كل لغة تحتوي على منظومتها الصرفية الخاصة بها للتعبير عن الزمن وتوقيت وقوع الأحداث المحكية في التواصل الشفوي أو الكتابي، ولكن هنا أركز أكثر على الشفاهي لأنه بالتواصل نعرف مدى قوة اللغة وصمودها أمام عوامل الزمن.
فقد ضرب العلماء كمثال على هذا الاعوجاج في استعمال الأزمنة، ما يقع للغة الصينية حاليا. فرغم أنها لغة كبيرة جدا ويتكلم بها عدد كبير جدا أيضا، إلا أنها فقدت استعمال الأزمنة في التواصل بها. فمن يريد أن يقول متحدثا عن صيغة الماضي يستخدم ظرف الزمان “أمس”، ولو أراد التحدث بصيغة الحاضر استخدم “الآن”، وكذا الظرف “غدا” للمستقبل، مثلا: أشرب الحليب أمس.
وهذا المشكل ليس في اللغة الصينية فقط، وإن كان بصورة أقل حدة في اللغات ذات الأصول اللاتينية مثلا، فالإنجليز اليوم لا تستعمل أزمنة التصريف التسعة في التواصل، بل تختصرها اختصارا ، ولا ترجع إلى القواعد في صيغة التحدث في المستقبل مثلا، فلا يقال: I GO TOMORROW بل مباشرة: أذهب غدا / I WILL HAVE / I WILL BE.
كما نجد نفس الأمر في أغلبية اللغات الأوربية بصور مختلفة ومتفاوتة، في حين نجد أن اللغة العربية الفصحى ما زالت تحتفظ بأوزانها الصرفية العادية وتستعمل الأزمنة بسهولة ويسر، لأنها ببساطة لا تستعمل أكثر من ثلاث أزمنة فقط، يمكن ضبطها ولو في المراحل الدراسية الابتدائية، ليبقى الطالب يستعملها بدون الرجوع إلى القواميس والمراجع فيما بعد.
واللغة الحية هي التي حافظت على أزمنتها الثلاث بوضوح، والتي هي الماضي والحاضر والمستقبل.
كما أن هناك مشكلة أخرى تصيب بعض اللغات، وهي أنها لا تستعمل ضمائر المخاطبين أو الغائبين في الاستعمالات العامة، وأهم لغة أصيبت بهذا الإعوجاج اللغة الصينية كما سبق.
العجز عن تفسير المعاني المتوفرة في اللغات الأخرى:
اللغات تتواصل فيما بينها، وتسمح لبعض كلماتها أن تعبر حدودها إلى لغات أخرى، فنجد كلمات متشابهة في كثير منها. ونفس الأمر يتعلق بالمعاني والمضامين الخطابية والأساليب التواصلية. ولكن الاعوجاج يقع والخلل يظهر عندما لا تجد اللفظ المناسب في اللغة المستقبلة لهذا اللفظ من اللغة الأصلية، وهذا المشكل يقع فيه المترجمون كثيرا، فيصابون بالحيرة في ترجمة بعض الكلمات خاصة من العربية إلى اللغات الأخرى. لهذا نجد أيضا عدة ترجمات لكتاب واحد، وكل كتاب لا يشبه الآخر وكأنهما ليسا نفس الكتاب في اللغة الأصل التي كتب بها.
فكلمة الله لا يمكن ترجمتها بنفس مدلولها إلى لغات أخرى، وكذلك الحمد والرحمن وهيهات وأصبح وأمسى ولغو وطرِب وغيرها كثير، نظرا لعجز اللغات الأخرى عن تحمل هذه المعاني بسبب ضيق معجمها اللغوي وعدم السماح بالقياس كما يفعل اللغويون مع العربية، إذ يرجعون إلى الجذر اللغوي ويقيسون عليه المعنى المراد توليده، فتكون العملية سهلة ويجد اللفظ مكانه داخل المعجم التداولي بسهولة ويسر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عدد الجذور اللغوية في العربية تبلغ 4 ملايين، بينما في اللغة الصينية 200 ألف، وفي الإنجليزية 150 ألفا، بينما لا يتعدى العدد في اللغة الفرنسية 100 ألف جذر لغوي فقط،
وهذا من ناحية الألفاظ فقط. أما من ناحية المعاني والبلاغة، فنجد صعوبة كبيرة في ترجمة الشعر والأعمال الأدبية المفعمة بالمجاز والاستعارات وغيرها من الصور البلاغية إلى لغات أخرى. ونفس الأمر يقع في ترجمة القرآن الكريم، التي تعتبر كلها بعيدة عن المضمون الحقيقي لمعانيه، بل أحيانا نجد أن المترجم عكس معنى الآية تماما ليكرر ما قاله بعض المستشرقين في بعض الآيات ليؤكد مرادهم، سواء كان هذا عن سوء فهم أم عن سوء نية.
وهذا يعني قصر تلك اللغات في معجمها ومنظومتها اللغوية عن توليد ألفاظ ومعاني موجودة في اللغات الأخرى، ويعني عدم قدرتها على مجاراة الزمن ومتطلبات العصر والحضارات المختلفة. وهذا عكس ما نجده تماما في اللغة العربية من إمكانيات هائلة لتوليد مصطلحات جديدة، كما هو الشأن في المصطلحات العلمية في كل فترة وفي كل زمن وعصر. فهذه العملية مجازة ومفتوحة تماما في اللغة العربية، لذلك نجدهم وَلَّدوا عدة كلمات جديدة وأضافوها إلى اللغة العربية بدون إشكالات تذكر، كما نجد في: الطائرة الحوامة، المحرك، الحاسوب، المحاسب، المهندس، الشبكة العنكبوتية، قنوات التواصل الإجتماعي، الإعلام، الصحافة، الإعلاميات، التدبير، التسيير، السياسة، الدستور، الحكومة، الحكامة وغيرها كثير مما لا يعد ولا يحصى، لأن اللغة العربية لغة متطورة ويمكن أن تطور بها ومن جذورها اللغوية مصطلحات جديدة كلما دعت الضرورة.