Home ٱخر تحديث أوريد: إمارة المؤمنين ليست إسلاما سياسيا – منير أبو المعالي
فتحت المناقشات حول إمارة المؤمنين والإسلام السياسي الباب مشرعا لمن هو أولى به، أي الخبراء الذين بمقدورهم تكوين رأي حصيف ومنهجي حول ما تعنيه هذه المصطلحات، دون أن يكون للشوائب السياسية تأثير على الصياغة النهائية لأي روابط محتملة. وحسن أوريد، مؤرخ المملكة سابقا، والكاتب والروائي، من بين الأشخاص القادرين على تكوين صورة أكثر دقة عن هذه المفاهيم. في كتابه الجديد، الذي يصدر هذا الشهر، وعنوانه “السياسة والدين في المغرب. جدلية السلطان والفرقان”، دراسة مستفيضة للأنماط التي عملت بها الدولة كما الحركات الإسلامية في موضوع الدين. وفي هذا الحوار، ينسكب الكتاب نفسه في قوالب الأسئلة المطروحة أخيرا، حول إمارة المؤمنين والإسلام السياسي.
أثير موضوع إمارة المؤمنين وصلتها بالإسلام السياسي أخيرا، في سياق تنافس داخل حزب معين، وطرح ذلك مناقشات عريضة بخصوص المصطلحات المرتبطة به. ولقد كتبت بخصوص موضوع الإسلام السياسي كثيرا. كيف يجب أن نفهم الإشكال المرتبط بالمصطلحات في هذه القضية؟
قبل كل شيء، ينبغي التشديد على أن المصطلح أمر أساسي للإلمام بهذه القضية. مصطلح “الإسلام السياسي” حديث العهد، وقد برز بالأساس في سياق معين في أعقاب 1967، وتداعيات هزيمة مصر، ثم بداية تحرك الشارع في مصر والعالم العربي بناء على مرجعية إسلامية. إن من صاغ مصطلح “الإسلام السياسي”، هم الغربيون الذين كانوا يشتغلون على مصر بشكل رئيس. منهم من الفرنسيين جيل كيبيل وبرونو إتيان، وهذا الأخير من صاغ المصطلح، في مقابل ما سمّاه بـ”الإسلام الشعبي”، وتمييزا عن”الإسلام رسمي”. وبالنسبة إلى الأشخاص الذين كانوا جزءا من الحركة الإسلامية، فهم كانوا يستعملون مصطلحات أخرى، من قبيل “الحركة الإسلامية” أو الإسلام الحركي، أو الصحوة، وفي أحايين أخرى، النهضة. لم يكونوا يستعملون مصطلح “إسلام سياسي”، الذي يتضمن نوعا من الحشو، لأن الإسلام من منظورهم دين ودنيا، فضلا عنه أن مصطلح صاغه الآخر، أي الدارسون الغربيون في سياق ما بعد 1967 ولا يمكن بأي حال، أن يستخدم المصلح لتوصيف ما كان يحدث قبل 1967. لماذا؟ لأن إمارة المؤمنين تمتلك جذورا تاريخية، أو لنقل تجذرا تاريخيا، ولذلك، سيكون من قبيل التعسف، أن نتحدث عن علاقة عضوية بأي شكل كان، بين إمارة المؤمنين و”الإسلام السياسي”. إمارة المؤمنين ترتبط بتاريخ المغرب، كما هي مرتبطة، أيضا، بتاريخ الإسلام. ولسوف يصبح لقب الحاكم أو السلطان في المغرب أمير المؤمنين منذ عهد الموحدين.
لكنك في كتابك تتحدث عن استعمال أو توظيف رسمي من لدن السلطة الحاكمة -بما فيها إمارة المؤمنين- للدين في السياسة؟
أنا لم أستعمل توظيف إمارة المؤمنين للدين، بل قمت برصد الكيفية التي تستخدم بها الدولة الدين. هذا التمييز ضروري. ينبغي أن نلم بكل جوانب قضية إمارة المؤمنين تاريخيا، كي تكون لنا صورة واضحة عما نتحدث عنه. لنشر مثلا إلى أول دستور للمغرب، في عام 1962، أو المسودة على الأصح؛ فهي لم تكن تتضمن مقتضى إمارة المؤمنين، ومن كتب تلك المسودة كما هو معروف، اسمه دوفرجيه (1917-2014)، وكان مستقى أو مستوحى من دستور الجمهورية الخامسة، ولقد حدد تبعا لذلك، صلاحيات الملك بشكل تقريبي لتشبه صلاحيات رئيس الجمهورية الفرنسية، ولم يكن مصطلح إمارة المؤمنين يرد في مسودة الدستور. ولسوف يضاف المصطلح لاحقا خلال المناقشات التي جرت مع الأحزاب السياسية، وكان من الذين أبدوا إصرارا على إدراج هذا المقتضى علال الفاسي، ثم الدكتور عبدالكريم الخطيب. هذه أمور موثقة تاريخيا. كان هذا المقتضى وإن جرى تضمينه في الدستور، ينظر إليه كزخرف قانونيun artifice juridique، لكن سيجري نفض الغبار عنه، وتفعيله كما ورد في دراسة جديرة بالانتباه قام بها مصطفى السحيمي، عندما ظهر وجود فراغ تشريعي بعد نهاية ولاية البرلمان في 1982. فقد ظهر فراغ كان يجب ملؤه، وقد مُلئ بالفعل من خلال تأويل الفصل 19. ومنذ ذلك الحين، لم يعد لمقتضى إمارة المؤمنين مظهر الزخرف القانوني الذي كان عليه فيما مضى. وبالطبع، فإن هذا الفصل كان ينص على أن الملك هو رئيس الدولة والممثل الأسمى للأمة، وأمير المؤمنين. لكن حق السؤال: هل كانت إمارة المؤمنين تاريخيا تختزل في الجانب الديني؟ وأجيب: كلا، إن أمير المؤمنين هو اللقب بالنسبة إلى السلطان، وبمقتضاه يملك سلطة زمنية، ويمارس سلطة سياسية، فهو في نهاية المطاف، وكما توضح الأحكام السلطانية، ذا مسؤولية جسيمة بناء على عقد البيعة الذي يلزمه بحماية الدين، والنفس والمال والعرض والثغور. وهذه أمور لا يمكن حمايتها بدون سلطة زمنية، أو بالسلطة الروحية وحدها.
تطورت الأمور عما كانت عليه في زمن الحماية الفرنسية. إذ أضحت الأخيرة (الحماية) ترى في السلطان سلطة دينية فقط. ومن الضروري أن نثير بأن النصوص القانونية كما الكلمات في المعاجم، تتطور بناء على ما يُسمى في اللسانيات بـ”الانزلاق الدلالي”. لكن تاريخيا إمارة المؤمنين تتجاوز ذلك الانحصار في الجانب الديني الذي أرادته الحماية، ومن أعطاها هذا المضمون هو الجنرال “ليوطي” نفسه، ولديه تعبير شهير، حيث كان ينظر إلى السلطان باعتباره “بابا المسلمين” أو Une sorte de pape.
كان هناك علماء لهم روابط بالحركة الإسلامية، ممن انتقدوا الطريقة التي يجري بها تدبير مؤسسة إمارة المؤمنين من لدن الملك، وربما ذلك من باب تقدير سياسي للطرق التي يمكن بها استعمال أو توظيف إمارة المؤمنين في السياسة..
لقد عملت في كتابي كأكاديمي يسعى إلى أن يفهم. ما حاولت تبرير شيء، ولا قمت بالتجني على أحد. إن سعيي الوحيد هو أن أفهم كيف تطورت الأمور. هناك عدة لحظات وهي موجودة في الكتاب، توضح كيف أن الدولة مثلا، وبالنظر إلى سياق داخلي وخارجي، حاولت أن تتأقلم مع المتغيرات لاعتبارات سياسية، بالأساس. يظهر بشكل جلي في خطاب للملك الراحل الحسن الثاني في 1984، حين تحدث عمّا سمّاه “السلطان والفرقان”، وقد ميز بين ما هو من مسؤولية أصحاب الفرقان، أي العلماء، ومسؤولية السلطان، وهي مسؤولية ممثلي الإدارة الترابية. طبعا، كان ذلك على مستوى التدبير الإداري. لكن هذين الشقين يلتقيان عمليا في مؤسسة الملك أو مؤسسة إمارة المؤمنين. وفي التسعينيات أيضا، وبالنظر إلى سياق إقليمي معين، وحينما طُرحت قضية تدبير الشؤون المرتبطة بالوجدان أو بالدين، فقد كان هناك بين الحداثيين أو اليساريين من يقول بأن المغرب ذو خصوصية، وكانوا يشيرون إلى إمارة المؤمنين على ذلك، ويرفضون أي مقارنة مع أي بلد. ولقد وقع تطور في تلك الحقبة، حتى إن اليساريين الذين لا تصدر مواقفهم من مرجعية دينية، باتوا مؤيدين للقول بأن الشأن الديني ينبغي أن يعود إلى أمير المؤمنين، لأنه ضمانة للاستقرار، وللنأي عن النزاع. أي أنهم يسبلون على إمارة المؤمنين طابعا دينيا. أنظرُ إلى الأمور من الناحية التاريخية، وليس لديّ اطلاع بشأن مواقف كل الأطياف، لكن من المؤكد أن خطاب الملك الحسن الثاني في عام 1984، يؤشر على حدوث تغيير، ناهيك عن أن السياق الذي عرفته المنطقة في التسعينيات حثّ اليساريين، أو بعض اليساريين على أن يجعلوا الدين قاصرا على إمارة المؤمنين. وبالطبع، كان اليساريون ينظرون إلى دول مجاورة آنذاك، وهي تمور بتمزق داخلي بسبب انتماءات دينية أو توظيف الدين.
اليسار نفسه كان يروج بأنه ضحية لتوظيف إمارة المؤمنين ضده في وقت مضى..
صحيح؛ في أحايين عدة كان هناك تلويح بأن يتم تجاوز مقتضيات إمارة المؤمنين، وكانت توظف لوضع حد لما كان ينظر إليه كتجاوزات من لدن اليسار. ومن الناحية التاريخية، فقد حدث ذلك فعلا. وكان التهديد قائما على أنه ليس من الضروري محاسبة اليسار استنادا على القانون الوضعي، وإنما أيضا يمكن الاستنجاد بما تمنحه مؤسسة إمارة المؤمنين لوضع حد لما كان قد ينظر إليهم كتيارات هدامة ومفسدين في الأرض أو ضالين مضلين يبتغون الفتنة. لكن اليسار تغير، أيضا، لأن الواقع تغير. الواقع الوطني على سبيل المثال لم يعد كما كان، فقد حدث انفراج وطني ووضع دستور جديد، سنة 1996 كما أن السياق الدولي لم يكن ملائما لليسار، فتغير خطابه. وكان من اليساريين -وليس وحدهم على كل حال- من كان يرى في إمارة المؤمنين خصوصية مغربية، وسرى الحديث كما كان يقال، عن الاستثناء المغربي، حتى لا تجري مقارنة بين المغرب ودول أخرى في الجوار.
ربما، أيضا، كان لتغير قناعات اليسار بشأن إمارة المؤمنين سبب آخر دفعه إلى التحالف مع السلطة في هذه القضية، أي ذلك الزخم الذي باتت تكتسبه الحركات الإسلامية. ألا تعتقد أن دعاية اليساريين بخصوص إمارة المؤمنين لم تكن سوى استنجاد بالسلطة ضد الإسلاميين؟
هذا تحصيل حاصل. لكن ما يهم بغض النظر عن السياق الخاص للمغرب، هو أن الأفكار نتاج واقع متحول. المجتمعات أجسام حية. الأفكار لا تبزغ في دائرة مضاربات ذهنية مغلقة. الواقع هو من يصوغ الأفكار والمواقف، ولقد تطور الواقع. إن ما نعيشه الآن، أو المواقف المعبر عنها من هذا الاتجاه أو ذاك لهو من صميم تطور الواقع عينه. الحركة الإسلامية الآن، ليست هي الحركة الإسلامية قبل عشرين سنة، لأن واقعها الحالي قد تطور عما كان عليه، ومواقعها تغيرت، وطبيعة الصراع أو التناقض الأساسي والثانوي قد تبدل، أيضا. وبتعبير آخر: من هو المؤثر؟ إنه العامل السياسي وليس العامل الديني. إن الثابت هو الصراع السياسي أو ما قد يسميه البعض تدافعا سياسيا، فيما العلاقة مع الدين أو فهمه، فإنها تبقى أمرا قابلا للتطور، أي أنها المتحول.
يبدو أن هناك فرقا إذن، بين إمارة المؤمنين، وبين تدبير الدولة للمجال الديني.. الدولة نفسها التي من الواضح أنها توظف الدين في صراعات ذات طبيعة سياسية. هل يمكن توضيح هذا التمايز بين المنهجيتين؟
يفترض هذا في المرء أن يكون في موقع معين، إما أن يكون داخل مؤسسة رسمية، وإما أن لديه موقفا مناوئا من المؤسسات الرسمية. وأنا لست لا هذا ولا ذاك. في كتابي، أرصد فقط، ما حدث ويحدث. ولا يمكنني أن أحدد ما ينبغي أن يكون، بل إن مهمتي محصورة في رصد ما كان. ولسوف أسعى إلى تحديد الطريقة التي تطور بها مفهوم “إمارة المؤمنين” تاريخيا، بينما لم يكن ممكنا الحديث عن الدولة قبل 1912، أو قبل في 1956، لأن معالم الدولة بدأت تتشكل عقب الاستقلال. وبالطبع، فالدولة في سياق جديد سعت إلى التأقلم. ولقد سعيت إلى العثور على مفهوم بهذا الخصوص، كي أُلم بسياسات الدولة في هذا الاتجاه. فأنا لم أكن أحاول القيام برصدٍ أو مونوغرافيا لأعمال الدولة في هذا الصدد، وإنما كان يتعين عليّ أن أضع سياسة الدولة، ضمن فلسفة أو توجه، أي أسكبها في قالب، فاعتبرت بأن الدولة بعد عام 1965، قامت بما سميته “استحداث التقاليد” لمواجهة خصم موجود. وبطبعة الحال، فإن هذا المفهوم له تاريخ، وتلجأ إليه تنظيمات معينة كل مرة وجدت نفسها إزاء خصم معين. هناك من الباحثين من صاغ مصطلح أصولية الدولية، كما فعل الدكتور سليم حميمنات. ولا أدري إن كان المصطلح موفقا، لكن سليم حميمات، أفرد للأمر دراسة مستفيضة، تحدث عما ـ سمّاه أصولية الدولة، في عهد وزير الأوقاف السابق المرحوم عبدالكبير المدغري، وهي سياسة تستند على مقاربة نسميها إرادوية Volontariste، أي ما تمثله من انخراط فعلي للدولة في الشأن الديني.
ما يهم على كل حال، هو أن صلة الدولة بالدين في عهد الحسن الثاني، قد تطورت عبر مراحل. إذ بدأت بتلك التي سميتها بـ”استحداث التقاليد” في عام 1965، ثم كانت في عام 1984 سياسة دينية جديدة، من أجل الضبط. فالسياق الذي بدأ يبرز في التسعينيات، والتوتر على الصعيد الإقليمي، وقد بات بارزا حينها، بدا خطاب الدولة وفلسفتها يميل أكثر نحو الحداثة. وفي اعتقادي، فإن السلطة في عهد الملك محمد السادس، كان هاجسها الرئيس هو التحديث، وقد كان من الواضح أن تحديث الإسلام شكل أولوية أيضا. إنني أرصد تطورات الواقع مستندا في ذلك إلى قاعدة رئيسة، وهي أن الأفكار تتطور بفعل ضغط عوامل داخلية وخارجية.
عندما “تحتكر” إمارة المؤمنين الفعل الديني، ماذا سيتبقى للحركة الإسلامية إذن؟
في فترة معنية، في الستينيات مثلا، كان الحقل الديني حكرا على الدولة، وكان يُنظر إلى الإسلام كعنصر أساسي لدرء الاتجاهات الاشتراكية والقومية العربية، وكان هذا الاتجاه هو الساري بالنسبة إلى الأنظمة العربية المحافظة مثل العربية السعودية، وحتى بالنسبة لمن هي ليست عربية كباكستان.
لكن تغيرت الرؤية بعد الثورة الإسلامية في إيران، حيث تغيرت النظرة إلى الإسلام نفسه. في أدبيات سيد قطب، وكان مؤثرا على كافة الحركات الإسلامية، سواء تلك التي كانت تريد أن تنخرط في منظومة الدولة أو التي تناوئها، كان هناك تمييز بين الإسلام الحركي، وبين ما كان يسميه بنوع من الاستهزاء بـ”الإسلام الأمريكي”. وبالنسبة إليّ، ومن أجل أن أفهم تموقع كل طرف، فقد انتهيت إلى أن غاية الدولة هي تحديث الإسلام، وهاجسها هو الحداثة، بينما كانت الغاية بالنسبة إلى اتجاهات أخرى مثل جماعة العدل والإحسان، هي”أسلمة الحداثة”. أما حزب العدالة والتنمية، أو ما سيصبح عليه لاحقا، فقد كان يقف في منزلة بين منزلتين، فهو قد صار يؤمن على كل حال، بالتحديث، لكنه يؤمن في نهاية المطاف بأسلمة الحداثة، وذلك على الأقل داخل بعض أجنحته، ويفترض ذلك بعض الجهد البراغماتي للتوفيق بينهما. وحتى الآن، فقد نجح الحزب في أن يُوفق بين هذه العناصر. وبتعبير آخر، إن الإسلام حمّال أوجه، وبينما يوجد من ينظرون إليه كأساس لأسلمة الحداثة، يوجد آخرون ممن يعتقدون بأن ما يجب فعله، هو أن يسكب الإسلام في الحداثة.
تحدثت في كتابك، عن أن حزب العدالة والتنمية تبدل كثيرا بعد 2011.. وأسلوبه البراغماتي قد جعله أبعد من الظهور كحركة إسلامية أو إسلام سياسي..
هو جزء من الحركة الإسلامية. لا يمكننا أن ننكر ذلك. وقد تطور بالنظر إلى ديناميات داخلية وسياقات وطنية وسياق إقليمي كذلك. أنا لا أقول بأن ما حدث أو يحدث له أمر جيد أو سيئ، لكنني أريد التوكيد على أن التطور لا يحدث فقط، بواسطة التنظير فحسب، بل وأيضا بناء على الواقع. ولقد تطور حزب العدالة والتنمية بهذه الطريقة، ونلحظ ذلك في قضايا عدة: إن الهاجس الأخلاقي لم يعد يشكل أولوية مهيمنة، وحتى علاقة الحزب مع الأطراف الأخرى قد تغيرت، سواء أكانت الدولة أو أطرافا أخرى. ومن الضروري أن نقر بشيء أساسي: إن الهيئات كائنات حية، وإن أطروحتي تقف عند التناقضات التي تفرز واقعا جديدا ينحو إلى التحديث. والحال أن حزب العدالة والتنمية لم يعد يذكر حتى في أدبياته، عبارة “حزب إسلامي”، بل يكتفي بالقول إن لديه مرجعية إسلامية. والنتيجة التي أخلص إليها: إن هناك مدا معينا، وسواء أحببنا ذلك أم لا، ينحو نحو التحديث السياسي، ومن أدوات التحديث وبطريقة لا واعية، الحركة الإسلامية نفسها، في اتجاهاتها الكبرى. وفي اعتقادي، فإن هذا أمر مهم، يجافي وجهة نظر أولئك الذين كانوا -ومازال بعضهم كذلك-، ينظرون إلى الحركة الإسلامية كشيء مناف للتحديث. إن الحركة الإسلامية عنصر من تشكيلة العناصر المؤدية إلى التحديث السياسي. هذه هي أطروحتي بشكل ملخص.
يظهر أن الذين ينظرون إلى الحركات الإسلامية كشيء مناف للتحديث، هم أنفسهم الذين كانوا فيما مضى ينظرون، أيضا، إلى إمارة المؤمنين ذاتها كشيء مناف للتحديث، أو لتحديث الملكية، كذلك..
الناس يصدرون أفكارا هي بدورها تصدر من واقع متغير؛ فقد ننظر إلى المسألة كتحايل، أو كتناقض، ولكنني شخصيا، لا أنظر إلى المسألة من منظور أخلاقي، بل أنظر إليها من قاعدة ثابتة، وهي أن المجتمعات تتطور، وهي من تصنع التوجهات. إننا نعرف موقف اليسار مما كان يعتبر “مخزنا”، وكانت هذه التسمية تُستعمل في سياقات قدحية لأنه استعارة لمفهوم الحماية الفرنسية عنه. إن اليسار تطور لأن تغييرات عالمية وداخلية فرضت عليه ذلك. ولقد سقطت نظرية التدبير في الاقتصاد، ولسوف تُراجع أحزاب اليسار نفسها تبعا لذلك. لاحظ معي: بعد سقوط برلين مثلا، فإن حزب التقدم والاشتراكية أجرى محاسبة ومراجعة لنفسه، وقد حصل ذلك، أيضا، في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. لا ينبغي أن نغفل في هذا الصدد، ما يشكله تطور الأجيال من تأثير، فقد برز جيل جديد في التسعينيات، لم يعرف الحدة التي كانت بين المؤسسة الملكية وبين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وفيما بعد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. المجتمعات تتطور، وهذه قاعدة في التحليل، ولا ينبغي الحكم على ما يحدث من تطور في المواقف بالاستناد إلى مرجعية أخلاقية. ثم إن التناقضات ليست بالضرورة شيئا سلبيا، بل بمقدورها أن تفرز إمكانيات جديدة للتغيير. وأحيل دوما إلى مفهوم الأزمة في الاقتصاد. ذلك أن الأزمة هنا ليست شيئا سلبيا، بل هي تشير إلى معضلة، لكنها تفترض “باراديغم” جديد لتجاوزها. فالتناقضات التي تحدث، هي بالأساس، مؤشر أو أرضية مشتركة لتصور جديد، وهو ما يحصل الآن، سواء بالنسبة إلى الدولة أو الحركات الإسلامية. إن كافة التنظيمات التي استندت إلى الإسلام أو وظفته انتهت إلى مأزق، ونرى على سبيل المثال، سياسة الدولة منذ بدء حكم الملك الحسن الثاني حتى نهايته، كيف تطورت، وكيف أن الخطاب الرسمي للمؤسسة المتسم بإحالات دينية مغرقة في التقليد، تحول به الحسن الثاني إلى خطاب حداثي. ويمكن قول الأمر عينه بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، فهو وإن كان قد بنى مرجعيته لفترة على خطاب أخلاقي، فإنه قد واجه تحديه الخاص عندما طالب بالانغمار في المنافسة على تدبير الشأن العام، والحال أن هناك واقعا قائما، وخيارات قارة للدولة، وارتباطات دولية، وواقعا مجتمعيا. هذا المأزق هو ما يفرز التحديث.
يلاحظ أن الملك نزع في خطبه في 2003، أو ابتداء من ذلك العام، على أن يتحدث كأمير للمؤمنين، لكن، أيضا، بربط مشروع الإصلاح الديني بما يُسمى بـ“المشروع الحداثي والديمقراطي“. هذا مشروع ليس ضمن جدول أعمال الحركة الإسلامية بالمغرب..
إذا فهمت ما ترمي إليه، فإن الهاجس الأول للسلطة الذي كان هو الانغمار في الحداثة، وهذا أمر كما يُقال، لا ينتطح فيه عنزان، أي تحصيل حاصل. وحينما نفحص الخطاب السائد، فإن العنصر الأساسي البارز فيه ومنه هو الحداثة، وقد قلت إن فلسفة الدولة تندرج ضمن ما سميته “تحديث الإسلام”، أي الانطلاق من الحداثة المثقلة بإكراهاتها، وبما تطرحه من تحديات. ولقد كان ضروريا بذل الاجتهاد لتطويع النصوص كي تواكب الحداثة. كان هذا هو هاجس السلطة، وهو واقع.
وبالطبع، وفي سياق معين، ولاعتبارات سياسية، كان الخطاب المتعلق بـ”المشروع الحداثي الديمقراطي” يمثل إحدى الأدوات لدرء اتجاهات أخرى من معين إسلامي. ومن الناحية الأكاديمية، فإن هذا يطرح مشكلة، لأنه لا يمكن تحديد الحداثة كرد فعل. ولفترة، وفي الغرب على الأقل، كانت الحداثة تفهم كما في التجربة الفرنسية بشكل رئيس، كقطيعة مع الدين، أو كقطيعة مع التقاليد بما فيها الدين. وبهذا المفهوم، من الواضح أن يحدث تناقض لدى منظومة لديها مرجعية تاريخية. وما أَوحيت إليه في كتابي، هو أن المجتمعات تصوغ فهمها للدين؛ حيث النصوص أو الأديان، وأقصد تحديدا المعاملات وليس العبادات، حمّالة أوجه، أي تنطبع أو تتأثر برؤية المجتمعات. إن النصوص ليست صخورا صماء، ولا يمكن أن نختزل دينا ما، فقط في نصوصه الدينية، ولكن في فهم المجتمع للدين. وبتعبير آخر، وبشكل ضمني، فإني أقول: من الممكن التوفيق بين الحداثة وبين الدين، أي على خلاف طرح كان متحمسا لمنظور يرى بأن الحداثة لا يمكن أن تقوم في نهاية المطاف، سوى بمناوءة الاتجاهات التي توظف الدين. وهذا الفهم يبدو لي أنه توارى. ولاحظ معي: لم يعد هناك حديث الآن، في الخطاب الرسمي، عن “المشروع الحداثي والديمقراطي”. وفي اعتقادي، فإننا إزاء نبرة أخرى، لأن المجتمعات كما الهيئات تتطور، لكن في فترة معينة، كانت فلسفة الدولة بخصوص “تحديث الإسلام”، قد ربطت نفسها عن قصد بعنصر مكمل هو”المجتمع الحداثي والديمقراطي”، وهو تعبير ضمني عن مناوأة اتجاهات معينة.
تحدثت في كتابك عن الطريقة التي تحكم بها الأمنيون في المجال الديني.. هل كان ذلك بالفعل بغرض صيانة الدين نفسه والوحدة المذهبية للبلاد؟
موقفي لا يهم، وإن كان ضروريا أن أعبر عنه سأعبر عنه. لست لا في المدرسة التي تنطلق من أسلمة الحداثة، ولا من مدرسة تحديث الإسلام، بل إنني أنطلق من منظوري من تحديث المغاربة. تحديثهم هو الذي من شأنه أن ينطبع في تحديث كل من الدين والدولة. فيما يخص الموضوع الذي أشرت إليه، يمكنني أن أستشهد من الناحية الأكاديمية بباحث قدير هو “محمد ضريف”، حيث يرى أن قضية الإسلام السياسي ليست مسألة يُنظر إليها من زاوية دينية، لأننا لا نتحدث عن الأحكام الشرعية وموجبات كذا أو كذا، أو الحلال والحرام، بل إننا نتحدث عن كيفية توظيف الدين في السياسة، أي من خلال هذه الثنائية فقط. وقد تطورت الأمور ليقوم ضلع آخر وهو الأمن في هذه العلاقة. وهذا الموضوع ليس قاصر على المغرب، فالتنظيمات ذات المرجعية الإسلامية ينظر إليها في عدة دول من منظور أمني، وبطبيعة الحال، فهذا المنظور يزاوله أمنيون بطبيعة الحال. هذا واقع، وقد أشرت إلى ذلك في فصل في كتابي يتعلق بالسلفية، لأننا هنا لا نتحدث عن ثنائية سياسي/ ديني، ولكننا كنا إزاء ضلع ثالث، هو الأمن. ومن العمى القول أن نقصر النظرة إلى ثنائية ثقافية أو سياسية، بل إن المضاعفات الأمنية لا يمكن إسقاطها من الحساب، وعندما نقول ونقر بهذه المضاعفات، فإننا نقر بوجود أمنيين لديهم دراية وتتبع لهذا الملف.
ماذا يحدث إذن، لجماعة العدل والإحسان مع السلطة؟ دعني أذكرك بأنك عندما كنت محسوبا على السلطة، أجريت محاولات وساطة، إذا جازت العبارة، لكنها لم تسفر عن شيء.. هل ترى أن هذه المشكلة ما زالت مفتوحة على الزمن؟
أول شيء، لا ينبغي تضخيم دوري -هذا إن سمي دورا- هي محاولة، نعم، فهذه حقيقة لا يمكن نكرانها، وقد التقيت بعناصر من جماعة العدل والإحسان، وبالطبع، وفي وعي مني بأن الجماعة تنطلق من مرتكزات معينة ولديها توجهات معينة. قد أكون ساذجا، ولكن لست من السذاجة المطلقة كي لا أدرك التضارب الموجود بين العدل والإحسان والمنظومة القائمة. ولكن بغض النظر عن هذه الجوانب، فقد كان هناك واقع آخر، وهو الذي يهمني أن أتحدث عنه، وهي وضعية لا تتوفر على أي سند قانوني، وهي وضعية الإقامة الجبرية على المرحوم عبدالسلام ياسين. وبالنظر إلى سياق واعد، ولوجود وضع نشاز مشابه يتعلق بالمرحوم أبراهام السرفاتي، الذي فرض عليه النفي، وجُرد من مغربيته، فقد كان من الضروري تصحيح وضع النشاز المرتبط بعبد السلام ياسين. هذا ما كان مهما حينها ولو أنه لم يُفض لشيء. وقد كتبت مرة في 1997 أو 1998 في مجلة “لوجورنال” حول القضيتين، ولقد كانتا هاجسا لديّ. لكني مع ذلك، فأنا على علم بالمنطلقات الموجودة عند جماعة العدل والإحسان،، وأعتقد أن لا حاجة للمرء أن يكون عالما أو علاّمة كي يدرك بوجود تضارب بنيوي بين جماعة العدل والإحسان والمنظومة، في المنطلقات، كما في المآلات.
يعني لم يكن يجب توقع شيء أبعد من تصحيح وضع شاذ. لكن هل ترى أن المشكلة بين جماعة العدل والإحسان والدولة ستستمر؟
إذا لم يحدث عامل خارج التوقعات، أو عنصر جديد، فإني لا أرى أي إمكانية لحدوث تغيير. وهذا العامل الجديد بطبيعته، لا يمكن توقعه؛ فأنا لا أرى بأن جماعة العدل والإحسان ستغير من منطلقاتها ومآلالتها، كما لا أرى بأن المنظومة ستغير من مرتكزاتها.
هناك على خلاف هذا، تغيير منظور في مكون تلبس “المشروع الحداثي الديمقراطي“، أي حزب الأصالة والمعاصرة. لقد أصبحنا نسمع نبرة جديدة ومغايرة إزاء حزب العدالة والتنمية، وكأنه بصدد تحول من النقيض إلى النقيض.
لست ضليعا في الموضوع، لكنني أتابع ما يجري. ويمكنني القول إن الحزب ككل لا يسير وفق هذه الرؤية، بل تمور داخله اتجاهات. فالحزب لم يفرز بعد قيادة، ولقد قرأت أن مرشحا قال إن غاية وجود الحزب هي مناوءة اتجاه معين. وقرأت، كذلك، قولا منافيا من قيادي في الحزب. ومن المؤكد أنه في سياق معين، وأحيل في ذلك إلى حوار على قدر كبير من الأهمية للسيد فؤاد عالي الهمة لمجلة “تيل كيل”، مضمونه الرئيس، هو وجود مشروع سياسي له معالمه، وهو المشروع الإسلامي، في مقابل وجود اتجاهات متفرقة لمشاريع أخرى. وهو بناء على ذلك، يعتقد بوجوب تقديم عرض سياسي جديد. هذا قول مشهور للسيد عالي الهمة، وهو يعبر بكامل الوضوح، بأن للحركات الإسلامية منطقها، بينما ليست هناك اتجاهات أخرى تقدر على أن تقدم عرضا قادرا على المنافسة، ولسوف يرى في هذا منطلقا ليمنح نفسه الشرعية ويقدم عرضا. لكن من المؤكد، أن مياه كثيرة جرت تحت الجسر، لأن التنظيمات السياسية تتطور، وحزب الأصالة والمعاصرة اليوم، ليس هو الحزب نفسه كما كان قبل عشر سنوات.
ربما حتى اضمحلال أو تواري “المشروع الحداثي الديمقراطي” من الخطاب الرسمي دفع إلى ذلك..
من المؤكد. ولو أنني حاولت أن أتجرأ بالقول في كتابي بأن هذا المصطلح من العسير أن ينسكب مع طبيعة المنظومة. المؤسسة تدبر التناقض، وتعرف الجانب الأساسي المتعلق بالتقاليد، ولذلك، لا أعتقد أن هذا المصطلح نبع من طبيعة المؤسسة، بل هو مصطلح دخيل، وهو ما يفسر تواريه من الاستخدام أخيرا.