واقع المدن المنجمية في المغرب : من أجل بديل اقتصادي وتدبير سياسي هادف بالمركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية والفلسفية بباريس

0
1271

في إطار أنشطته الهادفة لسنة 2018م، نظم المركز العالمي للدراسات العربية والبحوث التاريخية والفلسفية بباريس، تحت إشراف مدير المركز السيد يحيى الشيخ، وباقي أعضاء المكتب (السيد إدريس الكزار والسيدة نادية حايدة والسيدة ربيعة المنوني)، محاضرة قيّمة بعنوان « واقع المدن المنجمية في المغرب : من أجل بديل اقتصادي وتدبير سياسي هادف»، يوم الجمعة 19 يناير 2018م، ألقاها الكاتب والصحفي اسيعلي أعراب، المدير السابق للمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، ابن جرادة والخبير بتاريخ ومناجم الفحم بالمدينة. حضرها إعلاميون ونشطاء سياسيون وجمعويون من فرنسا والمغرب والجزائر وتونس وموريطانيا.
لقد تمّت برمجة هذا النشاط بعد زيارة قام بها بعض أعضاء المركز لمدينة جرادة يوم 27 دجنبر المنصرم ومشاركتهم بوجدة في وقفة تضامنية مع المدينة المنكوبة يوم 28 من نفس الشهر، ووقفة أخرى بساحة الجمهورية بباريس بتاريخ 15 يناير من السنة الجارية، إيمانًا منهم بعدالة مطالب مغاربة المدن المهمشة والأحياء المنسية.
في بداية مداخلته، أشار اسيعلي أعراب إلى أن واقع المدن المنجمية بالمغرب واحد، ولكن لكل منها خصوصياته، لهذا فقد صبّ اهتمامه على مدينة جرادة التي تربطه بها علاقة حميمية لكونها مسقط رأسه. فالظرفية العصيبة التي تمر بها المدينة اليوم فرضت عليه التطرق إليها بحكم مهنته كصحفي سبق له أن عالج المسألة المنجمية في هذه المدينة وما ترتب عنها من مشاكل اجتماعية بعد إغلاقها، كما شارك في وحدة الماجستير حول الموضوع نفسه، والتي كان يشرف عليها الدكتور عبد الله الساعف. وقد تمحورت محاضرة اسيعلي أعراب حول ثلاثة محاور نلخصها فيما يلي :
1 ــ المسألة المنجمية في المغرب وبداية استغلال مفاحم جرادة :
إن المسألة المنجمية في المغرب مسألة «كولونيالية»، بدأ الاهتمام بها قبل احتلال المغرب، خاصة وأن فرنسا استقرت في الجزائر منذ سنة 1830م.
لقد واكب التهافت على الأراضي الفلاحية بشرق المغرب الاهتمام بالمناجم، خاصة فحم جرادة ــ منذ عهد ما قبل الحماية ــ نظرًا لأهميتة في بناء اقتصاد أوربا فيما بين الحربين العالميتين. كانت جرادة آنذاك حوضًا منجميا مهمًّا بالنسبة لفرنسا، ممّا جعلها ــ على مر السنين ــ نموذجًا تكنولوجيًا ونقابيًا، بل واجتماعيًا وثقافيًا وإيديولوجيًا. ولكن كيف تمّ التعامل فيما بعد مع هذا الموروث أو النموذج الكولونيالي ؟
إن حكومات ما بعد الاستقلال، كحكومة عبد الله إبراهيم، كانت كلها تشيد بجرادة كنموذج للتدبير الاقتصادي الجاد كلما تعلق الأمر بالاقتصاد والمسألة المنجمية في المغرب. ومع ذلك لم تتعامل الحكومات المتعاقبة مع هذه القضية بجدية فتراجعت بكثير عما كان عليه الأمر إبان الاستعمار إذ عدنا إلى استخدام وسائل شبيهة بتلك التي كانت تستعمل في العصور الوسطى، فتعددت تراجعاتنا : تراجع تكنولوجي من حيث الاستغلال، تدهور اجتماعي وانتكاس ثقافي.
من الناحية التاريخية، نشير إلى أن المستعمر شرع في إرساء لبنات الاستغلال المنجمي بالمدينة سنة 1928م ليباشر استخراج الفحم سنة 1931م، وظل الأمر على هذه الحالة إلى أن أُغلقت المناجم عام 2001م. ظل العمل في فحم جرادة أهم نشاط عُمالي بالمغرب الشرقي طيلة سبعين سنة، إذ كان يشغل كل سنة حوالي ستة آلاف عامل، يستفيد منهم سبعون ألف شخص من ذوي عائلاتهم، بل والمنطقة بكاملها بصفة غير مباشرة، كما كانت تشغل 33 جنسية. وبجرادة تمّ إنشاء مركب حراري سنة 1971م بعد اتفاقية بين الرئيس الروسي ليونيد بريجنيف والحسن الثاني ملك المغرب، والتي كانت تنتج ثلث كهرباء المغرب.
2ــ ظروف إغلاق منجم جرادة :
لقد تمّ الاتفاق على إعطاء 200 ألف درهم لكل عامل أي ما يعادل 20 ألف أورو كتعويض نهائي وتمّ تشكيل لجنة لإدماج العمال عبر خلق أنشطة بديلة.
ولكن ما هي الأسباب الحقيقية لإغلاق مفاحم جرادة ؟
أ ــ الأسباب الحقيقية :
حسب المسؤولين، إن قرار إغلاق منجم جرادة يرجع إلى نفاذ الفحم وقلة مردوديته وأضراره الصحية الخبيثة، ولكن هناك سببًا آخر لا يعرفه إلا القليل. لقد لفق أحد مديري المنجم جملة من الأكاذيب، منها تحديث وسائل الاستغلال، ليحصل على قروض من البنك الدولي، فوقعت اختلاسات وتلاعبات مالية، مما عجّل وتيرة الإفلاس. أضف إلى ذلك التدبير اللامسؤول للمنجم؛ فقد تمّ مثلاً حفر بئر يصل قعرها إلى 1200 متر من طرف شركة ألمانية أوكلته إلى صينيين، ولم يتمّ أبدًا استغلالها. أمام هذه الوضعية المزرية، اضطرت النقابات سنة 1998م إلى قبول توقيع اتفاقيات لإغلاق المنجم ووضع برنامج لتعويض العمال.
ب ــ سنوات « الساندرية» :
لقد تقرر في عهد السيد بنهيمة، مدير المكتب الوطني للطاقة والمعادن آنذاك، الاستغناء عن فحم جرادة واستيراد حاجيات المغرب من هذه المادة من دول خارجية كبولونيا باعتباره أقل تكلفة، دون أي تفكير في إيجاد حل لوضعية العمال وعائلاتهم ودونما تصور لما سيترتب عن تسريحهم من مآسي اجتماعية. أمام غياب أنشطة بديلة، حاول كل منهم أن يجد لنفسه ولعائلته مخرجًا، فالبعض منهم هاجر إلى مدن مغربية أخرى، والبعض الآخر هاجر للعمل في أوربا. لكن الأزمة التي ضربت بعض الدول الأوربية ابتداءً من سنة 2008م، كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، جعلت الكثير منهم يتخلى عن الهجرة ويزج بروحه في غياهب « الساندريات» لاستخراج الفحم بصفة غير قانونية وبدون أية وقاية، ويبيعه لتجّار وسطاء من ذوي النفوذ في المنطقة. أما كلمة « الساندرية» الدالة على نشاط العمال في محنة الحفر بحثًا عن الفحم، فهي تعريب للكلمة الفرنسية Descendrerie» » التي تعني البئر المنحنية المؤدية إلى المنجم.
لا أحد يجادل في أن استغلال المناجم بصفة عامة كارثة بيئية وثورة على الطبيعة، ولكنها في الوقت نفسه مصدر للرزق لآلاف العائلات التي شاء لها القدر أن تتواجد في مناطق تنعدم فيها سبل التنمية. والعمل في منجم جرادة عمل شاق وقاتل لأن «السيليكوز» الناتج عن استنشاق غبار الفحم مرض عضال يعجّل برحيل العامل قبل أوانه. فرغم مرور عشرين سنة على إغلاق المنجم، فلا زال العمال اليوم يعانون من صعوبات في التنفس ويموتون الواحد تلو الآخر في سنّ مبكرة، مفتقرين إلى وسائل العلاج، وإلى أجهزة التنفس الباهظة الثمن.
3 ــ إلى أين نسير اليوم ؟
إن العمل في المناجم يُعلّم الإنسان كيف يطالب بحقوقه، بل وكيف يدافع عنها. وقد ساهم عمال جرادة في تنوير الفكر العمالي المغربي ذلك أن إضراب ستة آلاف عامل دفعة واحدة ليس بالأمر الهين. لقد قُبر كل هذا كأنّ شيئًا لم يكن، فطُمست معالم تاريخ نضالي عريق حينما تم اتخاذ قرار إغلاق المنجم. يمكننا القول بأن جرادة كانت مختبرًا للعمل النقابي الواعي والجاد بالمغرب، هذا العمل الذي استفادت منه مناجم أخرى في شتى نواحي التراب الوطني.
رسميًا، إن منجم جرادة مغلق منذ سنة 1998م، ومع ذلك فما زال يُستغلّ بشكل سرّي من طرف بعض الأطراف المتسلّطة، وعلى رأسها أحد برلمانيّي المنطقة. هذا يعني أن الممثلين الرسميين هم المستغلون الحقيقيون لأبناء الشعب المعوزين. وما حراك جرادة اليوم إلا صرخة غضب لشجب هذه التجاوزات أملًا في إيجاد أذان صاغية لإنعاش المدينة وإخراجها من عزلتها ومأساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. غير أنه لمن باب الوهم الإيمان بقدرة الدولة على إيجاد مخرج للأزمة عن طريق خلق فرص شاملة للشغل، فهذه مهمة المستثمرين. أضف إلى ذلك أننا اليوم أمام حكومة هي الأضعف في تاريخ المغرب، مما سيجعل الحوار مستعصيًا إن لم أقل متعذرًا. لست متفائلًا، رغم أن لنا نماذج وتجارب قيمة لمدن منجمية عبر العالم نجحت دولها في إدماج عمالها عن طريق أنشطة بديلة أنقذت آلاف العائلات من الضياع.
وأخيرًا، إذا لم تفكر الحكومة في إيجاد حل لمحنة مدينة جرادة التي بدأت حراكها في الثامن عشر من الشهر الماضي، وفي حل مشاكل جاراتها كسيدي بوبكر وتويسنت وبوعرفة وغيرها، بل وباقي المدن المنجمية المغربية التي تعرف نفس المصير، فإن الارتجاجات الاجتماعية ستطالُها جميعًا فتصعب معالجتها في وقت تتصاعد فيه وتيرة الأزمات.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here