باحث مغربي مقيم في مدينة أمستردام الهولندية
“إن قوة فلسفة ما تقاس بالمفاهيم التي تبدعها، أو بتلك التي تجدد في معانيها، والتي تفترض تقطيعا جديدا في نسيج الأشياء والممارسات”. جيل دولوز.
يجد الباحث في موضوع المفهوم صعوبة كبيرة، ومرد هذه الصعوبة قلة ندرة الأبحاث والدراسات العربية حول الموضوع من جهة، ومن جهة أخرى أهميته البالغة في الدرس المعرفي والفلسفي قديما وحديثا. إن البحث في المفهوم مغامرة تروم الكشف عن المستور والمستبطن من المحاكاة والتقليد للفكر العربي الحديث الذي ما برح يجتر مقولات غيره، فلا يحيد عنها قيد أنملة، تحت غطاء مسميات الاستعارة والتناص والكوننة أو الإستفادة من التراث الإنساني. فقد كفاهم هذا الآخر مضنة الكد والتعب والنظر المضني في إبداع وإنشاء مفاهيم خاصة بهم1.
المفهوم في دلالته ومعناه:
إن إشكالية تعريف المفهوم وإبراز دلالته ومعناه، تعتبر من القضايا العويصة جدا حتى في نطاق الأبحاث الفلسفية الحديثة، ذلك أنه وباستثناء التعريف المنطقي للمفهوم: التصور، كما تم تحديده من طرف أرسطو، فإن معناه الإجرائي والتقني، ظل يستعمل من طرف الباحثين والفلاسفة كأداة ضرورية وضمنية، دون أن يتم في المقابل الالتفات بشكل جدي إلى مكوناته وأجزائه الداخلية التي تلعب دورا أساسيا في عملية التعريف. فمرد أهمية المفاهيم تكمن في أن أي تواصل لغوي لا يتحقق إلا بواسطة المفاهيم، “إذ هي جوهر اللغة الطبيعية العادية ولب اللغة العلمية الاصطناعية، المفاهيم هي ما يجعل الإنسان يفرق بين شيء وشيء، وكائن وكائن، وكيان وكيان.. لكن المفاهيم محتاجة إلى نسق يضم بعضها إلى بعض لربط صلات وعلائق بين أثاث الكون، حتى يتحقق نوع من الانسجام والاتساق بين الأثاث بعضه ببعض وبينه وبين الإنسان”.
ولو قمنا بمتابعة الأسلوب أو الكيفية التي وضعت بها المعاجم الفلسفية تعريفها للمفهوم، فإننا سنلاحظ أن هناك اختلافا كبيرا وشططا واضحا في عملية التعريف.
فــ.. “أندري لالاند” لا يكاد يوضح لنا بشكل مقنع الفرق بين المفهوم والتصور، و “بول فولكيي” يقول: “إن المفهوم هو تمثيل ذهني ومجرد وعام.. وهو مرادف للفكرة العامة والمعنى المجرد، وبخلاف الفكرة التي تنتمي إلى اللغة العامة، فإن المفهوم لفظ تقني خاص بالفلسفة. لذلك فإن له معنى أكثر تحديدا، وهو أكثر موضوعية. ففي الوقت الذي يمكن أن تكون لي فكرة حول العدالة، فإن مفهوم العدالة مستقل عني وهو يعتبر خارجا عن ذ هني، في حين أن لكل واحد فكرته التي هي إلى حد ما ناصعة، لكن المفاهيم ليست شخصية. أما صاحب قاموس الكلمات الفلسفية، فيحصر عملية التعريف في جملة من الاستطرادات القليلة التحديد. فبالنسبة إليه فالاسم الإغريقي لكلمة فكرة كان يعني ما نراه حجما ظاهرا، وأفلاطون كان يستخدمها لتحديد أشكال مجردة.
بكلمة، إن تقديم تعريف جامع مانع للمفهوم تكون له ميزة التحديد والضبط الحاسم، أمر يكاد يكون في غير متناولنا على الأقل في الزمن الراهن، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار المستوى الذي وصلت إليه الأبحاث المنطقية والإبستمولوجية والفلسفية في هذا المجال، لكنه وبالرغم من الصعوبة التي تصادفنا عند محاولتنا، فإن القارىء للأدبيات التي اهتمت بهذا الموضوع، يجدها اعتنت بشروط امتلاك المفاهيم، وبكيفية تحديدها، وبأشكالها وأصنافها، ووظائفها، وخصائصها.
– شروط تكون المفهوم وخصائصه:
إن قواعد تكون المفهوم كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو”، مهما بلغت من عمومية وشمول، “هي وليدة عمليات قام بها أفراد، ثم أودعت التاريخ وترسبت في سمك العادات الجماعية، ليست تلك الخطاطة أو التوسيمة العارية لعمل كله غموض وإبهام، في غضونه برزت مفاهيم، عبر الأوهام والأحكام المسبقة والأخطاء والتقاليد، إذ يكشف الحقل قبل المفاهيمي عن انتظامات وإلزامات خطابية سمحت بإمكان عدد متباين من المفاهيم، وبسيل من الأفكار والمعتقدات والتمثلات التي ننساق نحوها طوعا، كلما أردنا التأريخ للأفكار”. من خلالها يتبين لنا مدى صعوبة وتعقد عملية تكون المفاهيم، إذ تعتبر محصلة جهود فكرية مضنية عبر صيرورة تاريخية، تنتظم وفقها جملة من الجهود الجبارة، محاولة التأسيس لصرح تفكير نظري، يمتلك من الأدوات والآليات ما يجعله مستقلا عن صروح المعرفة الأخرى. زيادة على ذلك فإن إنتاج المفهوم يظل مرتبطا بإنتاج المعرفة عموما، سواء تعلق الأمر بالعلوم الإنسانية أو بالعلوم الطبيعية.
يتساءل فيلسوف فرنسي آخر وهو “جيل دولوز” حول ماهية المفهوم، فيخلص إلى أنه لا وجود لمفهوم بسيط، فكل مفهوم يملك مكونات هائلة، ويكون محددا من خلال تلك المكونات. إنه تعددية، حتى وإن لم يكن تعددية مفهومية، وحتى أن المفهوم الأول الذي أسس الفلسفة كان يتوفر على مكونات كثيرة. هذا ما يجعل كل مفهوم يولد وينشأ في بيئة ومحيط غير منتظم، تحدده مكوناته. إذاً فالمفهوم كل مركب، هذا زيادة على أن لكل مفهوم تاريخا خاصا به، ويمر عبر جملة من المشكلات والرحلات مع مفاهيم، ليستوي في الأخير مفهوما قائما بذاته.
إن المفهوم بإختصار حسب “دولوز” تكوين لا تجانسي، أي إنه انتظام لعدد من مركباته وفق نواحي الجوار، إنه انتظامي عدديا، وقصدية حاضرة في كل الخطوط التركيبية التي تركبه. إنه بهذا المعنى بالضبط فعل الفكر ذلك لأن الفكر يعمل بسرعة لا متناهية.
ومن الخصائص الأخرى التي تتميز بها المفاهيم، هناك طابعها الجدلي الذي يجعلها تتوفر على القدرة على العيش والتمفصل في محيطها المعرفي غير بعيد عن بيئتها المعرفية. لذلك فإن الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار” يدعونا إلى الاحتراس من انعدام الطابع الجدلي للمفهوم، إذ يتوجب الحذر حسب رأيه من مفهوم لم نتمكن بعد من جعله مفهوما جدليا، وإن ما يمنع جدليته هو العبء المضاف إلى مضمونه، فهذا الانتقال يمنع المفهوم من أن يكون متحسسا، وبمرونة بكل تغايرات الشروط، التي يستمد منها وظائفه الصحيحة، والمؤكد أن المفهوم تعطى له معان كثيرة لأنه لم يفكر به أبدا بطريقة شكلية. ولكن إذا أعطى معان كثيرة، يخشى ألا يعطى المعنى نفسه. من هنا الاضطرابات الدلالية العميقة التي تحول دون الفهم المتبادل بين أهل زماننا.
إن عملية تكون المفاهيم والمعاني المجردة تخضع لجملة من المعطيات الذاتية والموضوعية، كما أنها متضمنة داخل نسيج قدرة الإنسان على إدراك وتمثل الأشياء والمعاني. فعملية إدراك المعاني المجردة أو تكوينها تحول المعروف إلى مجهول، أي إلى فكرة، نستطيع أن نجد في فكرة المعاني المجردة (فكرة الإنجاب أو الولادة) فكرة تكوين المفهوم، تلك التي لها مظهر أصيل وتمثل نموذجا لمجموعات وتجميعا لمواضيع جديدة، نستطيع من خلال ربطنا للمعاني الثلاث تحديد عملية إدراك المعاني المجردة، باعتبارها عملية توليد من طرف فكر بشري لشكل خارجي أصيل يكون وحدة منتظمة. وبما أن ثراء المفاهيم في مجال معرفي معين وندرتها أو شحتها في مجال آخر، قد يكون مختلفا عن الأول اختلافا جذريا، من حيث الطبيعة والأصل المعرفي، ومثل ذلك الإجراء وإن كان له ما يبرره من الناحية التطبيقية والعملية في كثير من الأحيان، خاصة فيما يتعلق بالدراسات الخاصة بالفلسفة والعلوم الإنسانية، فإنه يحمل من ناحية أخرى مخاطر ومزالق قد تؤدي إلى نسف العمل الإبداعي الفلسفي. فهناك خصوصية واضحة بل وأكيدة للمفاهيم المرتبطة بكل حقل معرفي ومجال تداولي معينين.
بناء على ما سلف، يمكن أن نخلص إلى الخلاصة التالية التي مفادها، أنه وجب التأكيد على أن دعوى إمكانية تبيئة المفاهيم، التي تنتمي إلى نظم معرفية ومجالات تداولية مخالفة من أجل استثمارها في نظام معرفي مختلف، بل ومضاد في كثير من الأحيان، ليست من الأمور المنهجية في شيء، ولا تخرج عن العمل الترقيعي التلفيقي.