لقد كان لكم في مصر الانقلاب أسوة سيئة.
لعل هذا ما ينطبق على الطبقة السياسية المغربية في الوقت الراهن، وقد حذت حذو أكثر الدول العربية تخلفا وجهلا على الإطلاق رغم الشنة والرنة التي تحاول أن تبدو بها وكأنها ما زالت في ذلك العهد الذي عرفت فيه على مستويات ثقافية وأدبية وفكرية وسطية، رغم أن المطّلع عن قرب على حالها يدرك جيدا أن طبقات الماكياج المحلي الصنع سرعان ما كانت تزول عن وجهها القبيح لتحل محلها طبقات وطبقات أخرى أكثر سُمكا وتشويها.
عُرف المماليك بشدة صراعهم على السلطة وظمئهم الشديد إليها مما جعلها لا تستتب لأحد منهم إلا تحت ظل سلطان من خارج مصر، فهم قوم رغم بأسهم الشديد بينهم فإنهم كانوا يستكينون لأي عصا تتنصب فوق رؤوسهم أو سيف، فإن استطاعوا إزاحتها عادوا لعاداتهم حتى يسلط عليهم سيف آخر. ولكي يتنفذوا في سلطتهم ويقهروا من هم تحت أيديهم كانوا يعمدون إلى الاستعانة بأراذل المجتمع وقاعه من المجرمين من القتلة واللصوص وقطاع الطرق والحشاشين وأهل الليل. كانت قوة هؤلاء تشكل قوة موازية ليد الدولة الضاربة من مخابرات “بصاصين” وشرطة وجيش، يتم استحضارها بشكلها المنظم عند اللزوم، ومتابعتها وتحجيمها بالاعتقال والسجن والسحل حين لا تصبح لها لازمة أو ضرورة استراتيجية، أو حين تستقوي أكثر من اللازم على أولياء نعمتها فيتم تقليم رؤوسها وإعادتها إلى حجمها الطبيعي والذي لا يجب أن تنسى نفسها أبدا فتتجاوزه.
المغرب بعد موجة الربيع العربي الأولى عرف سقوطا مدويا لمجموعة من الأقنعة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وتضاعف الفساد داخل معظم هياكل الدولة بل تم تشجيعه من خلال تطبيق مبدأ المحاسبة المغربي الصرف: “عفا الله عما سلف”، وبرزت مؤسسات هي بالأحرى شركات أو واجهات لأشخاص معينين تراكمت ثرواتهم بشكل مستفحل وغير شرعي، لم تنجح في كبح جماح تغولها لا مقاطعات شعبية ولا قوانين صادرة عن هيآت تشريعية رسمية ولا حتى قرارات من أعلى الهرم التنفيذي ولا رأسه، فلماذا تبقى مثل هذه الشخصيات عصية على المحاسبة القانونية، وتستمر في ممارسة شذوذها السياسي رغما عن الرأي العام المغربي الذي يرفضها ويرفض لونها السياسي والاقتصادي الممزوج به شعبيا!؟
قبل أن أتخصص في دراسة القانون وبالتحديد في مجال الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات المرتبطة دائما بتهريب الأموال، درست كمن درس موادا عامة منها الجغرافية، وما زلت أذكر أستاذ هذه المادة الذي كان يصر دائما مثل معظم أساتذة الجغرافيا أن الصناعة أشد مردودية من الفلاحة بالنسبة للدولة، رغم أن أمورا تغيرت في الاقتصاد العالمي فأصبح موقع إليكتروني واحد مثلا أكثر مردودية لصاحبه عن قطاع كامل كالفلاحة أو الصناعة أو التجارة، وفي ظرف قياسي جدا.
الفلاحة تعني الأرض وتعني النبات الذي يزرع فيها وتعني سقيه، وتعني أيضا نقل هذا المنتوج النباتي حين ينتج. في الأماكن الجبلية الوعرة يمكن نقله على ظهور الدواب، أما في المناطق السهلية فيمكن استعمال الشاحنات مثلا لنقله وتسويقه. فإذا زادت كمية إنتاجه عن الطلب الداخلي تم توجيهه نحو التصدير. طبعا قد تكون الملاحة الجوية أسرع لإيصاله إلى ضفة المتوسط الأخرى أو ضفة المحيط، لكن ما دامت الملاحة البحرية مرتبطة بنفس الوزارة التي يدخل النبات في دائرة اختصاصها فلا بأس من ترك زيتنا لدقيقنا و”لا زربة على صلاح”.
نبتة تُطير العقل وتخشخشه، نسقيها بماء أنهارنا (دائما في إطار تخصصنا المهني)، فإذا نضجت فلدينا أمم من الرعايا المستعدين لحصادها ودرسها وعجنها وتغليفها، ولا بأس من شم جزء ولو يسير منها أو سرقته لتهريبه لبعض فئات السوق المحلي في غفلة من أولي الأمر أو “تمياك” من طرفهم، ففي الأمر دائما مصلحة لهم ولو كانت تغييب شباب المغرب حتى لا يفكر مرة أخرى في استنساخ حركات احتجاج على الوضع، أي وضع كان!
تمر تلك النبتة عن قصد أو تهريب من ذاكرة شباب الشعب المسكين، فتجعل منها قاعا صفصفا وتجعل منهم زمرا من المجرمين والمشرملين المغيبين عن واقعهم، يحملون السيوف ويشحذونها ليوم الملحمة: الاعتداء على امرأة أو عجوز، أو من لا طاقة أو حيلة له في مواجهتهم. وفي زمن التواصل غير الاجتماعي تنقلهم من الفعل الفردي الإجرامي إلى المنظم، فتتحد المناطق والأحياء والمدن في شكل منظم جدا، يبدو للملاحظ العادي أنه مجرد تكتل غير منسجم، ويبدو للخبير أنه تنظيم ترعاه بعض رجالات الدولة والأحزاب ليوم ما، تعرف كيفية استعماله في المكان والزمان المحددين، ولغاية مشؤومة مكنونة في نفسها.
لا يمكن تصدير كميات كبيرة من النبتة إياها إلا عن طريق البحر لأسباب عدة أهمها ما يعرف بمنطقة البحر العالي التي لا تخضع لسيادة دولة بعينها! وحين يكون البحر هو أيضا ضمن عزبة أبينا فالأمر هين، وأهون من كل ذلك الوقود الذي يحرك محركات البحر، فهو ملك يميننا وفاتحة أمرنا، وبالتالي لا شيء يخرج عن سكة قطار أهل السكة والقطار منذ البذرة الأولى حتى تحويلها إلى مليارات الدولارات في بنوك خارجية وحسابات سرية.
يتكرر دائما نفس المشهد السياسي، والذي يتجلى في تصافح بل وتعانق و(ربما أكثر من العناق والله أعلم)، أمام الحاكم الفعلي للبلاد والذي ينصاع أمامه كل ذي حقيبة، فإن انقضى مجلس النفاق عاد كل واحد إلى حاشيته وأذرعه الكيدية ليلحق طعنة تحت الحزام بغريمه، والسابق بالطعن يكون الأشد حظا في الاستمرار في كرسيه حتى يأتي أمر الوالي برفع قدر هذا على ذاك أو العكس. فإذا ارتفع قدر أحدهم ارتفعت أسهم جيوشه الموازية واحتدت أكثر خناجر وسيوف قبائل بلطجيته والمشرملين التابعين له، وإذا انتكست رايته لزم ركن بيته، أو عاند بإطلاق جيوشه الإليكترونية لتتصدى لمعاركه الجديدة بتغريدات الفايسبوك وتويتر.
أرجو أن تكون استفدت من درس في كواليس السياسة المغربية.