهْ
على السُطورِ الكثيرُ رونَقهُ
والصِفرُ.. لا عابرٌ ولا نَقَلَهْ
كأنني اليُتمُ..
هاكَ من لَعِبتْ
بمالِ قلبِ المَشاعرِ الأكَلَه!
كأنَّني عُزلةُ المُدانِ بلا
جرائمٍ..
سِجنهُ بكى مُقَلهْ
برغمَ ذا..
رَغمهم
أُمرِّغها
أنوف مَن كِبرُهم طغى جَدَلهْ
سأخلقُ الوردَ قَبلَ بِذرَتهِ
مِن طينةٍ بالمجازِ مُشتَمِلهْ
وأنسجُ الضوءَ بالمدادِ غدي
ليَصنعَ الشمسَ شاعراً بَدَلهْ
لم أكترثْ..
عَبقرُ القَصيدِ معي
والليلُ..
ذكرى حبيبنا
طَللهْ
ويقول (أُسَامةُ الخُوليُّ) في قصيدةٍ له غير مُعَنْوَنةٍ:
كادَ يحكي
غيرَ أنَّ الدمعَ شاءْ
واصطفاهُ الرب
فصلًا للشتاءْ
كادَ يمضي
بيدَ أنَّ الدربَ وعْرٌ
كلُّ خطوٍ فيهِ يمشي للوراءْ
كادَ ينسى
إنَّما النسيانُ أطغى
أنْ يريحَ القلبَ منْ ذاكَ العناءْ
مستباحا كلَّمَا يممتَ وجها
نحوَ ذكرى
لمْ تشاطرْكَ النداءْ
في أقاصي الوهمِ شيءٌ ليس يفنى
من حنينٍ
يمنح الناي البكاءْ
يا إلهي
كلُّ ما في الأرضِ منفى
فالتقطني
-إنْ تشأْ-
دونَ انحناءْ
ما وراءَ الصمتِ إلَّا
ما تبقَّى
منْ رمادٍ يستعيدُ الماوراءْ
أسلمتكَ الريحُ أرضا غير أخرى
والحبيباتُ
حكاياتُ المساءْ
كالثَّكالى
يتَّشِحْنَ الصبرَ لونا
ليس في وسْعِ الحكايا أنْ تشاءْ
قاتَلَ اللهُ المرايا
بعنَ وجهي
صرنَ أغبى من طواحينِ الهواءْ
فالتقطني يا إلهي
ا
ل
ت
ق
ط
ن
ي
ليس ظلّي
إنما محضُ انزواءْ
كاد يعرى
إنَّما العينانِ سِترٌ
والأماني ماثلاتٌ للقاءْ
كادَ يهذي
غير أن الحزنَ وحيٌ
والنبيُّ الطفلُ أبهى إنْ أضاءْ
لقد كان همي أن أبحث عند الشاعرين عن انفجارتين شعريتين تنبعان من ذات اللُّجَّة الانفعالية وذات الموجة الموسيقية، أي تكونان ذات انفعال واحد وعلى بحر شعري واحد لما يحققه ذلك لي من تقريب المنُطَلَقِ، ليتم تحقيق التقابل بين الانطلاقين والمرميين، للوقوف على مكامن إبداع كل على حدة، لأقدم للمتلقي وجبة شهية من الإبداع المتنوع وبيان كيف يكون لكل شاعر شيفرته التعبيرية الخاصة التي تجعله طعما وحده لا شريك له؛ إذ يصبح طعمه بصمته الخاصة وإن انطلقا من ذات المنطلق.
وهنا أقف لأقول إن الله قد وهب الإنسان المشاعر جميعاً ولكنه ماز كل إنسان منفردا بأدوات التعبير، فكلنا يحب ويضعف ويقوى ويسامح ويغضب ويستسلم ويقاوم، ولكن ليس كلنا نعبر عن ذات الشعور بذات الطريقة.
منذ زمن وأنا أبحث عند الشاعرين حتى أمضني البحث ولم يتسن لي العثور على تجربتين عند الشاعرين انطلقتا في ذات الموجة من بحور الموسيقى العربية، وفي النهاية عثرت على تجربتين انطلقتا من ذات البؤرة الانفعالية أو تكادان.
لذلك فسوف أسعى إلى تحقيق المنهج اللساني التقابلي متكئا على وحدة المُنْفَعَل، مراعيا فوارق الموسيقى التي لم أُوَفَّقْ في توحيدها بينهما.
تتيح اللسانيات للدارسين إمكانات منهجية متعددة لتناول الظواهر اللغوية وتصنيفها واستخلاص سماتها.
ومن هذه المناهج: المنهج المقارن، المنهج التاريخي، المنهج الوصفي، المنهج التقابلي.
إن المنهج التقابلي إنما هو أحدث المناهج اللسانية والذي يقدم تحليلا بين لغتين أو لهجتين أو مستويين من مستويات الكلام بالدرس العملي بغية الوصول إلى فروق موضوعية بين الطرفين اللذين تبنى عليهما الدراسة، وتلك الفروق إنما هي فروق لا فوارق، فليس من شأني هنا التداخل للمفاضلة فلست في مجال حكم بين متسابقين، وإنما أسعى وراء هدفين:
– الأول: إيقاف البُحَّاث على كيفية تنظيم التحليل التقابلي من خلال المنهج اللساني التقابلي.
– الثاني: إيقاف جمهور التلقي على مصادر إبداع كل من الشاعرين والتي أصبحت شيفرة تحدد ملامح الفلسفة الإبداعية لكلٍّ منهما ومنطلقاته النصية.
ولتحقيق ذلك فإنني سأخوض من خلال أربعة قطاعات:
(١) قطاع الأصوات.
(٢) قطاع الصرف.
(٣) قطاع التركيب.
(٤) قطاع الدلالة.
إن الأبيات الأربعة التي اخترتها من قصيدة (مُعِين الكَلَدي) هي:
لم يَكتَرِثْ إنْ جَفاهُ مَن جَهِلَهْ
لم يَلتَفِتْ.. والزَمانُ أرَّخَ لهْ
لم تَعبأ الشَمسُ في سِواهُ وإنْ
عَبَّدَ دَربَ البُزوغِ مَن أفلَهْ
لم تُذبِل الآهُ عَزمَ أحرُفهِ
بل فُتَّقتْ في الجَمالِ بالعَجَلهْ
لأنّهُ الفَردُ لا شَريكَ لهُ
بالشِعرِ..
يَشقى بِنارهِ السَفَلهْ
أولاً قطاع الصوت:
لا يظُنَّنَّ ظان أنني في هذا القطاع سأطلق العنان في الصوت لدى كل من الشاعرين؛ فهذا لعمري يفسح لي المجال لوضع مؤلفات؛ فالدرس الصوتي ينفسح على أبواب جعلت من الصوت علما قائما يتشعب لعلوم فرعية منها (علم الأصوات النطقي – علم الأصوات الفيزيائي – علم الأصوات المعياري – علم الأصوات السمعي – علم الأصوات الآلي – علم الأصوات المقارن – علم الأصوات التاريخي – علم الأصوات البحت – علم الأصوات الوصفي – علم الأصوات القِطعِيَّة – علم الأصوات ما فوق القِطعِيَّة..).
إنني سأقف على ظاهرة من ظواهر علم الأصوات النطقي والتي تسمى بالصوامت والصوائت.
– فالأصوات الصامتة:
تلك الأصوات التي تحدث مع وجود اعتراض أو تضييق في ممر الهواء فتتولد بخصائصَ معينة؛ إذ يخرج الهواء عبر الحنجرة باتجاه الفم محاولا الخروج، فإذا اعترضه معترض أوقفه أو ضيق مجراه، ولهذا النوع من الأصوات تسميات في دراساتنا العربية كالصحيح والساكن والحبيس، ويقابلها في الفرنسية Consonne.
ومن مميزاتها أنها أقل وضوحا من الصوائت؛ فالصوائت تسمع من مسافة أبعد مما تسمع عندها الصوامت.
– والأصوات الصائتة:
تتحقق عند خروج الهواء مع عدم اعتراض أو تضييق حينما يمر الهواء عبر الحنجرة، فيهز الوترين الصوتيين ويتولد رنين مسموع، ثم تقوم بعض أعضاء النطق بحركات تشكيلية ليس فيها حبس أو تضييق مما يسمح للهواء بالخروج من الفم أو الأنف أو كليهما معا؛ فهو صوت لا يعتمد إلا على الوترين الصوتيين فقط أثناء عملية التصويت. ولهذا النوع من الأصوات تسميات متعددة كالمصوت والحركة والعلة، وهي تقابل في الفرنسية مصطلح Voyelle. وأصواتها -بحسب الدراسات اللسانية الحديثة- تقع في حروف المد الثلاثة: الواو والألف والياء قصيرة وطويلة.
مع ملاحظة أن اعتماد الصوائت على الوترين الصوتيين لا يعني أنها لا تخرج خالية من حركات تشكيلية للجهاز النطقي كارتفاع أول اللسان أو انخفاضه متجها إلى الأمام أو الخلف، وانخفاض الفك الأسفل أو عدمه واستدارة الشفتين أو عدمهما ونحو ذلك.
هنا يقف سائل مباغت؛ وما علاقة ذلك بالتحليل النصي؟ نرد بمثال بسيط كنا نضربه لتلامذتنا حين نشرح لهم كيفية التعبير بالصوت عن الموجات الانفعالية.
هَبْ أن شَابا و شابَّةً في نفس المرحلة العمرية جئنا بهما ولطمنا كلا منهما على وجهه وانتظرنا رِدَّة فعل كل منهما الصوتية تعبيرا عن الألم؛ سيجأر الشاب بأصوات انفعالية تقارب نطق حرف العين، وستئنُّ الفتاة بأصوات تقارب حرف الهمزة، هذا في الوضع الطبيعي..
فإننا إن عدنا لعلم الأصوات الفيزيائي وقسنا سرعة تردد كل من الصوتين سنجد -وفقا لمعيار نطق أحرف القرآن الكريم- أن العين سرعة ترددها في الهواء ٩٤٠٥، وأن الهمزة سرعة ترددها في الهواء ١٥٧٨، وهذا فرق شاسع في قوة الصوت يقارن لنا بين حالة الثورة النفسية العنيفة التي انتابت الشاب وحالة الانهيار والانكسار النفسي التي أصابت الفتاة.
إذاً فصوت الحرف وعاء يحمل الموجة الانفعالية التي يعبر عنها الشاعر، وهو معيار مهم جدا في عملية التحليل النصي.
أعود إلى الأبيات الأربعة التي اقتطعتها من الشاعرين محل هذا التحليل:
أولاً معين الكلدي:
هو في قصيدته تلك يعبر عن شعور الشاعر الحقيقي بالضيق وانفجاره الشديد في وجه ذلك المجتمع المتلقي الذي لا يقدر شاعريته حق قدرها ولا يتلفت له، متهما إياه بالجهل والسفالة والغباء. ومع ذلك فشدة يقينه في شاعريته تجعله منتظرا الزمان ليسجله بأحرف من نور في صفحات تاريخه وليذهب ذلك المجتمع اللامبالي إلى الجحيم.
تلك موجة وجدانية متفجرة كالبركان، وبعد معايشتها ذهبت لإحصاء الأصوات الصائتة والصامتة في تلك الأبيات الأربعة.
ومعين هادئ الطباع أسيفٌ يمتاز بالرزانة والهدوء والجنوح إلى السكينة، وحساب ردة فعله بحسابات عقلية تتسم ببطء ردة الفعل، وهذا الصنف من البشر حين يتحدث لا تستمع في صوته زَعيقا أو صياحا، فانفعالاته غالبا ما تكون للداخل.
ثانيا أسامة الخولي:
هو يشكو في قصيدته حاله وقد رأى الظلم يحيط به ويأخذه من جميع أطرافه وهو يتفجر ألما، ولكن ليقينه بعدم جدوى شكواه احتال إلى الصمت الذي يشبه برودة الشتاء، لقد قرر أن يترك ذلك الظلم المحيط ولكنه مكبل لا يستطيع، فخطاه وارتباطه بذلك المجتمع المحيط تشده إلى الوراء فلا يستطيع فكاكا، إنه يريد أن ينسى كل شيء ولكن النسيان حتى لا يرحمه، فهو أشد قسوة من التذكر، حيث ذكرياته تستبيحه فلا يستطيع الخلوص منها.
وأسامة بطبعه ثائرٌ لا يعرف اللين حين يستشعر ظلما، فيندفع كالموج الهادر والبركان الثائر لا يوقفه حاجز ولا يمنعه مانع من الجهر والجأر بما يعتمل في نفسه بأعلى صوت، لا يهاب نتائج اندفاعاته ضد ما يراه ظلما و كَرَّتِه على الحيف مساندا ما يراه حقا، غير عابئ بخسارته الناجمة عن اندفاعته وكَرَّتِه.
هنا كان لزاما عليَّ أن أعود إلى عنصر الصوت الذي اخترته ليكون لي مولجا إلى هذين العالَمَين النَّصِّيين، وقد اخترت الصوائت الطويلة لما فيها من وضوح الحدود الصوتية، فأحصيتُ في أبيات (مُعِين) الأربعة ١٢ اثني عشر صوتا صائتا، بينما في أبيات أسامة الأربعة ٢٨ ثمانية وعشرين صوتا صائتا. والغريب أنني حين أحصيت عدد كلمات الأبيات الأربعة وجدتها بلغت ٤١ إحدى وأربعين كلمةً متساوية عند الشاعرين، وإذا اعتبرنا الكلمة وحدة اكتشفنا أن كلًّا من الشاعرين قد أطلقا إحدى و أربعين وحدة، أحدهما أتى فيها باثني عشر صوتا صائتا، وثانيهما أتى بثمانية وعشرين صوتا صائتا، أي بما يقارب ضعفين ونصف.
إن لتلك الأصوات -لا مفرَّ- دلالة على طبيعة كل منهما التكوينية والتي انطبعت على على ملامح الشاعر القابع داخل كل واحد منهما.
ذلك ما ادعيته طوال عمري بضرورة الاتكاء في تحليل النصوص على معايير علمية وثوابت مدروسة، يتحقق من خلالها التحليل القويم للنص الإبداعي دون أن يخلَّ ذلك بروح النص النابضة أو يؤدي إلى تفكيك لا يتبع بتجميع فيقفد النص حرارته.
ما زلت أعكف الآن على صياغة القطاعات الثلاثة الباقية؛ قطاع الصرف، قطاع التركيب، وقطاع الدلالة، بعد أن جمعت مادة الدرس حيث ما زال المرض الذي يلازم عيني قائما، مما يجعلني أتحسس إطالة النظر في القراءة والكتابة بأمر الطبيب، فإذا قُدِّرَ لي الإتمام أكون قد وضعت يد الباحث الناقد المفسر على صورة كاملة لتطبيق المنهج التقابلي في تحليل النص الشعري، وإِلَّم أكن قد فتحتُ نافذة لمن أراد تطبيق ذات المنهج، وأكون قد أخذتُ المتلقي أخذا آمنا لعالم كل شاعر من شاعرينا.