“اقرأ” كتاب مدرسي ترسّخ في أذهان تلاميذ مغرب فترة الخمسينيات إلى السبعينيات، كتاب طُبع في ذاكرة مغرب ما بعد الاستقلال وصار تراثاً مغربياً أصيلاً، كُتب له البقاء حياً مواكباً لعدة أجيال، صمدت أوراقه أمام موجة تأليف الكتب المدرسية. “سروال علي الثرثار ومحب الاختصار”، “زوزو يصطاد السمك”، “أحمد والعفريت”.. قصص من سلسلة كتب “اقرأ” وسمت ذاكرة المغاربة، ولا يزال الكثير من الشيوخ يتذكرونها بنوعٍ من الحنين الطفولي، بل إن تأثير سلسلة كتب “اقرأ” أرخى بظلاله على المشهد السياسي المغربي، فصار السياسيون ينعتون بعضهم البعض بالتماسيح والعفاريت، نوستالجيا الزمن الجميل تجر المغاربة للافتخار بكونهم خريجي مدرسة أحمد بوكماخ، فمن هو هذا الرجل الذي ظل حياً في قلوب المغاربة بكتبه؟
رغم أن أجيالاً من المغاربة تربت على يد كتبه فإنه نادراً ما تجد شخصاً عرفه عن قرب وعرف المسار الذي كابده في سبيل كتاب مدرسي مغربي يملأ الفراغ الثقافي الذي خلّفه الاستعمار الفرنسي، هو أحمد بوكماخ وُلد بطنجة، ولادته غير مضبوطة، يُرجح أنه وُلد مطلع العشرينيات، يتيم الأم، اشتغل مع أبيه في التجارة، استغل مكوثه طيلة اليوم في دكان أبيه بالقراءة والمطالعة وأتم دراسته بمدرسة الجامع الكبير في طنجة قبل أن يصير معلماً بها.
خرج الاستعمار من المغرب تاركاً إياه منهوك القوى اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.. فحمل بوكماخ على عاتقه مسؤولية التأسيس لمرحلة انتقالية سلسة تتماشى مع الظرفية، وتؤمن لتلاميذ المغرب معرفة علمية لغوية تمتاز بكلمات تعبيرية وذوقية وتشبعهم بالقيم والمبادئ المقتبسة من القصص المتداولة آنذاك.
وتروي أخته رشيدة بوكماخ أنه كان يتساءل عن ماذا يمكنه أن يفعل وهو يرى طفلاً في القسم الأول يحمل 8 كتب في السنة، وكما أن كثرة الكتب كانت ترهق جيوب المغاربة وظهور التلاميذ وأصابع المعلمين من كثرة التصحيح، كل هاته العوامل حفزت أحمد بوكماخ لتأليف مجلد واحد يجمع فيه سائر المواد حارصاً أيضاً على أن يكون هناك ارتباط بين كل المواد من حساب ومبادئ الخط والقرآن الكريم.
فألف سلسلة “اقرأ” المكونة من خمسة أجزاء لخمسة مستويات دراسية، فأصبحت المرجع الرسمي للتدريس بالمؤسسات التعليمية المغربية حتى الثمانينيات حيث تم الاستغناء عنها لصالح مراجع أخرى.
ورغم التوقف عن التدريس بهاته الكتب فإن قيمتها لازلت كبيرة في أوساط المغاربة والحنين لها جعل مغاربة ما بعد الاستقلال يشترونها مرة أخرى رغبة في الإحساس بنشوة صبيانية كلما طالعوا قصصها التي حفظوها عن ظهر قلب ويحسون معها بأنهم ما زالوا أطفالاً حتى وإن هرمت أجسادهم، والطلب على هاته الكتب لا يزال فإنها ما زالت تطبع إلى يومنا هذا، وآخر طبعة سنة 2011 والتي وزعت على نطاق واسع.
ويشهد التاريخ أن بوكماخ أثرى المكتبة المغربية بسلسلة كتب أصبحت نوسطالجيا أجيال عدة بمنهجية بسيطة وفعالة كانت تنقل التلميذ من أجواء الدراسة في المسيد، ويقول أحد تلاميذ جيل السبعينيات الذي درس بكتب أحمد بوكماخ أن كتبه تُمكّن التلميذ في نهاية السنة الخامسة من ضبط اللغة العربية والتحكم في قواعدها بعدما يكون قد انتقل بين الحرف والكلمة والقواعد اللغوية.
ووظف بوكماخ في كتبه لأول مرة في المغرب الصور والرسومات بكل أنواعها لدعم نصوصه وتسريع إيصال الأفكار للمتلقي وتحفيزه وإثارة انتباهه لتحقيق متعة بصرية وتشجيعه على القراءة، أما عنوان كتبه “اقرأ” فيظهر فيه ذلك الأمر الديني الذي حث بيه الله تعالى نبيه على التعلم والقراءة.
سلسلة “اقرأ” انطلقت من الواقع المغربي والمخيال الشعبي وعادت إليه بقالب فني تصويري يهز أوتار القلوب ويتغلغل داخل النفوس؛ لذلك أصغى إليها كل المغاربة ووجدوا فيها متنفساً ومنبعاً للعلوم والنهوض بالفكر.
بوكماخ الذي كان منعزلاً في حياته، كان مولعاً بالاعتكاف في مكتبته لإنتاج نصوص تجمع بين المتعة والتعلم، نصوص جعلت فيما بعد من الرجال والنساء أطفالاً دائمين ترتسم على وجوههم ابتسامة صبيانية وهم يتذكرون “سعاد في المكتبة” و”البطاطس والعصا” و”ما حك جلدك مثل ظفرك”.
رحل بوكماخ سنة 1993 في صمت تاركاً أجيالاً تربت على يده متحسرة على وضعية التعليم حالياً، فمن يا ترى يعلق جرس فرفر ويصلح تعليمنا؟
هامش: جرس فرفر قصة من قصص أحمد بوكماخ عن جرس يُعلق في عنق كل من تقلد المسؤولية حتى يتفانى كل واحد في الخدمة.
*المرجع: عربي بوست