ليس هذا مقالا الهدف منه هو جلد الذات أو ما يسمى فى علم النفس بالماسوشية أو (التلذذ بتعذيب النفس). لا أن الهدف الذى نرجوه من مقالنا هو تعرية الأوهام وكشف الحقائق التى يهرب منها معظم المثقفين ، وأيضا هو محاولة للتحررمن النرجسية الزائفة ، نرجسية عبادة الذات الثقافية والحضاريه وتفخيمها وتضخيمهاو تعظيمها حتى تصبح أحد التابوهات الكبرى.
إن هذا المقال هو بصورة أوبأخرى نقد للذات ومواجهة مع الهوية، وبدون نقد الذات لايمكن لنا أن نتقدم خطوة واحدة ، ولم تصل أوربا الى نهضتهاوحداثتها الا من خلال نقد الذات وانفتاح هويتها على الأخر وإذا كنانتحدث ليل نهار عن تجديد الخطاب الدينى ، فان هذا المشروع لايمكن أن يتحقق مالم يكن لدينا جرأة المواجهة وجسارة التحرر:المواجهةوالتصادم مع الأفكار السائدة التى أصبحت بفعل التكرار والتقادم مقدسة ، والتحرر من الخوف، من الوهم، من الماضى ، ومن التعلق الطفولى بالهوية0
ولكن ماذانعنى بثقافةالتكفير؟
هى صورة نمطية جامدة لبنية ثقافية تشكلت وتكونت وترسخت تاريخياً عبر تراكمات لأفكار وممارسات ترتبط أيديولوجياً بما يمكن أن نسميه بالأصوليات الدينية أو الأرثوذوكسية لعدد من كبار الفقهاء ورجال الدين من أمثال : الشافعى ، أحمد بن حنبل ، مالك بن أنس ، وأبى حنيفة النعمان ، والأشعرى ، والباقلانى ، والبخارى ، والشهرستانى ، والغزالى ، وابن تيمية، وابن كثير، وابن القيم الجوزيه ، وعشرات غيرهم 0
وقد تواصلت هذة الأرثوذوكسية السنية مع حركة محمد عبدالوهاب فى شبه جزيرة العرب وامتدت لتواصل تأثيرها على المعاصرين من أمثال أبى الأعلى المودودى وحسن البنا وسيد قطب وتابعيهم من الجماعات الجهادية والسلفية الحالية0
والغريب فى الأمر أن هذا الفكر الأصولى يستطيع التعايش بصورة مدهشة مع كافة التيارات الأستبدادية السياسية والفاشية0ولذلك فقدالتقت مصالح جماعات الإسلام السياسى مع الرأسمالية العالمية خاصة فى إنجلترا والمانيا وأمريكا تماما مثلما تجاوبت أيضا فى الداخل مع النظام الرأسمالى الطفيلى الذى أسسة أنور السادات 0ولم يجد مبارك أدنى مشكلة فى تقاسم السلطة مع الأخوان والسلفيين والتعايش معهم0 إن الأصولية الدينية والأنظمة الأستبدادية وجهان لعملة واحدة هى النظام الفاشستى0
إن ثقافة التكفير هى ثقافة التطرف الدينى ، وهى الثقافة التى تنتعش عقب الأزمات الأقتصادية والسياسية الكبرى مثلما حدث بعد هزيمة 67 ، وهى ثقافة هؤلاء الذين اصابتهم جرثومة التدين الشكلى وهوس التحريم0وعلى الرغم من أن البعض قد ينظر لهذه الثقافة بوصفها عرضاً للأبعاد الأقتصادية والأجتماعية إلا اننا نعتقد أن المسالة تجاوزت هذا الأمر ،ولم تعد مجرد ظاهرة بل أصبحت بنية ثقافية متماسكة تفرز التطرف والعنف بكافة مستوياتة اللفظية والرمزية والجسدية وتعيد انتاج جماعات تكفيرية وجهادية لديها المقدرة والكفاءة على اجتذاب عناصر غريبة عنها مثلما حدث مع تنظيم داعش الأصولى الأرهابى الذى استقطب الى صفوفة أعداداً من أبناء البورجوازية الأوربية من الرجال والنساء ، وهذا الأمرالأخير وحده يمثل ظاهرة خطيرة تحتاج لمزيد من الدراسات النفسية والتربوية والأجتماعية التى ربما تفسر هذه الظاهرة.
ترى ما الدافع الذى يجتذب هؤلاء لمثل هذة الحياة الخشنة ؟ هل هو البحث عن المال، عن الجنس ، عن تجربة لامعقولة، عن دراما جديدة ،هل هو البحث الحنين إلى الطبيعة، هل هو استجابة لدافع الموت بلغة فرويد؟
على أية حال فإن ثقافة التكفير هى ثقافة غيبية ماضوية، أحادية ، قمعية، إرهابية ،نصية، تحريمية ، أنغلاقية ، نرجسية ، فاشية ، تقديسية ، سكونية ذكورية ، قبلية ، رعوية000الخ0
بعبارة أخرى ثقافة التكفير ثقافة تميل إلى الخرافة وتكره العلم ولاتعترف بالعقل ،تقدس الماضى ولا تشغل بالها بالمستقبل ، تكره الحرية وتهرب منها وتعشق فقط حرية العبودية أو العبودية المختارة ، ثقافة المونولوج0 لأنها لاتؤمن بالحوار ولا تعترف بالأختلاف ولا بحق الآخر فى التعايش أو الوجود. فى هذه الثقافة تمتد مساحة التحريمات والمقدسات لتشمل كل شيئ فى حياه الفرد :ملابسه ، مأكله، مشربه، غرائزه، مشاعره، عقله، جسده، كل شيئ فى حياة الأنسان بدءاً من تفاصيل الحياه اليومية وحتى الموت ومابعد الموت 0وثقافة التكفير تنظر الى المرأة على أنها متعة ونقمة، ولذلك ترتبط المرأة فى هذا التراث بالغواية والطابع الشيطانى. أخيراً فان هذة الثقافة تعمل بكل ما تمتلك من أدوات هيمنة وسيطرة وقمع على أسطرة ( إضفاء البعد الأسطورى) التاريخ والماضى والأحداث والحروب والغزوات والشخصيات0 وبالتالى يتم اسقاط قداسة الإله على التاريخ وتصبح أحداث هذا التاريخ بكل أفراحه وأتراحه وبكل مآثره وخطاياه عالما مقدسا لا ينبغى الاقتراب منه أو المساس به لا بالنقد ولا بالتاويل ولا بالتفسير ولا بالتصوير أو المعالجة الفنية. وعلى ذلك فلا يجب التجرؤ على نقد الأنبياء أو الصحابة أو الفقهاء و يحرم تصويرهم أو التعبير عنهم بصورة درامية أو إبداعية. والكارثة الكبرى إن مفرادات و مسلمات هذه الثقافة التحريمية التكفيرية لم تعد قاصرة على أعضاء و جماعات الأسلام السياسى بل اتسعت لتستوعب قطاعاً عريضاً من الرجال والنساء و الصغار و الكبار و المثقفين و غير المثقفين ، ومن رجال المال و الأعمال ومن رموز الصحافة والأعلام و خاصة نجوم الفضائيات الذين يمارسون علينا لعبة التمثيل والخداع و التملق ، ومعظمهم تشرب هذه الثقافة وتأثرها بها، بل و أدمنها منذ عشرات السنين . وبهذه المناسبة كنت أشاهد منذ عدة أيام برنامجاً تليفزيونياً لأحد مشاهير مذيعى الفضائيات، وكان موضوع الحلقة حول (حجاب المرأه) و كالعادة استضاف المذيع فريقين: فريق مناصر للحجاب ، و فريق مناهض له. وكان الصحفى والمذيع اللامع بقلبه و لسانه و وجدانه مع أصحاب الفريق الأول ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أنه أستهل الحلقة بوصلة من النقد القاسى ضد “شريف الشوباشى” الذى دعا النساء لخلع حجابهن إن كن قد أرتدينه رغما عن إرادتهن ، ووصفه بأنه يدعو للفتن و يهدم أحد ثوابت الدين. ومع ذلك حاول المذيع أن يوظف مهاراته الإعلامية من أجل أن يوهمنا بأنه من مناصرى حرية المرأه ، لا بأس، و لكن فجأه و أنا أتابع هذا الملل ، وهذه اللعبة السمجة قفذت إلى ذهنى فجأه صورة هذا المذيع مدعى الاستنارة وهو يقبل فى خشوع و نشوة يد الشيخ القرضاوى!! عموما لن أكون قاسيا على الرجل لأن عشرات غيره و ربما مئات و ألوف من مشاهير الإعلاميين و الفنانيين و الشخصيات العامة قد قاموا من قبل بمثل هذا العمل الجليل. و ها هم الآن يتصدون المشهد بوصفهم من صنعوا ثورتين و أنهم أصحاب الفضل فى خلع الأخوان. رغم أن هؤلاء و غيرهم قد صفقوا يوما لمجئ الأخوان و ارتدوا وقتها الأقنعة الأسلامية و قبلوا عشرات الأيادى و الأحذية ، لكنهم بعد سقوط الأخوان سارعوا بالتخلص من وجوههم القديمة و أرتدوا أقنعة جديدة تجمع بين الأسلام الوسطى و بين ما يسمونه بالدولة المدنية خوفا من كلمة العلمانية. إنه على أية حال قناع مطاطى يصلح لكل المناسبات و يلائم أى تغيرات غير متوقعة .
إن هذا الأعلام الساقط هو خير مروج لثقافة التكفير و التحريم ، و هو أكبر عقبة فى طريق تجديد الخطاب الدينى تلك الدعوة التى يجب أن يلتف حولها جميع المثقفين الشرفاء. و بالطبع لا يمكن تجديد الخطاب الدينى فى ظل هيمنة هذه الثقافة التى أستشرت فى الأعلام و الصحافة وفى المدارس والجامعات تلك المؤسسات التى تحتاج إلى نضال طويل من أجل تطهيرها من هذه الثقافة.
وفى هذا السياق راعنى أن أجد خبرا غريبا يتصدر الصفحة الأولى فى جريدة “الوطن” 20 أبريل 2015 بعنوان “انفراد: ملحدون يأسسون الحزب العلمانى المصرى” وعندما قرأت تفاصيل الخبر إزدادت دهشتى إذ وجدته يساوى بين الإلحاد والعلمانية. وهناك فارق شاسع فيما بينهما : الإلحاد موقف فردى منكر للعقيدة وللربوبية. أما العلمانية فهى تيار سياسى يقوم على الفصل بين الدين والسياسة، ولا يكون بالضرورة إلحاديا. والعلمانية كما عرفتها أوروبا خلال مرحلة طويلة وشاقة من النضال السياسى ضد هيمنة رجال الدين تؤمن بالفصل بين الشأن السياسى و الشأن الدينى ، وتؤمن بالمقولة القائلة أعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر. وبهذا المعنى ليست العلمانية كفراً كما يصورها البلهاء لدينا ، ولا تعنى مطلقا إنكار الألوهية ولكنها فقط بمثابة تحديد و تحييد للحدود الفاصلة بين المقدس والدنيوى. ثم ليسمح لى قارئى العزيز أن نسأل ألسنا فى دولة شبه علمانية تحكمها القانون الوضعى ولها دستورها الذى يستمد مشروعيته من الشعب، وسوف يكون له فى القريب العاجل برلمانها المنتخب ، والأنسان المصرى له حق المواطنة، والدولة تستمد مشروعيتها من الشعب وليس من أى سلطة مقدسة، و حتى الأزهر برغم كافة السلطات المخولة له ليس له حق الوصاية على السلطات الثلاث : التنفيذية و التشريعية والقضائية.
أن الاعلام المصرى المصاب بكل أمراض البلاهة والتخلف، والغارق فى غيبوية الخرافة والجهل يصور للعالم أن مصر قد امتلأت بالملحدين وبالعاهرات وبالمثليين، وكأن منظومة القيم والأخلاقيات قد أنهارت فى هذا البلد العظيم. وأنا لا أرى فى هذا التركيز الخبيث على هذه المشاهد المشوهة والملوثة سوى محاولة يائسة لزعزعة استقرار مصر وتصوير الأمر وكأننا نحيا بلا نوازع دينية أو أخلاقية ويصبح الحل فى العودة مرة أخرى إلى وصاية رجال الدين وإلى شعار الإخوان الشهير “الإسلام هو الحل”. وواقع الأمر أن بعض الصيحات التى تدعو للإلحاد وحرية الشواذ قد أزدادت كرد فعل لوصول الإخوان والسلفيين للسلطة، وهذه الصيحات ليست سوى أصوات فردية لا قيمة لها فى دولة عريقة مثل مصر، وهى لا تشكل خطراً لأنها تعبر عن موقف أقرب إلى موقف التمرد الذى يميز عالم المراهقين، وهى فى مجملها لا تمثل تياراً أو حتى موجة فكرية. أما العلمانية فليست إلحاداً أو كفراً، وإلا كانت كافة الدولة فى كل بقاع العالم – فيما عدا الدول ذات الأنظمة الدينية- دولاً كافرة!
إن مقدمة تجديد الخطاب الدينى، يجب أن تبدأ من هنا من التحرر من هذه الثقافة التكفيرية التى تساوى بين العلمانية و الإلحاد ، و التى تتعامل مع الديمقراطية بوصفها بدعة صليبية ، و التى تنظر إلى الأشتراكية بوصفها هدماً للمقدسات ، والتى تتعامل مع الحداثة بوصفها بدعة، و التى تنظر إلى المرأه بوصفها عورة يجب سترها و إخفاءها و التى تحيل تراثنا و تاريخنا الأنسانى إلى تاريخ أسطورى أو ميتا تاريخ.
إن الخطر الذى يهددنا اليوم ليس فقط عودة الأخوان أو صعود الجماعات السلفية إلى السلطة ، و لكن الخطر الأكبر يكمن فى هؤلاء من أشباه و أنصاف المثقفين و المزيفين الذين يضعون السم فى العسل و يضللون تلك الجماهير الصامتة الطيبة التى يمكن بسهولة أن تكون رصيدا إحتياطيا لأى جماعات دينية إرهابية فاشية مقبلة.