أود أن أنبه بداية على أن النقد في الأساس هو تحليل، تحليل للكلم المنطوق أو المكتوب أو للسلوك بكل ألوانه حتى وإن كان مجرد حركات تعبيرية، فالإنسان بالذات من بين المخلوقات كلها مهما كان بسيطا يصدر في كل ذلك عن وعي سواء كان سطحيا ضحلا أو عميقا ثرا، لذا ليس من الضروري أن يكون من يقوم بالتحليل النقدي باحثا عن العيوب أو المزالق أو نقاط الضعف والخلل، بل إن عمله في كثير من الأحيان يبدأ بالحفر ما دون أصول وجذور النص أو السلوك بحثا في مرجعيات الحدث والمكان والزمان الذي احتضنه والذات التي انشأته، وعن أي من تلك الأسس كان البناء. بهذا التحليل النقدي تتضح لنا متانة العمل أو هزاله دون التصريح المباشر الفج بالمثالب والتقاطها كما يلتقط الطائر حبات الحنطة وهو يتطلع حوله.
هنا في هذه الحلقة المتميزة نواجه أديبين متمكنين في وجهيّ الإبداع: التأليف والتحليل النقدي معا. مارسا العملية النقدية التحليلية من خلال أعمالهما الأدبية ذاتها ومن خلال النقد المباشر. فالإعلامي الأديب أحمد حضراوي قد مارس النقد وهو يؤلف قصائده ورواياته العديدة، ومارسه من على منصة برنامجه “الديوان” وهو يوجه أسئلته إلى ضيوفه. والشاعر والروائي “إدريس اليزيدي” -رحمه الله- مارس النقد من خلال روايته -الملاذ- موضوع نقاش الحلقة كما مارسه في ردوده على أسئلة مضيفه.
إذاً فالإبداع في هذه الحلقة وصل إلى أفق ممتد وغور عميق. فقد تجلى الوعي النقدي عند الضيف إذ أدرك قيمة تجاوز الانبهار والصدمة بالغرب فانتقد المجتمع الغربي على لسان أبنائه ذاتهم وليس على لسانه هو، استل ذاك الخيط من دواخلهم بكل صدق وعفوية وعرضه كما هو. كما لم يقم بنشر غسيل بني قومه على الملأ وإنما قدّم مقارنة معقولة وحقيقية بين واقع وواقع. واقع جاء منه يضم الكثير من المتناقضات ومظاهر التخلف واهتزاز بعض القيم، ومجتمع فيه ما فيه أيضا من قوة وضعف.
ذاك التحليل النقدي الذي تجلى في روايته جعله يتجاوز المبالغة في الحنين المدمر للذات كما جعله يحتفظ بشيء منه إذ لا بد هنا في حالة المهاجر الواعي من انتماءين يكملان بعضهما البعض كي تتخلص الذات من صراع لا مبرر له، انتماء هادئ مثمر.
كما توضح الحس النقدي لدى الشاعر والروائي “اليزيدي” بل لنقل تجلى وهو يقدم لنا خلاصة دراساته لعديد من الروايات التي تمكن أصحابها من عكس الصورة على الوجه الآخر الذي قد يغيب عن دارس واقعي بحت. فأحينا يكون المخيال والمعايشة والمطالعة والاطلاع على تجارب الغير بؤرة إبداع المستحيل من رحم الممكن. فرواية “حسن أوريد” “المورسكي”، ورواية “سعود السنوسي” ساق البامو، لهما خير دليل على ذلك. نعم لا بد من معايشة المكان والكينونة في المكان ومعاناة الأحداث، لكن كل ذلك ممكن إن عايشها مبدع فائق الحساسية بخياله ومشاعره.
كل ما سبق يؤكد لنا أن التحليل النقدي لا يقتصر على الأبحاث الأكاديمية أو دراسة النصوص والآثار الفكرية والأدبية، بل يمكن أيضا أن نجعله يرتدي أثوابا جمالية هي الخاطرة والقصيدة والقصة والرواية وحتى المستملحة أو الطرفة، وإن كان هذا النقد الأكاديمي يمد المبدع بالأدوات والوعي الفائق العميق.
هذه الدقة التي اكتسبها “اليزيدي” من نقديته جعلت المفردات تأتي دقيقة الاختيار فالمهاجر غير اللاجئ، الأول يغادر بسبب ظروف قاهرة لكنها لا تحمل عذابات الحروب أو قسوة الطبيعة أو تسلط الحكام كما في حالات اللاجئ الهارب خوفا على حياته ومصيره كإنسان ذا كينونة. فالمبدع هنا غير المبدع هناك، وتفاعل هذا مع الواقع الجديد غير تفاعل ذاك، وحتى الحنين يختلف ما بين حنين وشوق كحنينه للأم الوالدة أو حنين يختلط بالألم والأسى وتذكر العذابات، وأحيانا شيئا من غصة ونقمة قد لا يمحوها كرّ الأيام.
مما سبق يتبين لنا مدى وعي هذا الروائي النقدي ذا القيم التي تنبع من ذاتيته التي تشكلت في موطنه الأصلي فجاء وهو يدرك قيمة قيمه التي تأسس عليها وجدانه، فلم يذب لا هو ولا روايته ببعض القيم السلبة في عالمه الجديد، بل عاش توازنا حافظ على هذا التكوين أساسي وإن طوره بصور إيجابية من خلال شخوص روايته. وبهذا يظهر لنا مدى تمكنه من هويته الأصلية والإشادة بها بل والتمسك لا كمظهر يتجمل به بل ليعايشه.
قد تبدت لنا هذه المعايشة من خلال صدقه وواقعته التي لم تنحرف عن الإنصاف لغيره وحكم الحياد في ذاته، وعدم التعظيم لإنجازاته، بل تحدث عنها بكل بساطة المبدع الحقيقي الذي لا يرى أي تميز له عن سواه سوى بما يقدم من خدمة للفكر والثقافة. صدقه وبساطته أيضا في موقفه من المرأة في روايته في عصر ما عادت المرأة فيه ذاك المتخيل المشتهى الصعب المنال في عالمنا العربي بسبب تغير الكثير من القيم والسلوكيات وانحرافها بعض الشيء عن النهج عما يجب أن يكون.
ولا يفوتنا التعليق على جزئية تحوله من الشعر إلى الرواية إذ وضح أنه إنما كان وبكل بساطة تحول إلى السائد والشائع من أجناس الأدب. وأن الأدب يكون مهجريا بسبب الإقامة في المهجر وتفاعلات هذه الكينونة المبدعة مع واقع جديد يعانيه بحق. وأن الكتابة بالعربية نوع من التمسك بالهوية وبمكوناتها الحقيقية، فمن يهاجر يهاجر وهو يحمل مكنوناته كلها، هويته وطبيعة هذه الهوية ووجدانياتها وكل ما يشكل ذاتيتها في المكان والزمان.
نعم “أحمد حضراوي” “إدريس اليزيدي” كان يغرف من آبار معرفية غزيرة وليس بئرا واحدة، آبار اللغة، لغة القرآن، والبديع، وكل جمالياتها، كما الأدب بعامة والفكر الإنساني في محالات عديدة وواقع عايشه بكل كيانه الإنساني الجميل المقبل على الحياة.
إنسان واقعي، صريح، صادق، جميل. هذا من رأيته يتحدث أمامي على شاشة “التاب” ملكي، وكم تمنيت لو أن هذا التعليق دوّن في حياته لكن عزائي أنه كتب لروح إنسان هو “إدريس اليزيدي”، رحمه الله وأفسح له في جنات عدن.
كثير مما كان من الممكن الحديث عنه هنا، ولكنني اكتفيت بهذا.